التغيرات في المنطقة والصراع مع الصهاينة
شهدت المنطقة خلال الثلاثة أشهر الأخيرة، تحولات دراماتيكية، لم تشهدها في تاريخها المعاصر. كانت البداية في تونس ومصر، وما تمخض عن الثورتين من تنحلي رؤساء البلدين عن السلطة، وقد تبعت ذلك تحولات كبرى، تقترب من الحسم في عدد آخر من الأقطار العربية.
هذا الحديث ليس معنيا بهذه التحولات، إلا بقدر علاقتها بمستقبل الصراع العربي مع الصهاينة. ولعل أول ملاحظة تواجهنا، هي الغياب شبه التام لشعارات العروبية، عن مجمل الانتفاضات التي شهدتها المنطقة. وربما يرد ذلك لغياب البرنامج السياسي للقوى التي بادرت لاشعال تلك الانتفاضات، وأيضا بسبب غياب الوحدة الفكرية للحركات السياسية التي ارتبطت بها لاحقا.
لقد شغل المواطن العربي بالأحداث التي تداعت، وتسمرت الوجوه أمام أجهزة التلفزة، لمتابعة ما يجري، وغاب السؤال الجوهري، الذي ينبغي أن يكون حاضرا. ما هي تداعيات ما يجري على الأمن القومي العربي، وعلى الصراع مع الصهاينة. إن طرح هذا السؤال ليس ترفا فكريا أو رياضة ذهنية، بل ربما تحسم الإجابة عليه، من قبل المعنيين بصنع القرار العربي، مصير الوجود العربي بأسره.
ربما يشكك البعض في علاقة ذلك بما يجري في تونس، لكن من الصعب انسحاب ذلك على الحالة المصرية. فقد قادت فمصر الصراع مع الصهاينة، منذ تأسيس إسرائيل، وخاضت أربعة حروب دفاعا عن الكرامة والوجود العربييين. ومنذ منتصف السبعينيات اتجهت نحو إيجاد حل سلمي لاستعادة شبه جزيرة سيناء، وتمكنت عبر اتفاقية كامب ديفيد من تحقيق ذلك. لكن مصر، ارتهنت مقابل ذلك، جزءا كبيرا من سيادتها، ومن حريتها على الحركة. وتقدمت في عملية التطبيع السياسي والاقتصادي والأمني مع الكيان الغاصب. وطيلة الثلاثة عقود المنصرمة، غلبت القيادة المصرية علاقاتها مع إسرائيل، على مجمل الاتفاقيات التي وقعتها مع أشقائها العرب، بما في ذلك ميثاق جامعة الدول العربية ومعاهدة الدفاع العربي المشترك، وميثاق الأمن القومي العربي الجماعي، واتفاقيات أخرى كثيرة، عقدتها مع البلدان العربية، في إطار العمل الجماعي.
في الثلاثة عقود، وفي غياب مصر عن دائرة الصراع مع الصهاينة، مارست اسرائيل عربدة غير مسبوقة، وامتذت أرعها لتصل إلى بغداد شرقا وتونس غربا، وأن توسع من مظلتها العسكرية، لتصل باكستان شرقا، والمحيط غربا، وتركيا شمالا إلى أوغندة جنوبا. أما مصر، فقد اقتصر دورها، في ألأحسن الأحوال، على لعب دور الوسيط بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وهو دور لا يقارن بأي حال، بالدور الذي لعبه الوسيط الأمريكي بين العرب والإسرائيليين، والذي انتج حتى هذه اللحظة ثلاث اتفاقيات هي: اتفاقيد كامب ديفيد وأوسلو ووادي عربة.
