التدخلات الخارجية وحق تقرير المصير
في الحديث الماضي ناقشنا منهجيا مفهوم الشرق الأوسط، وتوصلنا إلى تهافته جغرافيا، وأنه ليس سوى مصطلح غربي، أريد له أن يكون عنوانا معبرا عن مصالح واستراتيجيات عسكرية واقتصادية لقوى الاستعمار التقليدي والجديد، في منطقتنا في مراحل تاريخية محددة. وأشرنا إلى أن الهدف الرئيس من طرح مشروع الشرق الأوسط الكبير أو الجديد، من قبل الولايات المتحدة الأمريكية، هو استبدال المشروع الوطني والقومي الذي ساد المنطقة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية بمشروع آخر يكون الكيان الغاصب “إسرائيل” عموده الفقري وذراعه الضاربة.
إن القوى المطلوب ربطها بالمشروع “الجديد” هي ذات القوى التي ارتبطت بالأحلاف والمعاهدات العسكرية التي فرضت على المنطقة، منذ مطلع الخمسينيات، بدءا من ملء الفراغ، ومشروع الشرق الأوسط، والحلف الإسلامي، إلى حلف بغداد، وحلف المعاهدة المركزية السنتو، وحتى مشروع شرق السويس، وجميعها بلدان عربية، أو إسلامية باستثناء بريطانيا، الراعية لبعض تلك المشاريع، والولايات المتحدة الأمريكية، الراعية لبعضها الآخر. فما هو المستجد الآن، لكي يتحول المشروع العسكري الاستراتيجي الأمريكي في المنطقة، كي يصبح “كبيرا”؟!. ليس هناك بالتأكيد شيء جديد، توضحه الخرائط المعلنة للمشروع سوى انضمام الكيان الصهيوني له، ليس باعتباره مجرد عضو فيه، ولكن باعتباره قوته الضاربة وعموده الفقري.
ولأن الكيان الصهيوني هو، كما أشرنا، العمود الفقري والقوة الضاربة، فإن لتوصيف الشرق الأوسط بالكبير والجديد غرضين، لم يكونا متوفرين في المشاريع السابقة. الغرض الأول، ينبع من كون الاستراتيجية الصهيونية، التي هي بحكم الواقع، ملحق حيوي في الاستراتيجية الأمريكية، تمتد من تركيا شمالا إلى أوغندا جنوبا، ومن باكستان شرقا إلى الأطلسي غربا.. وهذا يعني أن المشروع في بعده الجغرافي والعسكري، قد تمدد وأصبح “كبيرا” ليغطي كافة المناطق التي يعتبرها الصهاينة بعدهم الاستراتيجي.
أما الجدة في المشروع، فلها علاقة مباشرة بأمرين، هو أن يصبح المشروع “قوة إقليمية” متفردة، يرفض أن تشاركه – بالتوازي- مشاريع أخرى، كما كان الحال سابقا، مع منظومات قومية وإقليمية سادت بالمنطقة، كمنظومة جامعة الدول العربية أو مجلس التعاون الخليجي، أو الاتحاد المغاربي. إن المطلوب الآن هو أن تنتفي جميع الأدوار التي تضطلع بها هذه المنظومات القومية والإقليمية، ليكون الشرق الأوسط الكبير- الجديد هو المنظومة البديلة والمتفردة.
وفي سبيل ذلك، ومن أجل إضعاف قوى الممانعة، التي ترفض التسليم بأن مشاريع الهيمنة الأمريكية هي القدر المقدر على الأمة، يطرح عدد من دهاقنة المشروع، دون تردد أو مواربة أن مشروعهم سوف يولد من رحم الفوضى الخلاقة، بمعنى أن التفتيت والتشظي للأمة، ولمنظوماتها القومية والإقليمية شرط لازم لتحقيق المشروع الجديد. وهكذا يجري على قدم وساق، تفعيل شعار “الفوضى الخلاقة” ليتحول إلى دماء تراق، وأرواح تزهق، وقتل على الهوية، وتنكر لتاريخ وجغرافيا ولغة وانتماء، وفيدراليات ودساتير ما أنزل الله بها من سلطان، وحكومات وحدة وطنية… وجرائم إبادة بحق الإنسانية، وإشعال للفتنة في العراق ولبنان وفلسطين والسودان والصومال.. والقائمة طويلة، والأيام حبلى ببراكين وأعاصير.
الجدة أيضا في مشروع الشرق الأوسط، هي أنه يضع الاقتصاد العربي بأسره، في خدمة المشروع الاستيطاني الصهيوني، ويصيغ تعريفات جديدة مقننة للمفاهيم والقيم اللبرالية والإنسانية، ليس كما وردت في كتابات جون لوك وموتيسكو، وروسو، ولكن كما يتصورها، ويسعى لفرضها أولمرت وكيسنجر، وبوش، ورايس، ورامسفيلد.. إن المشروع هو المفتاح الكبير لإنهاء المقاطعة الاقتصادية العربية للكيان الغاصب. وللذين يضعون علامات استفهام على هذا التفصيل، أن يقرأوا كتابات ومحاضرات شمعون بيريز رئيس وزراء “إسرائيل” السابق، وزعيم حزب العمل، والذي كانت له اليد الطولى بالتبشير بالمشروع الجديد، باعتباره التعبير عن تلاقي عبقرية الإبداع الصهيوني مع المال العربي، من أجل تحويل الصحارى إلى واحات خضراء، وخلق نهضة اقتصادية وتنموية، تكون الإدارة “الإسرائيلية، مهندسها المعماري، وتسود عموم المنطقة.
