البلقنة ضد الأمة
ما يجري في عدد من الأقطار العربية، من احتراب داخلي، وتحريض على الفتنة شيء فظيع ومرعب ومروع. إن هذه الهستيريا المتوحشة، من فرط لا عقلانيتها تستعصي على الفهم. وتعيد طرح أسئلة ملحة، يختزلها سؤال مركزي واحد وجامع: من المسؤول عن حالة الإنهيار الشاملة التي يشهدها وطننا العربي؟. هل هي من صنعنا نحن؟! أو أن بالإمكان اختزالها وإحالتها للخارج ليصبح جزءا من نظرية المؤامرة التي افتتحنا بها هذا الحديث؟!
كيف يمكن للإخوة الذين جمعتهم رابطة الكفاح طويلا ضد المحتل الصهيوني، والذين شهد العالم بأسره ثباتهم الأسطوري وإصرارهم على التمسك بحقهم في الحرية وتقرير المصير، إن يوجهوا حرابهم إلى صدور بعضهم، بدلا من توجيهها إلى الغاصب الذي يحتل أرضهم، ويحاصر مدنهم، ويحرمهم من لقمة العيش. كيف لهم أن يتصارعوا على سلطة ومكاسب لم تنجز بعد، بدلا من أن يتوجهوا نحو استكمال برنامجهم السياسي والمقاوم، لانتزاع حقوقهم وتثبيت هويتهم الوطنية؟!
وكيف نفسر حملات القتل اليومية، التي انتقلت من حال القتل على الهوية، الذي ساد منذ وطأت أقدام التتار الجدد عاصمة الرشيد، إلى عمل عبثي وجنوني محض، يستهدف القتل لمجرد القتل، والفوضى لذاتها، ولا يميز بين مناصر لمحتل أو مقاوم، ولا بين هذه انتماء وآخر. تصبح حالات الخطف، والقتل العمد وجثث القتلى المتناثرة هنا وهناك في أرجاء العراق، حالة مألوفة، لا تميز بين صديق أو عدو. وتحاول أن تفهم، مجرد أن تفهم، وتتيه في زحمة الفوضى والمجازر اليومية، وحالات الفقر والجوع والإنهيار المجتمعي جملة أسئلتك.
لبنان هو الآخر، يتجه نحو أتون حرب أهلية، فالإحتكام السلمي إلى الشارع كانت له، هو الآخر، كلفته، على صعيد تعطيل ِأمور الدولة وحياة الناس، واستمرار الأمن والإستقرار، وكان له أيضا ضحايا وشهداء. والمشهد اللبناني بأسره أصبح مرشحا لمزيد من الإنهيارات السياسية، بعد تصاعد حملات الإتهامات المتبادلة، بين الأطراف المتصارعة، والتي خرجت عن حدود اللباقة الأدبية. وتبدو مبادرة جامعة الدول العربية لحل الأزمة آخر أمل، وملجأ للبنانيين جميعا، للخروج من نفق الأزمة التي يمرون بها.
وفي الجزائر هناك توقعات بتصاعد عمليات العنف، وقد وجهت الحكومة الأجهزة الأمنية بفرض حراسات مشددة على مقرات الدولة، ومباني السفارات الأجنبية، بعد أن فشلت محاولات المصالحة مع المتشددين الإسلاميين الذين مضى على صراعهم مع الحكومة ما ينوف على الربع قرن.
وتستمر حالات الصراع التي نوهنا عنها في أحاديث سابقة، بالسودان، في جنوبه وغربه، حيث المشكلة المزمنة مع الحركة الإنفصالية بالجنوب، والمشكلة التي مضى عليها أكثر من عامين في الجانب الغربي، بمنطقة دارفور بين الجنجويد والسكان المحليين والحكومة. وفي الصومال، يحتدم الصراع بين المحاكم الإسلامية والحكومة المدنية. ولا يوجد ما ينبيء باقتراب التوصل إلى حل للأزمات في كلا البلدين.
تستمع إلى نشرات الأخبار، فلا يصدق عقلك أو قلبك ما يجري، في هذا الوطن العربي الكبير، الممتد من البحر إلى البحر…
على معبر رفح هناك اقتتال بين الفلسطينيين، ومحاولة لاغتيال رئيس الوزراء الفلسطيني، إسماعيل هنية يذهب ضحيتها عدد من حراسه ومرافقيه… محاولة لاغتيال وزير الخارجية وأحد قيادات حركة حماس، السيد محمود الزهار. اشتباكات مسلحة تدور في محيط منزل ومكتب الرئيس الفلسطيني محمود عباس في قطاع غزة بين عناصر من أمن الرئاسة وأفراد من القوة التنفيذية التابعة لوزير الداخلية. حالة انفلات الأمني وجدل سياسي بشأن دعوة الرئيس عباس لتنظيم انتخابات مبكرة. وعدد من قيادات منظمات المقاومة ترفض دعوة الرئيس. والأسرى يستحلفون الفصائل أن تحقن الدم الفلسطيني.
اختطاف العشرات من مكتب الهلال الأحمر في بغداد… في شارع السعدون بأحد المراكز التجارية جرى اختطاف العشرات من قبل أشخاص كانوا يرتدون زي الشرطة العراقية, خمسون جثة لأشخاص مجهولين وجدت في مناطق متفرقة من العاصمة. قصف جوي أمريكي لمنزل في مدينة الإسحاقي، عشرات القتلى في الأنبار، ومدينة الصدر، وانقطاع للكهرباء وتزاحم لآلاف السيارات عند محطات البنزين، والناس تهرب من الجوع إلى الجوع ومن القتل إلى القتل، في مسلسل لا تبدو له في المدى المنظور نهاية. ومؤتمر للوحدة الوطنية، يضم مناصري الإحتلال، ويرفض مشاركة المعارضين له، والتعامل بجدية مع المقاومين للإحتلال الأمريكي والرافضين لوجوده على تراب دجلة.
