الانضمام لمنظمة التجارة العالمية… المحاذير والآفاق

0 190

توقع انضمام المملكة قريبا إلى منظمة التجارة العالمية يطرح علينا مجموعة من الأسئلة، لعل بالإمكان تلخيصها جميعا في سؤال مركزي واحد هو: هل نحن جاهزون الآن لهذه الخطوة؟ وهو سؤال بديهي جدا، يفترض أن المسؤولين في الدولة قد تناولوه بالتمحيص والتدقيق وقدموا جوابا عليه قبل أن يقدموا على اتخاذ أية خطوة باتجاه تحقيق اندماج اقتصاد بلادنا مع الاقتصاديات العالمية. وأن الجواب في هذه الحالة سوف يكون بنعم.

 

لكن الأمر في حقيقته ليس بهذا التبسيط. ذلك أن الاندماج الاقتصادي المحلي بالاقتصاد العالمي لم يعد قرارا وطنيا، يمكننا أن نتخذه، فنلتحق بالركب، أو نتغاضى عنه ونرفضه، وننكفئ على ذاتنا، نبني قوتنا، ضمن برامجنا وتصوراتنا، وبقرارنا المستقل، ونستعد بعدها للمنافسة مع الآخرين في الأسواق الدولية.

 

إن الاندماج بالسوق العالمي، أصبح أمرا مفروضا، لا يمكن لأي دولة أو منظومة في العالم أن تكون خارجه. وهو واقع متحقق، لا جدل في ذلك. والجديد في الأمر هو أن الدول النامية، لم تعد لها فرصة في تحديد خياراتها الخاصة في التنمية، وانتهاج الطرق الاقتصادية الكفيلة بتسريع عملية التطور فيها. لم يعد ما يسمح به سوى طريق اقتصادي واحد هو طريق السوق المفتوح.. وهو عود إلى بدء إلى نداء آدم سميث “دعه يعمل”، إنها عودة لإنجيل النظام الرأسمالي المعروف بـ “ثروة الشعوب” حيث الوسيلة الأساسية لزيادة الإنتاج تكمن في تقسيم العمل، واستخدام أحدث التكنولوجيات.. لكن تحقيق درجة عليا من التخصص هي رهن باتساع السوق. فالمقادير الكبيرة من مادة منتجة لا يمكن بيعها في مجتمع صغير أو صبغة محلية محدودة.

 

وكان هذا الاعتقاد محرضا على اكتشاف قارات جديدة، واختراع وسائل وآلات، واستغلال عبقرية الإنسان وإمكاناته وإبداعاته من أجل تحقيق اختراقات اقتصادية أوسع. وكانت هناك حروب في التاريخ، أسبابها في الغالب اقتصادية للسيطرة على مناجم الفحم تارة، ومزارع الموز تارة أخرى، وحربان عالميتان كانت الأزمات الاقتصادية هي مفاتيح إدراك أسبابهما، ومنذ اكتشاف النفط أصبح احتكاره مطمعا وهدفا للقوى الكبرى.

 

وإذا كانت معادلة توازن القوة، واستمرار الحرب الباردة، التي سادت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى مطلع التسعينيات من القرن الماضي قد أتاحت لشعوب الأرض قدرا مقبولا من القدرة على اختيار نظمها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فإن ذلك الحال قد تغير بشكل مثير وحاد. ليس هناك الآن ما هو مسموح به سوى اقتصاد السوق، وهو نظام جرى تفصيله بالدقة ليناسب حاجة أرباب العمل وسادة العالم. وهذا النظام له تفرعات سياسية ودرائعية ومتطلبات تسنده، تختفي تحت يافطات الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، وبضمنها حقوق العشائر والطوائف. وكثير منها هي دون شك شعارات نبيلة إذا ما جردت من الغايات التي تختبئ وراءها… وأيضا إذا ما جردت من أنيابها..

 

إن الوعي بهذه الحقائق هو أمر ضروري وجوهري بالنسبة لنا، ونحن نتهيأ لاقتحام مرحلة جديدة، وهو الذي يجعل من طرح السؤال الذي بدأنا به في صدر هذا الحديث أمرا مشروعا وملحا. هل أعددنا العدة فعلا للتنافس في الأسواق العالمية؟ ولعلي أتجرأ فأقول إن ما يبدو على السطح يشير، بكل تأكيد، إلى أننا لم نتهيأ بعد للمرحلة القادمة، رغم أننا ندرك أنها قادمة لا ريب في ذلك.

 

سوف نفتح أبوابنا لدخول كافة أنواع المنتجات، ومن مختلف الدول.. وسوف لن يكون هناك استثناء لأي منتج. والمشكلة التي سوف تواجهنا أن قطاعاتنا الاقتصادية: صناعية أو زراعية أو مالية، سوف تتنافس في السوق مع قطاعات متقدمة علينا في الكم والكيف.. في الخبرة والمال، وسبقتنا إلى مضامير التصنيع والإنتاج وتطوير هياكل الاقتصاد ومؤسسات المال بسنوات طويلة، ولا تزال تعيش فتوة وقوة تجعلنا بالنسبة لها فريسة سهلة.

