الانسحاب من العراق والصراع على البيت الأبيض
في التنافس المحتدم من أجل الوصول إلى البيت الأبيض، ألقت الخسائر الجسيمة التي يتعرض لها الجيش الأمريكي بالعراق في الأرواح والمال والعتاد بظلال كثيفة على الحملة الانتخابية، وأصبحت موضوعا أثيرا لدى المرشحين الديموقراطيين. لقد بلغت الخسائر البشرية، حسب تقارير البنتاغون أكثر من أربعة آلاف قتيل، وأكثر من خمسين ألف جريح. أما الكلفة المالية، فقد فاقت التقديرات الأولى لكلفة الحرب بعشرات المرات. وقد أدت إلى تراجع دور الاقتصاد الأمريكي، بما انعكس بالتالي على تدني قيمة الدولار، حيث تراجع سعره بشكل غير معهود منذ عدة عقود. هذا عدا الخسائر الأخرى، وتراجع مشروع المحافظين الجديد، في ما أسموه ب”القضاء على الإرهاب”، و”محاربة أنظمة الاستبداد”.
لقد تركز الجدل بشكل خاص بين المتنافسين الأمريكيين على الموقع الرئاسي الأول، حول سحب القوات الأمريكية أو عدم سحبها من العراق. فالمرشح الجمهوري، السيد جون ماكاين يرى بقوة أهمية استمرار التواجد العسكري الأمريكي، في بلاد ما بين النهرين، رغم ضغط الشارع واصطفافه بالاتجاه المغاير، باعتبار ذلك التواجد، يمثل الركن الأساس في ضمان استمرار الهيمنة الأمريكية على المنطقة بأسرها. أما هيلاري كلينتون، وباراك أوباما، المتنافسان الديموقراطيان على كرسي الرئاسة، فإنهما يجزمان بأن احتلال العراق قد أفقد الولايات المتحدة الأمريكية هيبتها، ومرغ هامتها. وأنه سيبقى، طالما استمر، مصدر استنزاف دائم لطاقاتها العسكرية والمالية. بل لقد ذهب الجدل، إلى مديات أعلى، حين اعتبر استمرارية الوجود العسكري بالعراق، تهديدا للأمن القومي الأمريكي. فالإدارة الأمريكية، سوف تبقى عاجزة وغير قادرة على مواجهة أي تهديد تتعرض له من مصدر آخر، طالما بقيت قواتها مشغولة هناك.
ومما لا شك فيه، أن كلا الجدلين يجد له أنصارا ومريدين في ساحة صنع القرار الأمريكي. فالذين يناصرون استمرار الاحتلال الأمريكي للعراق، يرون أنهم وضعوا استثمارات كبرى في هذا الاحتلال، ومن الصعب عليهم أن يتخلوا عن تلك الاستثمارات. إن الاعتراف بالهزيمة يعيد إلى الذاكرة، حدثا مشؤوما، ظل طيلة الأربعين سنة المنصرمة، يشكل عقدة دائمة للمؤسستين، السياسية والعسكرية الأمريكيتين، عرفت بعقدة فياتنام. وكان من نتائج هذه العقدة، أن وقفت الإدارات الأمريكية المختلفة عاجزة عن اتخاذ أي قرار برفع درجة التأهب العسكري، وممارسة سياسة العدوان، بسبب عدم ثقتها، وركونها إلى قدرات جيشها. إن اعتراف الأمريكيين بالهزيمة في العراق سيعيد، في المدى المنظور على الأقل، تكريس هذه العقدة ويجعل الإدارات الأمريكية القادمة، مكتوفة الأيدي، غير قادرة على الفعل تجاه التحديات والمخاطر التي تتعرض لها على الصعيدين الدولي والإقليمي.
أما الديموقراطيون، والمناوئون لاستمرار الاحتلال، ضمن دوائر صنع القرار الأمريكي الأخرى، فإنهم على العكس من ذلك، يرون أن استمرار هذه القوات في العراق، هو تكبيل للقدرة الأمريكية على الحركة. إن سياسة الضغط والحصار والاحتواء، من وجهة نظرهم هي الأقل كلفة، والأفعل، لضمان استمرار الهيمنة الأمريكية العالمية.