وكانت مقدمات تنفيذ المشروع قد أخذت مكانها في المخيمات الفلسطينية، في الضفة الغربية وقطاع غزة، وبخاصة في جنين، وفي قائمة طويلة من قوافل الشهداء في مقدمتهم قيادات تاريخية قادت النضال الفلسطيني في نصف القرن المنصرم، عرفات وأبو علي مصطفى والشيخ أحمد ياسين والرنتيسي…، ومن ثم انتقلت إلى العراق ولبنان في عشرات من عمليات عناقيد الغضب في كافة مدن العراق وقراه، وفي الجنوب اللبناني أيضا، على قاعدة أنه لا بد من تدمير البنية القديمة، من أفكار وأيديولوجيات وانتماء لأمة، ولكيلا يكون هناك مكان للشعارات “الرثة”، لتقام فوقها هياكل ومعتقدات جديدة، ترفض الارتباط بالماضي، ولا يكون تمسكها بالثوابت القومية والوطنية الماضوية معوقا للتماهي مع خصوصية العصر الكوني، المعبر عنه بمشروع القرن الأمريكي الجديد.
وفي غمرة الحماس، تتيه بوصلات، ويغيب الوعي، ويجري التنكر حتى للحقائق العلمية، التي تعتبر المشاهدة والاختبار والرصد والمقارنة والمقاربة من خواص أي استناج علمي صحيح، وأن التقادم لا يلغي الحقائق العلمية، ما لم يؤد اختبار فرضيات جديدة إلى تثبيت قوانين علمية غير تلك التي كانت سائدة من قبل.. فالأرض كروية، كما أثبتت ذلك جملة الفرضيات التي جرى امتحانها، ولن يتغير هذا القانون بالتقادم، كما أن القانون العلمي الذي يحكم درجة غليان الماء على كوكبنا الأرضي سيبقى كما هو ولن يغير فيه التقادم شيئا.
قانون العرض والطلب، هو الآخر علمي، وقانون التنافس الاقتصادي هو الذي حرض على كشف القارات الجديدة والمعابر والممرات، وأوجد عصر الاستعمار، حين بعثت قوى فتية جديدة أساطيلها عبر البحار، بحثا عن المال والثروة والجاه. وفي هذا السياق كان اكتشاف القارتين الأمريكتين إنجازا اقتصاديا ضخما، لكنه أودى بغالبية السكان الأصليين، ممن عرفوا لاحقا بالهنود الحمر، وسن لقوانين استقدام “العبيد” في الأمريكتين. كما كان اكتشاف رأس الرجاء الصالح ثورة كبرى في اختزال طرق المواصلات البحرية. وكان بناء قناة السويس فعلا إنسانيا ربط البحر الأحمر بالمتوسط، وخلق نقلة نوعية في عالم المواصلات. إن التسليم بهذه الحقائق، يبدو بديهيا، فقط حين يكون الموقف حياديا، أما حين يشط الهوى، وتتحكم غريزة الحب والكره بشكل غير موضوعي بالقراءة والاستنتاج تصبح حتى هذه البديهيات موضع شك وتساؤل.
إن وعي الحقائق العلمية، والتسليم بقوانينها هو الذي يجعل قراءتنا للتاريخ صحيحة، ويعطي الفهم للنزعات العدوانية، التي مارسها الاستعمار التقليدي سابقا، والإدارة الأمريكية حاليا بعده الموضوعي، وهو وحده الذي لا يشخصن التطور التاريخي، فيربطه بهذا الفريق أو ذاك، بل يعتبره نتاجا لحركة تاريخية. هذا الوعي وحده، الذي يستوعب حقائق عصر الإمبريالية، بنزعاتها العدوانية، هو الذي يجعل قراءتنا صحيحة وصائبة. لا يمكننا أن نربط التاريخ بحادثة تاريخية واحدة، حتى وإن كانت فريدة، كتلك التي حدثت في 11 سبتمبر عام 2001م، ونعتبرها بمثابة نقطة فاصلة في انقلاب الرأسمالية العالمية، بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، على ذاتها، وتحولها من ذئب مفترس إلى حمل وديع، خاصة أن أحداث العراق وأفغانستان قد أكدت زيف شعارات الديموقراطية والتمدين التي روجت لها الإدارة الأمريكية، والتي على أساسها تحمس نخبة من أنصاف المثقفين، للقبول بالتدخلات الخارجية في شؤون أوطانهم، حتى وإن كان ذلك على حساب التاريخ والجغرافيا، والانتماء والهوية، وقوانين العلم، والتناقض مع ما أقرته مبادئ حقوق الإنسان وشرعة الأمم في الاستقلال والحرية وحق تقرير المصير، ومعطيات التطور الإنساني الحضاري السائرة إلى أمام.
سيكون لنا وقفة مع بقية المحاور، في الحديث القادم بإذن الله