التطور العلمي ومصير الفلسفة
تطرح التطورات العلمية الهائلة والمتلاحقة التي شهدها عالمنا المعاصر في العقدين الأخيرين، في مجالات الإتصالات والكمبيوتر والوراثة أسئلة هامة ومشروعة عن العلاقة المستقبلية بين العلوم الطبيعية والفنون والآداب والفلسفة.. ومنذ بداية التسعينيات أصبح الحديث مألوفا عن نهاية التاريخ، وسقوط الإيديولوجيا، وتراجع الفلسفة، وسيادة نمط جديد من العلاقات البراجماتية.
وإذا ما تأكدت صحة تلك الطروحات، فسنكون والعالم بأسره أمام وضع صعب، إذ من غير الممكن أن نتصور قيام مجتمعات انسانية مفتقرة إلى الشفافية وخالية من العواطف وخاوية من النزعات الروحية.. مجتمعات يتقهقر فيها الشعر والموسيقى، ويتراجع فيها الجميل من الموروث، ويحط فيها من الأدب والقيم المطلقة. لكن الأمور لا تخضع دائما لأمانينا ورغباتنا وأهوائنا.. فالعجلة تسير من حولنا، دون خيار وأحيانا دون وعي.
ولأن المحاور التي يثيرها الجدل حول هذا الموضوع كثيرة جدا ومتشعبة، فسوف يقتصر في هذه المناقشة على تناول علاقة موضوع الفلسفة بالتطورات العلمية الهائلة التي حدثت في العقدين الأخيرين، وهل بإمكانها أن تصمد أمام تلك التطورات أم أن وقت نهايتها قد حان، لتحل محلها ممارسة تستعيض عن الفكر بالعمل، وتسير باطراد وتوافق وجنبا إلى جنب مع التغيرات العلمية الهائلة.
وابتداء نذكر بأن العلم هو مجموعة من الفرضيات ثبتت بالتحقق من خلال الملاحظة أو الرصد أو التجربة.. بحيث يمكن في نهاية المطاف، وبعد التحقق، أن تتحول تلك الفرضيات إلى نظريات علمية.. في متناول الجميع.
أما الفلسفة، فلعلنا لا نضيف جديدا إذا قلنا أنها في مصدرها الأصلي تعني حب الحكمة. وكان اليونان هم أول من ارتقى بهذا المفهوم ليصبح فكرة تستند على بناء structure يتكون من مقدمات ومعلومات واستنتاج ازدهر وتطور على يد أرسطو، وساهمت تطورات علمية واقتصادية وسياسية في نمو هذا التوجه وتعزيزه.. لقد بدأت الفلسفة تأملا بالموجودات.. في الكون والطبيعة وفي وظائف المخلوقات، وانتهت رؤية شاملة خاصة للكون تمد بقواعد من السلوك.. بحيث تحولت في حالات كثيرة إلى أيديولوجيات وعقائد.
وكان ارسطو من أوائل الفلاسفة الأفذاذ الذين عرفتهم الحضارة اليونانية، وقد دعا إلى اعتماد الإدراك الحسي أساسا للوصول إلى المعرفة، مستخدما في ذلك التشريح وعلم الأحياء والمختبر.. وعناصر المادة كما فهمها في عصره طريقا إلى التفلسف.. ووضع من خلال استنتاجاته صيغة حياتية للمجتمع الأثيني كما تصوره، ووقف سلبيا من بعض الشرائح والطبقات الإجتماعية التي اعتبرها غير مكتملة انسانيا. أما أفلاطون فقد تحدث في جمهوريته الفاضلة عن مبدأ التخصص، وتبنى موقفا نخبويا.. وكانت بذور تطور مفهوم الحركة بشكلها المادي قد برزت مع هرقليطس الذي عرف عنه مقولته “أنك لا تستطيع أن تعوم في نفس ماء النهر مرتين” مشيرا بذلك إلى أن الكون في حركة دائبة، وأن التاريخ لا يعيد ذاته.