قبل عامين من هذا التاريخ، أشرنا إلى أن التطورات التي تجري بالمنطقة تشي بأن مشهدا سياسيا جديدا، في طريقه لأخذ مكانه، وأن أبرز معالمه اندلاع حرب على ضفاف البحر الأبيض المتوسط، بهدف ضرب الترسانة العسكرية السورية، كمقدمة للدخول في مفاوضات مع القيادة السورية، بعد نزع أهم ورقة تملكها، والقضاء على حزب الله اللبناني، بهدف تحقيق سيطرة الجيش اللبناني على كامل الأراضي اللبنانية، والدخول لاحقا في مفاوضات مع الحكومة بهدف ربطها بمشروع الشرق الأوسط الجديد, وأشرنا أيضا إلى أن السيناريو يشمل أيضا، الإضعاف العسكري المستمر لحركة حماس، وإحكام السيطرة على قطاع غزة، والحيلولة دون عودة الوحدة بين الضفة والقطاع. وقد قدمنا في حينه قراءة تحليلية للأسباب والدوافع التي تجعلنا نعتقد يحتمية اندلاع الحرب، على ضفاف البحر الأبض المتوسط. ولن نعيد تكرار ذكرها في سياق هذا الحديث.
ما جرى خلال الثلاثة أشهر الأخيرة، من أحداث عاصفة، فاجأت الجميع، سيعيد صياغة التكتيكات والاستراتيجيات، من قبل الصهاينة، على ضوء ما هو مستجد في المنطقة. ولعل ما حدث خلال الأسابيع والأيام الأخيرة، يقدم لنا بعضا من المفاتيح لقراءة السلوك الإسرائيلي في المرحلة القادمة.
فمن جهة، هناك التعنت الإسرائيلي والإصرار على المضي قدما بالتوسع في بناء المستوطنات بالضفة، وهو أمر أكدت إدارة الرئيس الأمريكي أوباما انحيازها الكامل تجاهه، باستخدامها حق النقض في مجلس الأمن للحيلولة دون صدور قرار يدين الممارسات الإسرائيلية. وهناك أيضا، التهديد باجتياح شامل للضفة الغربية، وإضعاف سلطة “أبومازن”، وحديث عن عدم أهلية السلطة لاستكمال المفاوضات مع إسرائيل، وأن “أبومازن” لم يعد شخصا موثوقا به. في هذا السياق، نشير إلى تعثر المفاوضات عند موضوعي حق العودة وعروبة القدس. يلاحظ أيضا كثافة تحليق الطيران الإسرائيلي في الجنوب اللبناني، في الأيام الأخيرة، بما يعتبره كثير من المراقبين مقدمة لشن عدوان إسرائيلي على لبنان. ما علاقة قراءتنا هذه بالتطورات التي حدثت في المنطقة، وبشكل خاص ما جرى ويجري الآن في مصر؟
لا جدال، في أن تحييد الجبهة المصرية وإخراجها من دائرة الصراع العربي مع الصهاينة، هو أهم إنجاز على الإطلاق يحققه الصهاينة، منذ تأسيس كيانهم الغاصب. وقد ارتبط هذا الانجاز بجملة من التحولات الاستراتيجية في السياسة المصرية. الوضع الآن بالنسبة لسياسة مصر، تجاه إسرائيل، لا يبدو مريحا. فرغم أن المجلس الانتقالي العسكري، أكد تمسكه بمختلف الاتفاقيات الدولية والإقليمية التي وقعتها مصر سابقا، فإن الملاحظ أن تدفق الغاز لإسرائيل قد توقف تماما بعد تنحي الرئيس مبارك عن الحكم. كما أن معبر رفح الذي ظل مغلقا لفترة طويلة تم فتحه.
والإسرائيليون يدركون تماما أنه لا يوجد في القانون الدولي ولا في ميثاق هيئة الأمم المتحدة ما يلزم مصر بتطبيع العلاقات مع إسرائيل. فنشوء العلاقات وانكفائها، هو أمر سيادي وليس تعاقدي. بمعنى أن الأطراف المعنية بتطوير العلاقات الدبلوماسية مع أي بلد، بإمكانها الدفع في هذه العلاقة أو التراجع عنها، وفقا لمصالحها ورؤيتها الاستراتيجية. ذلك لا يعني أن مصر سوف تدخل في حرب قادمة مع الكيان الصهيوني. ولكن المتوقع هو أن تشهد العلاقة بين مصر والكيان الغاصب حربا باردة، ليس بالمستطاع أن تحديد اتجاه بوصلتها.
ما علاقة هذه التطورات باحتمالات الحرب في المنطقة؟ ذلك ما سوف نسلط الضوء عليه في الحديث القادم بإذن الله.