ومن جهة أخرى، فإنهم يرون في سقوط المبررات التي استند عليها الغزو، والمتمثلة في تهديد القيادة السياسية العراقية لجيرانها، واستخدامها لترسانتها العسكرية، وحيازتها لأسلحة الدمار الشامل، مع علاقة مفترضة لهذه القيادة بتنظيم القاعدة، والتي ثبت بطلانها كلها للقاصي والداني، ولم تعد موضع جدل. تمنح الآن سببا كافيا للانسحاب الأمريكي من العراق. إن سقوط هذه المبررات يمنح حججا أخلاقية وقانونية للذين يطالبون بالانسحاب الأمريكي العسكري الفوري من بلاد ما بين النهرين. إضافة إلى ذلك، فإن هذا الانسحاب، سيحرر الجيش الأمريكي من ورطته، ويسهم في جعله مستعدا لمقابلة المخاطر الأخرى، التي يمكن أن تفاجئ الإدارة الأمريكية مستقبلا. وسوف يتيح عودة الانتعاش للاقتصاد الأمريكي الذي ينوء بأزمة حادة لم يشهد لها مثيلا منذ أكثر من أربعة عقود.
واقع الحال، أن الخلاف بين الحزبين الجمهوري والديموقراطي، حول مسألة استمرار الوجود العسكري من عدمه في العراق، ليس مجرد قضية خلافية على برنامج سياسي، كما يبدو على السطح، ولكنه قضية جوهرية ترتبط بالقواعد الاجتماعية، التي يتكئ عليها كل حزب، وبمصلحتها. فهذه القواعد وما تعبر عنه من مصالح هي البوصلة التي تحدد موقف طرفي التقابل والصراع للوصول إلى البيت الأبيض.
إن جوهر الخلاف بين الحزبين حول مسألة التواجد العسكري في العراق، يكمن في اختلاف بنيتهما الاجتماعية، والقوى التي يمثلانها في النسيج الأمريكي، وبالتالي اختلاف مصالحهما، كنتيجة لاختلاف بنيتهما.
فالديموقراطيون قد درجوا، تقليديا، على التركيز على قضايا الاقتصاد، والتأمينات الاجتماعية، وتحسين قطاعي الصحة والتعليم ومكافحة الجريمة، وحماية البيئة، وحق الإجهاض، وحقوق المثليين. وكانوا في الغالب يركزون على الشؤون الداخلية. وفي الجانب العسكري، فإن القاعدة هي تجنب التدخلات العسكرية المباشرة، في شؤون البلدان الأخرى، والتركيز بدلا عن ذلك على سياسة الحصار والاحتواء. وكانوا غير متحمسين لبرنامج الرئيس الجمهوري، رونالد ريجان المعروف بحرب النجوم. إنهم باختصار يتبنون قيام دولة الرفاه، ويقتربون في سياساتهم الاقتصادية من النظرية الكنزية، التي ترى أن تحقيق الرخاء والنمو الاقتصادي يرتبطان بقدرة المستهلك على الشراء. إن توفر البضائع في السوق يبقى بدون معنى إذا لم يكن هنالك من هو قادر على الشراء. وعلى هذا الأساس، فإن فرض الضرائب بشكل تصاعدي على الطبقات العليا، وتقنينها بالطبقات السفلى في المجتمع، وزيادة الخدمات الصحية والتربوية والاجتماعية، وخلق فرص وظيفية جديدة هو السبيل لانتعاش الاقتصاد.
ويمكن القول إن برنامج المرشحين الديموقراطيين هذه المرة، إذا غضضنا الطرف عن بعض التعديلات الطفيفة، لم يختلف عن برامج من سبقوهم من نظرائهم في الحزب، طيلة الخمسين عاما المنصرمة، باستثناء سياسة الرئيس الأمريكي ليندون جونسون التي أدت إلى التورط العسكري الأمريكي في فياتنام.