وإثر سقوط الحضارة اليونانية تداعت الفلسفة وبرزت فلسفات مهزومة كالأبيقورية والحركة الرواقية، وكانت في تعبيراتها محاولة لتحقيق التوازن النفسي لشعب مهزوم باحلال اللذة والسرور مكان العمل.. والإستعانة بالحيل الدفاعية لتحقيق التواؤم مع حالة التداعي التي عاشتها أثينا إثر سقوط حضارتها.. وجاء الرومان، ومعهم تراجعت الفلسفة، حيث لم يكن لديهم جديد يقدمونه في مجالها.
وحين بدأ العرب يأخذون دورهم الريادي في الحضارة الإنسانية، لم يكونوا على صلة وثيقة بالفلسفة. وقد استعاضوا عنها في مراحل حضارتهم الأولي، بما ورثوه عن سالف أجدادهم من سحر البيان، حيث عرف عنهم الإهتمام بالأدب والشعر. وذلك أمر طبيعي، إذ لم يكن في حياتهم التي اعتمدت على الحل والترحال بالبوادي والأودية بحثا عن الكلأ والماء من التعقيدات ما يحتم عليهم اللجوء للفلسفة لصياغة نظريات شاملة للحياة.
وحين جاء الإسلام وانتشرت عقيدته في أرجاء المعمورة ارتبطت الفلسفة منذ بداياتها به. وكان القصد من ذلك هو الإستعانة بها على فهم صحيح الحديث الشريف وبالتالي فهم الدين.
وقد خرجت الفلسفة العربية من رحم مدرسة علم الكلام التي أسسها الشيخ حسن البصري بمدينة البصرة، إثر بروز الفتن في المجتمع الإسلامي وكثرة الدس على الحديث الشريف. وكانت تلك المدرسة في حقيقتها محاولة للوصول إلى اليقين، ارتقت وأصبحت مدرسة للجدل بعد ظهور مذاهب المعتزلة.
لكن الفلسفة، بالطريقة التي برزت في اليونان بقيت غريبة على التراث العربي ولم يتطور الإهتمام بها إلا في المراحل الأخيرة من الخلافة العباسية، حين بدأ تداعي الحضارة العربية الإسلامية. وفيما بعد، شكل كتابي تهافت الفلاسفة لأبي حامد الغزالي وتهافت التهافت لأبي الوليد محمد بن رشد والمقدمة لعبد الرحمن بن خلدون نقلات نوعية في الإرتقاء بالفكر الفلسفي العربي الإسلامي..
إلا أن تلك البدايات لم يكتب لها الإستمرار، فقد تعطل النهوض العربي وحصل انقطاع ثقافي كبير بعد بعد القضاء على دولة الخلافة بالإندلس، وهجمة التتار على العراق وسقوط بغداد على يد هولاكو حيث ساد الجمود وتوقفت حركة الإبداع واستمر واقع العرب والمسلمين على ذلك الحال، للأسف قرونا طويلة، إلا من بعض إشعاعات هنا وهناك.
ومع النهضة الحديثة والتطورات العلمية التي عمت مدن أوروبا الرئيسية وانبثق منها عصر الأنوار، تطورت المفاهيم الفلسفية وأصبحت مرتبطة بشكل شامل ودقيق بالتغيرات العلمية الحديثة المتتابعة.. كان الفيلسوف يستنبط من مجموع النظريات العلمية في عصره، ومن خلال موقعه الإجتماعي، رؤية شاملة وسلوكية للحياة، يطرحها على الناس كمنهج اجتماعي يستقطب حوله المريدين والأتباع.
وهكذا نستطيع القول إن الصياغات الفلسفية الحديثة قد حكمها عاملان: الأول كان الموقع الإجتماعي للفيلسوف.. هواه وعواطفه. أما الثاني، فكان جملة ما هو متاح للفيلسوف من إنجازات علمية على كافة الأصعدة. ويتساوى في ذلك الإتجاهات الفلسفية والفكرية على اختلاف مناهجها ورؤاها.