كيف يمكننا فهم هذه الفوضى التي تعم الآن عددا كبيرا من الأقطار العربية، والتي لن تكون نتائجها، إذا ما تواصلت سوى المزيد من التشظي والتفتيت. من جديد، من هو المسؤول عن حالة التداعي. هل نحمل القوى الكبرى، مسؤولية ما يجري ونزيح عن كاهلنا عبيء تحمل أوزارها؟ أم نواصل الإستمرار في جلد الذات، ونعتبر أنفسنا نقطة البداية والنهاية.. وأننا وحدنا المسؤولون عما يحيق بنا من أزمات ونكبات؟.
الجواب على ذلك، في حالة اختيارنا لأحد الإحتمالين، سيبدو ساذجا ومسطحا. صحيح أن أمتنا تعرضت لهجمة استعمارية شرسة، منذ بداية القرن العشرين، في وقت لم تكن مهيأة ماديا وموضوعيا لخوض غمار مواجهة تلك الهجمة. لقد جاء الإستعمار الغربي التقليدي، بعد أن هيمن سلطان الإستبداد العثماني، وغطت الأمة في نوم عميق، بدأ مع هجمة التتار، وتواصل لقرون طويلة. وحين بدأت الأمة في تشكيل حلمها ومشروعها، ووجهت بهجمة استعمار فتي، كانت مشاريعه تفتضي تجزئة المجزأ وتفتيت المفتت، وقد عبرت اتفاقية سايكس بيكو، ووعد بلفور بدقة عن تلك النوايا.. وتداعى الحلم، وفشل المشروع النهضوي، وهو لم يزل في مخاضه الأول.
وحتى عندما اضطر الإستعمار التقليدي، ضمن ظروف دولية، استجدت بعد الحرب العالمية الثانية، لشد رحاله، ومنح صكوك الإستقلال لعدد من بلداننا العربية، كانت التشكيل السياسي والديمغرافي والجغرافي الذي تركه مشوها وزائفا، حمل في أحشائه قنابل موقوته. تم عزل بعض المناطق، عن عمقها التاريخي والإستراتيجي.. وجرى التقسيم بالضد من الجغرافيا والتاريخ، وإرادة أصحاب الأرض. عمل قلم الرصاص والمسطرة عملهما في ترسيم الحدوج، في معظم البلدان العربية وفقا لمصالح المستعمر القديم، وليس ضمن منطق التكوين التاريخي. وكانت النتائج مناطق محايدة، وأقاليم متنازع عليها، وصراعات إثنية، وقبلية على المراعي والحقول، وحديثا على أبار النفط ومناجم الحديد، ومصادر الثروة الأخرى. وكانت المشاكل مضاعفة في أطراف الأمة، وحدودها في كل الإتجاهات.
فشل الحلم العربي، وغدت الهوية القومية، موضع شبهة وشك. وأصبح للدولة القطرية هويتها الخاصة، علمها ونشيدها وفلكورها، ومشروعها. وبالقدر الذي تعزز فيه الإنتماء للقطر بدلا عن الأمة، أخذت التركة الإستعمارية القديمة تطل من جديد، في شكل صراعات داخلية، وصراعات على الحدود والثروة، لتؤدي دورها في متتاليات لا يبدو أن لها نهاية، مساهمة في فصم عرى وأواصر القربي بين أبناء الوطن الواحد.
وشاءت حقائق الجغرافيا، أن تكون منطقتنا، بمعابرها الإستراتيجية، وثرواتها النفطية من أهم مراكز الإستقطاب الدولي، فكان أن توسعت مناطق الجاذبية في هذا الصراع لتنتقل من حوض البحر الأبيض المتوسط والشمال الأفريقي، لتشمل بشكل مركز منطقة الخليج، ولتشهد هذه المنطقة في أقل من ربع قرن ثلاثة حروب رئيسية، واضعة أمن المنقطة بأسرها في مهب الريح.
هل نحمل القوى الكبرى، وزر مشاكلنا، ونعفي نفسنا من المسؤولية؟ الجواب بالطبع لا يكون إلا بالنفي. فنحن منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، بدأت رحلتنا الجديدة للبحث عن موطيء قدم، وعن مكان يليق بنا في عالم لا يعترف إلا بالقوة، بكل أبعادها السياسية والإقتصادية والعسكرية. وتوصلنا على صعيد علاقاتنا العربية، إلى معاهدات ومواثيق، وكانت هناك خيمة، هي جامعة الدول العربية، قبلنا بها جميعا، وارتضينا أن نحتمي بظلالها، لكن مواثيقها بقيت مجرد حبر على ورق. قمنا بطعنها عدة مرات، إما بالفعل والتماهي مع سياسة قوى الهيمنة، أو بالصمت العاجز، وها نحن ندفع الثمن باهضا، جراء فشلنا وعجزنا. وفشلنا أيضا في تحقيق عقد اجتماعي داخل أوطاننا، فكان الإحتراب والفتنة، والفوضى، والبلقنة بديلا عن وحدة الأمة.
هل من مخرج لهذا الواقع المتردي؟! وهل من أمل لصياغة مشروع يخرجنا من عنق الزجاجة؟. ويحقق تماهي مفهوم الوطن والأمة. تلك أسئلة ملحة، لعلنا نجد فسحة للإجابة عليها، في حديث آخر بإذن الله..