أما الجمهوريون، فإنهم على النقيض من ذلك تماما. يتبنون عادة سياسة اقتصادية أقرب إلى نظرية آدم سميث في “دعه يعمل”، معتمدين في تنمية الحوافز على التقليل من المصاريف الحكومية، وتقليص الضرائب والحد من الخدمات الصحية والاجتماعية والتعليمية، وتقليص البيروقراطية والاستغناء عن خدمات أعداد كبيرة من الموظفين الحكوميين، وتسعير المشاعر القومية. ويتسبب ذلك في تضخم الثروة لدى الطبقات العليا، ومضاعفة دخل الكارتلات النفطية والبنكية وتجارة السلاح، وزيادة الإنفاق على الجيش والصناعة العسكرية. وإضعاف للطبقة المتوسطة. وتكون النتيجة تقلص القدرة الشرائية لدى المواطنين، وسيادة كساد اقتصادي عام.
إن هذه القراءة هي التي تتيح لنا فهم أسباب الاختلاف بين الحزبين حول موضوع الانسحاب العسكري من العراق. إن ذلك بالتأكيد لا يعود إلى اختلاف في الرؤية الاستراتيجية للمصالح العليا للولايات المتحدة الأمريكية، بقدر ما يدور حول الوسائل التي ينبغي استخدامها لضمان تلك المصالح. وهي بالتأكيد تعود إلى برنامج ومصلحة كل طرف من الحزبين المتنافسين.
استمرار الحرب، يعني تشغيل ماكنة الإنتاج العسكري، وفتح الخزانة الأمريكية لتمويل تلك الحروب، واستغلال أموال دافعي الضرائب في اتجاهات لا تخدم تحسين المتطلبات المعيشية للمواطنين، ولا تعطي فسحة لنمو العمود الفقري للاقتصاد، الطبقة المتوسطة، التي يمثلها الديموقراطيون. إن المستفيد من استمرار الحرب هو الكارتلات المالية والصناعية الكبرى، التي يمثلها الجمهوريون.
أما استمرار الهيمنة على العراق، فليس هو موضوع السجال بين الحزبين، ولكنه سبيل استمرار هذه الهيمنة، حيث يرى الديمقراطيون أن الحل السياسي، وتحقيق المصالحة الوطنية، سوف يحقق ذات الأغراض التي يرى الجمهوريون تحقيقها بالخيار العسكري. لكن كليهما يغفل أن العراق المحتل، لن تحل مشاكله باستمرار الاحتلال والهيمنة، بل من خلال التسليم بحق العراقيين في الاستقلال والحرية وتقرير المصير. إن الحل الحقيقي لا يمكن أن يأخذ مكانه خارج أطر التفاوض مع الطرف المقابل، الذي يلحق الهزائم المتكررة في مشروع الاحتلال ويفشل مشاريعه.. ولا يبدو في الأفق حتى هذه اللحظة ما يشي بأن أياً من الحزبين على استعداد لتقبل هذا الواقع.
اضف تعليق
اسمك بريدك الالكتروني
تعليقك:
تعليقات
* تعليق #1 (ارسل بواسطة د،عبدالغني الماني)
كل الشكر والاحترام لهذا الجهد النبيل .. ولذلك نرى يا سيدي برجينسكي يقف الى جانب الديمو قراطيين في سياساتهم …والسلام ومع ألف ألف تحية … د.عبدالغني الماني المقدسي
* تعليق #2 (ارسل بواسطة ع.ن.خ)
سبحان الله بالأمس كان حق الفلسطينيين في الحرية والاستقلال واليوم حق العراقيين في الحرية والاستقلال. لاأدري عن الغد وعن الأعضاء الجدد في نادي الحرية والأستقلال وكله لأجل العيون الدعج وهلا فبراير!!!
* تعليق #3 (ارسل بواسطة المهندس عامرحداد)
لماذا لم يصدروا الامريكان ديمقراطيتهم في خمسينات القرن الماضي في عهد الملكية في العراق عندما كان المناخ السائد نوع من الليبرالية في الصحف والبرلمان أنذاك ؟وبعدمافرضوا
عليه أنظمة دكتاتورية مقيته ولمدة نصف قرن ( القاسمي والعارفي والبعثي الصدامي) !ليدخلوا الشعب العراقي في النفق المظلم ودون أي ضوء في نهايته والى حد الأن… والغاية في نفس يعقوب؟؟؟……