فحين انشـطر العالم الغربي إلى رأسمالي واشتراكي، أعلن كلا المعسكرين استباطهما لنظرياتهما من واقع المنجزات العلمية المتاحة لهما في ذلك العصر، رغم البون الشاسع في نظرة كل منهما.
فقد كتب آدم سميت وريكاردو وماكس فيبير بأن نظرياتهم منبثقة من العلم. كما قال جورج هيجل بأن نظريته في الديالكتيك منبثقة من العلوم الطبيعية. وحدد كارل ماركس مصادر نظريته ومنابعها في الإكتشافات العلمية لعصره، كتولد الطاقة ونظرية النشوء واكتشاف الخلية الحية، والإقتصاد الإنجليزي والفلسفة الألمانية والإشتراكية الفرنسية… وهكذا كانت الرؤية الإجتماعية والمنجزات العلمية الدعامات التي اتكأ عليها أولئك الفلاسفة في صياغة نظرياتهم.
والواقع أن أولئك الفلاسفة استفادوا كثيرا من الثورات الصناعية والعلمية التي حدثت قبل هذا القرن. فقد كانت تلك الثورات، رغم أهميتها البالغة في تغيير مسار الكون، ورغم شموليتها كافة مجالات الحياة، تجري بوتائر أقل سرعة من تلك التي حدثت خلال هذا القرن.
وقد أتاح ذلك للمفكرين والباحثين فرصة العمل ضمن استقرار نسبي يمكنهم من أن يستنبطوا ويتابعوا ويحللوا ويستنتجوا مستعينين بما لديهم من أدوات تحليل علمية ومن معارف فلسفية جديدة.. لم يكن حدوث تلك التطورات العلمية بالسرعة التي تجعل الباحث أو المفكر متعجلا من أمره، فليس هناك جديد على الصعيد العلمي يصدمه كل صباح ويجعله يغير من اختباراته وتجاربه وتحليله، وبالتالي من قناعاته ورؤيته..
لكن هذا الحال لم يستمر طويلا، فلقد أصبح التطور العلمي سريعا ومتلاحقا بحيث أصبح من الصعب على الفيلسوف متابعة حركته، وصياغة نظرية مستمدة من تلك التطورات. إذ لا يكاد الفيلسوف ينهي مهمته حتى يواجه بتطورات علمية جديدة تنسف ما توصل إليه.. وكانت تلك بداية الإنفصام والتقهقر. فالفلسفة التي خرجت من رحم العلم وجدت نفسها تعيش أزمة بسبب من نموه وتسارع حركته وعدم قدرتها على اللحاق بتلك الحركة.
لقد أدت التطورات العلمية التي شهدها القرن العشرين، والقرن الجديد إلى جعل مهمة الفيلسوف صعبة وشاقة للغاية.. فهو لا يكاد يسير في صياغة نهج ما ورؤية جديدة إلا ويصطدم بتحولات علمية هائلة، غير مسبوقة، تكاد تنسف كل ما بنى عليه فرضياته. في حين كانت التحولات العلمية قبل ذلك تسير بوتائر تراكمية متدرجة تتيح للفيلسوف بأن يتابع ويحلل ويستنبط ويستخرج نظرية للحياة دون أن يصطدم بجديد “كيفي” يتعثر بسببه عمله. وفي النهاية يقدم لنا مصنفاته النظرية.
فنظرية الجاذبية، على سبيل المثال، تطورت عبر مراحل طويلة، ومن خلال مساهمات أشخاص عظام كان لهم دور رئيسي فيما هو متوافر لدينا من معلومات مثل كوبر نيكوس واسحق نيوتن وانيشتاين. لم تكن اكتشافات الواحد منهم مجرد تطوير لرؤية الآخر، وإنما نسفا يكاد يكون شاملا لها. وكانت الفلسفة تستجيب لتلك التطورات العلمية فتنتقل من طور إلى آخر على ضوء تلك المتغيرات، محكومة في ذلك بمصالح ومواقع ورؤى اجتماعية واقتصادية وسياسية، وصيرورة تاريخية ومنجزات علمية. وهكذا شكل كل انجاز علمي جديد إضافة في تطور مفهوم الفلسفة. فالنظريات الفلسفية التي تمت صياغتها قبل اكتشاف التلكسوب لم تكن هي ذاتها بعد اكتشافه.. لقد كشف ذلك الاختراع عن كواكب جديدة وأنظمة كونية فاقت كل تصور..