 

وإذن والحال هذه، فإنه ينبغي أن نتجه منذ الآن لإحداث تغيرات جوهرية في البنية الهيكلية لاقتصاد بلادنا، وأن تشمل تلك التغيرات سن قوانين وتشريعات جديدة، تساهم في بروز هياكل اجتماعية وسياسية لم تكن موجودة بالفعل من أجل أن نتجانس مع شروط الانضمام لهذه المنظمة، ولكي نكون جزءا فاعلا ومؤثراً في الحركة الاقتصادية العالمية، وحتى يمكننا التعامل بجدارة مع عالم لا يحترم لغة الضعفاء، وليس فيه مكان إلا للقادرين على صناعة تاريخهم بمهارة واقتدار وعزيمة.

 

في مجال التنافس، يجب التوجه جديا نحو استكمال برنامج السعودة. وهو برنامج لن يكون فاعلا وحقيقيا، إلا إذا اندرج ضمنه تنمية الموارد البشرية. هناك شكاوى لدى كثير من المؤسسات المحلية من ضعف الخبرة لدى أبنائنا، ويتخذ من ذلك ذريعة للتهرب من توظيف الشباب من أبناء المملكة. يمكن في هذا الصدد الاستفادة من برامج عالمية مماثلة لتطوير الموارد البشرية، وإقامة دورات سريعة لإعداد العاطلين للدخول في معترك العمل، بناء على دراسة علمية تستوعب حاجة السوق من القوى العاملة.

 

ومن الحقائق التي ينبغي أن تكون حاضرة في الذهن هي أننا في عصر تكتلات تجارية واقتصادية كبرى، وأننا لا يمكننا أن نفعل بالسوق، وأن تكون لدينا قدرة تنافسية في الأسواق العالمية، ما لم تتحقق حالات اندماج اقتصادي كبرى، في كل المجالات. فاقتصاد الأبعاد الكبيرة هو وحده الذي يستطيع الصمود والمقاومة أمام قوة اقتصادية عالمية هائلة. لا بد أن نستعد، منذ الآن لليوم الذي تكون فيه بلادنا عضوا كاملا في منظمة التجارة. وأن يحدث منذ الآن تطوير لبنى وأداء البنوك، وقطاع الخدمات ومختلف الأنشطة، وأن يجري التفكير جديا في تحقيق عمليات اندماج واسعة في مؤسساتنا الاقتصادية.

 

ينبغي منذ الآن إعادة هيكلة البنوك، وتطوير آليات عملها، والتشجيع على تحقيق اندماج بين البنوك التي تتماثل في أنشطتها ولوائحها. وبالمثل، ينبغي تحقيق اندماجات كبرى وتنسيق بين مختلف الأنشطة والفعاليات الاقتصادية المتماثلة.

 

من جهة أخرى، لا يمكننا الحديث عن تنمية زراعية حقيقية، وعن تنافس إنتاجنا الزراعي مع المنتجات المماثلة المستوردة في الوقت الذي ينتظر فيه الكثير من المزارعين، منذ شهور طويلة، إدخال الكهرباء إلى مزارعهم، دون تلبية مطالبهم.

 

إن إدارة الشركة تتعلل في ذلك بضعف ميزانيتها، وعدم قدرتها ماليا على تلبية الطلبات الكثيرة من المزارعين، خاصة وأن جزءا كبيرا من الميزانية يصرف في مجالات أخرى غير مربحة، كتزويد مناطق الهجر بالطاقة. ومع أن هذا التعليل ربما يكون صحيحا ودقيقا لكن حرمان المزارعين من الطاقة الكهربائية من شأنه أن يتسبب في تراجع الإنتاج الزراعي في كثير من المناطق، أو أن يجعل كلفته كبيرة، وغير قادرة على التنافس مع المنتجات الأجنبية.

 

ينبغي جديا، إذا ما أردنا التنافس، على الصعيد الزراعي، في الأسواق المحلية، إعادة النظر في قرارات شركة الكهرباء، وأن يجري العمل على خلق آليات جديدة تمكن من تأمين الطاقة الكهربائية للهجر، ولكنها في نفس الوقت لا تحرم المزارعين منها.

 

من جهة أخرى، فسوف يكون لهذا الانضمام تأثيرات ثقافية وسياسية وبنيوية، لا بد أن نكون مستعدين لها، دون تأجيل أو تسويف. وينبغي أن ينعكس ذلك على تطوير مؤسساتنا التربوية والتعليمية، وإعادة النظر والتقييم في مناهجنا الدراسية، وأيضا في منابرنا التوجيهية والإعلامية. بحيث يجري العمل على اجتثاث الأمراض المستعصية، من محسوبية ووساطة، من جذورها، وأن تعاد صياغة تشكيل هياكلنا السياسية والاجتماعية، من أجل التماهي مع المرحلة التي نتهيأ الآن لولوجها. وهي أمور تستحق منا وقفات أخرى في أحاديث قادمة.

 

خيط رفيع ينبغي أن نحافظ عليه، وأن نتمسك به بحدقات عيوننا.. الخيط الذي يربط ثوابتنا الوطنية والدينية والأخلاقية وانتماءنا إلى الوطن الواحد، بهذا الزمن الكوني الجديد. وهو خيط يجب أن نمسك به بقوة ومهارة… إنه تحد كبير لا مناص لنا غير قبوله والدخول فيه.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

14 + أربعة عشر =


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.

د.يوسف مكي