وبالمثل كان لتطور علم الجيولوجيا أثر مشابه على مسار النظريات الفلسفية، حيث أصبح بإمكاننا التفكير في ملايين السنين، في حين كان من قبلنا لا يتعدى تفكيرهم حدود الآلاف.. كما أحدثت التطورات في علم الأركيولوجيا انقلابا جذريا في فهمنا للتاريخ. وأوجدت الفيزياء كونا في الذرة…
وكهذا كان تأثير مختلف أنواع العلوم من بيولوجيا وانثروبولوجيا وعلم نفس.. فقد ساهمت مجتمعة في قلب واندثار النظريات الإقتصادية والسياسية القديمة وتحطم اللاهوت.
ومع تسارع تلك التطورات وجدت الفلسفة ذاتها أمام منعطف خطير.. ذلك أنه بالقدر الذي تتسارع فيه خطى العلم بشكل حثيث، كان على الفيلسوف أن يلهث بشكل متواز مع ذلك التسارع في محاولة للحاق بتلك التطورات وصياغة نظريات فلسفية جديدة للكون على أساسها، تمكن المجتمعات الإنسانية من تحقيق توازنها ومواصلة سيرها.. وهي مهمة أصبحت أكثر ارهاق وصعوبة.
وقد تنبه المؤرخ ويل ديورانت إلى هذه الأزمة فأشار إلى أن الفلسفة التي سبق لها ذات مرة أن استنفرت كل العلوم لمساعدتها في ابداع لوحة متلاحمة الرقعة للعالم، وصورة للخير مغوية مغرية، وجدت مهمتها في التنسيق أشد هولا مما تطيقه شجاعتها، ففرت هاربة من جميع جبهات معركة الحقيقة هذه، واندست مخبئة نفسها في أزقة سرية مكنونة، آمنة، أمن جبان رعديد من قضايا الحياة ومسؤولياتها.. ذلك أن المعرفة البشرية أمست جدا عظيمة وحثيثة لا يمكن للذهن البشري اللحاق بها.
وإذا كان ويل ديورانت قد عبر عن ذلك في النصف الأول من القرن العشرين، فمن البديهي أن تكون الأزمة الآن أكثر عمقا وتأثيرا.. فما تم انجازه خلال هذا القرن من تطور علمي فاق ما أنجزته البشرية بأسرها منذ تلمس الإنسان خطواته الآولى حتى بداية القرن عشرات المرات.. لقد أشار غاردوي في كتابه البديل إلى أن ما أنجزته الحضارة الإنسانية في النصف الأول من القرن العشرين تجاوز ما استطاع الإنسان انجازه منذ بداية التاريخ.
والواقع أن الفرق شاسع وكبير، رغم أهمية ما أنجز، بين ما انجز في النصف الأول من القرن، وما تحقق في النصف الثاني منه. وذلك شئ طبيعي إذا سلمنا بقانون التراكم.
ففي النصف الأخير من القرن العشرين حدثت تطورات مدهشة وسريعة في عالم الكمبيوتر، بحيث يمكن القول دون مبالغة، أنه في كل أسبوع استقبل العالم إضافة نوعية جديدة في مجال البرامج والأجهزة مما ضاعف من كفاءة الكمبيوتر بأكثر من مليون ضعف عما كان عليه أول حاسب آلي صنع عام 1946م.
لقد استقبل العالم جيلا جديدا من هذه الصناعة يتصف بدرجة عالية من الذكاء، بإمكانه أجراء أكثر من ملياري عملية مختلفة في الثانية الواحدة، وهو أمر كان يستغرق ألف عام لإجرائه في السابق. وهذا الجيل لا يزداد سرعة وكفاءة فقط، بل يزداد تخصصا وصغرا ورخصا وانتشارا. وهو قادر على التحليل والتركيب والإستنتاج المنطقي وحل المسائل وبرهنة النظريات وفهم النصوص وتأليف المقالات.
وكان المجال الآخر من مجالات هذه الثورة الجديدة هو التطور المثير في تكنولوجيا المعلومات والاتصالات والإبتكارات في أشباه المواصلات والألياف الصوتية القادرة على معالجة المعلومات وتخزينها واسترجاعها بمعدلات وسرعة تتضاعف بشكل أسي. فقد تمت الآن رقمنة كل المعلومات بجميع أشكالها الصوتية والتصويرية وأصبحت متصلة بشبكة عالمية واسعة وسريعة متيحة المجال لجميع الأفراد وجميع الشرائح وبجميع اللغات الإطلاع على مالم يكن بالإمكان الإطلاع عليه في أي زمان، بما في ذلك الإطلاع على ما هو موجود في المكتبات والجامعات ومراكز البحوث العلمية.. كل ذلك أصبح بالإمكان الحصول عليه بسرعة الضوء، وأصبح متوفرا بالشركات والمراكز التجارية ومجالات التعليم والتدريب وفي المنازل.
كما أتاحت تكنولوجيا المعلومات للأفراد والدول والمجتمعات فرص الإرتباط بعدد لا يحصى من كبلات ضوئية وفاكسات، ومحطات إذاعة وقنوات تلفزيونية أرضية والفضائية تبث برامجها المختلفة عبر مئات المراكب الفضائية، إضافة إلى أجهزة الكمبيوتر والبريد الإلكتروني وشبكات الإنترنيت، وقد ربطت تلك الوسائل عالمنا بأكمله بتكاليف أقل ووضوح أكثر، وعلى مدار الساعة، ودون قدرة الدول على التدخل أو الرقابة الفاعلة.
وكانت الثورة العلمية الأخرى قد حدثت في العقد الأخير من القرن الععشرين، محدثة تطورات مذهلة في مجالات الهندسة الوراثية. ومن المؤكد أن تلك التطورات ستؤدي إلى تغيرات حياتية وأخلاقية غير مسبوقة في التاريخ.
ففي خلال عقد التسعينيات من القرن الماضي، لقد تمكن العلماء من تفكيك الجينات الورائية للكائنات الحية، وبالتالي الدخول إلى عالم الخلق الصناعي والمختبري لجميع الكائنات النباتية والحيوانية، بما في ذلك الإنسان.
لقد عبر العلماء نقطة اللاعودة في مجال نسخ الكائنات خلال هذا العقد، وذلك بعد النجاح المذهل الذي حققه استنساخ النعجة دوللي، والذي اعتبر أهم اكتشاف علمي سجل عام 1997م، وربما خلال كل القرن المنصرم.
ولم يعد الأمر يتوقف عند ذلك، أو عند استنساخ عدد أكبر من الحيوانات، فكل التقارير تشير إلى أن الإمكانيات أصبحت معدة لنسخ الإنسان في المستقبل القريب، بعد أن تم الإنتهاء من انجاز الخارطة الخاصة به، وبعد أن تم بنجاح تحديد الخارطة الوراثية والجينات البشرية بأكملها.
ولا شك أن ذلك يضع البشرية أمام احتمالات غير معقولة وغير مألوفة، بضمنها امكانية القضاء الكلي والنهائي على كل الأمراض المزمنة كالإيدز والسرطان واحتمالات تعزيز القدرات الجسدية والعقلية للإنسان، وتحسين السلالات البشرية، والتحكم في سلوكيات الإنسان.. لكنها في ذات الوقت تحمل مخاطر وخيمة وتهديدا مباشرا لمنظومة القيم الأخلاقية والدينية والاجتماعية والمواريث التي يؤمن بها الإنسان.
ولا جدال في أن هذه الثورة العلمية قد فتحت آفاقا معرفية لا نهائية لفهم أدق تفاصيل الكون والحياة والمادة، وفهم مكوناتها وتفاصيلها الدقيقة، بما في ذلك نشأة الكون وبروز الحياة على الكرة الأرضية.
ما الذي تستطيع الفلسفة أن تقدمه في معمعان هذه الحركة، والفيلسوف بطبعه وبحكم وظيفته، وكما رأينا، انسان متأمل.. هل بإمكانه التعايش مع هذه التطورات المتلاحقة التي تأخذ مكانها بسرعة البرق..؟ وماذا يمكنه أن يقدم لنا والأحداث تعصف به وتنسف مالديه من معلومات وآراء ومواقف، رؤية ساكنة للكون..؟ واي نظرية عامة للكون يمكن التنبؤ بها وصياغتها، فضلا عن فرضها واستقطاب المريدين والأتباع حولها..؟
من المؤكد أن صياغة نظرية فلسفية في مثل هذا الواقع أصبحت أقرب للمستحيل في ضوء الحقائق العلمية الجديدة.. فليس بإمكان متأمل متصوف أن يمسك بهذه التطورات من تلابيبها، وأن يطوعها لصالح خلق رؤية فلسفية جديدة مستقرة في ظل عالم فوار يموج بالحركة والخلق والإبداع.. عالم يتغير باللحظة وليس بالساعة. وإذا افترضنا أن بإمكانه الإمساك بواحد من خيوطها، فإن سرعة حركتها ستقذف به وتجعله عاريا خاويا معلقا بالهواء.
هكذا يبقى الفيلسوف بل ربما بقينا نحن رغم كل ما اتيح لنا من ممكنات وأدوات علمية أسرى للهاث طويل ومستمر دون أن نصل إلى نهاية.. ذلك أن الإعصار جامح ومدمر.
لكن السؤال الذي يبقى بحاجة إلى جواب، هل بالإمكان تصور قيام مجتمات إنسانية دون إشباع للروح، ودون وجود منظومة جميلة من القيم والمبادئ والأخلاق.. مجتمع تغيب فيه الحكمة والشعر والأدب والموسيقى وكل ما يلامس القلب.. يركض فيه المرء بخواء، وبتابع لهاثه دون غاية، ودون وحدة مع الحقيقة، ومع المطلق.
فمنذ الأزل كان البحث عن الحقيقة هو الغاية الإنسانية المطلقة.. والحقيقة كما تعلمنا الإكتشافات والإختراعات نسبية دائما وأبدا. والوصول لها يعني فلسفيا أننا بلغنا خاتمة المطاف، إذ ليس بعد الوصول سوى السكون.. وهو ما لا يمكن القبول به. ذلك أنه على الرغم من كل ما وصلنا له وأمكننا تحقيقه في هذا القرن، فإننا نبدو وكأننا في بداية الطريق.
هكذا تواصل الانسانية، دون خيار، حركتها واكتشافاتها وابداعاتها، بوتاثر أعلى وأوسع.. مستغلة ما هو متوفر لديها من أدوات تحليل وتراكمات معرفية. وهنا تكمن المعادلة الصعبة.. فالمزيد من التقدم والإكتشافات العملية يقابله تراجع في كل ما يلامس القلب، بحيث تصبح النفس جامدة متبلدة.
إنها حقا لمعضلة. وحلها هو أن نتمكن من تحقيق المزاوجة، في بحثنا المستمر عن الحقيقة، بين سوحنا العلمي الواسع بحثا عما في هذا الكون وبين الغوص إلى أعماق النفس البشرية مستعينين بالموروث ومنظومة القيم.. وما لدينا من فنون وابداعات، وهي مزاوجة في غاية التعقيد، لكننا مجبرون على التنبه لها وتفعيلها، قبل فوات الأوان.