الانسحاب الأمريكي من العراق والملف الإيراني
في معرض مناقشاتنا المكثفة للسياسة الأمريكية في حقبة الرئيس باراك أوباما، التي تواصلت قبيل وبعد تنصيبه، أشرنا إلى أن الإدارة الجديدة سيكون لها مواقف مختلفة عن الإدارة السابقة، من عدد من القضايا التي تتعلق بمنطقتنا وبأمننا الوطني والقومي. وأوضحنا أن على رأس الملفات الساخنة التي على الطاولة الانسحاب من العراق، والملف النووي الإيراني، والتسوية السلمية للصراع العربي الصهيوني.
سنتناول في هذا الحديث مناقشة موضوعي الانسحاب من العراق والملف الإيراني. واختيارنا لمناقشة الملفين ليس صدفة أو اعتباطا، بل بسبب الترابط والتجاذب الحاد بين كليهما، بحيث أصبح حسم أي ملف منهما، مرتبط بمستوى التقدم بالملف الآخر.
ولعل من الأهمية التذكير، بما سبق أن أكدنا عليه، في عدد من الأحاديث عند مناقشتنا للسياسة الأمريكية حيال الملف النووي في عهد الرئيس السابق، جورج بوش باستحالة قيام إدارته بتوجيه أي ضربة عسكرية لإيران، طالما تواجد الجيش الأمريكي في بلاد الرافدين.
لقد أوضحنا في حينه أن إفرازات الاحتلال الأمريكي للعراق، أوجدت واقعا جديدا تمثل في هيمنة القوى الموالية لإيران على مختلف مؤسسات الحكم في “العراق الجديد”. وأشرنا إلى أن بلقنة العراق اعتمدت على القسمة الطائفية والإثنية، وكان من نتائجها توسيع دائرة النفوذ والمناورة، الإيرانية في العراق، بحيث أصبح من المتعذر على صانع القرار الأمريكي تبني أي قرار، ما لم يضع في حسبانه الموقف الإيراني وردود أفعاله من ذلك القرار.
لقد اختلفنا في تحليلاتنا، حول موضوع الملف الإيراني، مع معظم التحليلات التي توقعت قيام الإدارة الأمريكية بتوجيه ضربة عسكرية لإيران في عهد الرئيس بوش. وأشرنا في حديثنا الذي نشر في 16 يوليو من العام المنصرم، تحت عنوان مواجهة استراتيجية أم حرب تحريك بأن أسوأ ما يمكن أن تواجهه إيران عسكريا، هو قيام الكيان الصهيوني، بضربة عسكرية محدودة، ستمتلك إيران القابلية على احتوائها، وبعد ذلك تتدخل الإدارة الأمريكية بحوافز اقتصادية وتكنولوجية، مستخدمة الجزرة والعصا لإجبار إيران على التخلي عن برنامجها النووي، أو وضعه بشكل مباشر تحت رقابتها، أو رقابة حلفائها الأوروبيين. وانتهت الفترتين الرئاسيتين لبوش، دون اتخاذ أي قرار حاسم تجاه هذا الموضوع.
أمامنا الآن إدارة جديدة، يقودها الرئيس باراك أوباما. إدارة تطرح الحوار بدلا عن التلويح بالقوة، وتعلن عن عزمها على اتخاذ قرارات صعبة فيما يتعلق بالتواجد العسكري الأمريكي في العراق وأفغانستان، وتعد باللجوء إلى الحوار مع إيران، بدلا من المواجهة العسكرية، ملوحة بتقديم حوافز اقتصادية وعلمية للإيرانيين في حالة تعاونهم مع “المجتمع الدولي”.
وإذا ما أخذنا جملة تصريحات أوباما وفريق عمله، ووضعناها في سياق موضوعي ومنطقي، فإن تغيير الخارطة السياسية في العراق، إما عن طريق استبدال القوى الطائفية التي يستند عليها الاحتلال في مشروعه، سواء من خلال ما يدعى بالانتخابات، أو عن طريق انقلاب عسكري محلي، مدعوم أمريكيا، أو اللجوء إلى التفاوض مع المقاومة العراقية، والتوصل إلى حل مقبول يضمن استقلال العراق، وعودته حرا عربياً… إن تلك المقدمات شروط لازمة لا مناص عنها، إذا ما حسمت الإدارة الأمريكية الجديدة موقفها وقررت اعتماد المواجهة العسكرية مع إيران، كحل لا بديل عنه.
والواقع أن جملة ما هو متاح أمامنا الآن من معلومات لا يتيح لنا التنبؤ بوجود موعد حسم عسكري لتفكيك المنشآت النووية الإيرانية، بل يشير إلى أنه سوف يبقى مؤجلا لفترة ربما تطول لعامين قادمين على الأقل، من هذا التاريخ. صحيح أن ما هو متوفر من معلومات عن الأوضاع السياسية في العراق، يؤكد تراجع دور المجلس الإسلامي الأعلى، الذي يقوده عبد العزيز الحكيم، وهو التنظيم الذي يحظى برعاية خاصة من صانع القرار الإيراني، لكن حزب الدعوة الذي يقوده المالكي، الذي حظي بنصيب وافر من الكعكة في “الإنتخابات” الأخيرة، هو الآخر حليف للقيادة الإيرانية، وإن كان ذلك بنسبة أقل.
معنى ذلك أن إدارة الرئيس أوباما لا تزال تواجه موقفا سياسيا صعبا في العراق وإيران معا. فهذه الإدارة لا ترغب بكل تأكيد، أن تنسحب من العراق، وتتركه لحلفاء إيران. ومحاولاتها لإيصال إياد علاوى ومجموعته، ممن يعتبرون ليبراليين ومنسجمين في توجهاتهم مع الأمريكيين، ولا يحظون بحماية إيرانية قد فشلت “ديمقراطيا” حتى الآن. ولذلك فإن تغيير واقع الحال يقتضي اللجوء لسيناريوهات بديلة.
وإذا لم تتمكن الإدارة الأمريكية من تحقيق تفاهمات مع المقاومة العراقية، وفي حالة فشل محاولاتها السلمية مع إيران، فإنها ستجد نفسها مجبرة على الانسحاب، دون قيد أو شرط من العراق، وتركه يغرق في فوضى خلاقة، وأتون حرب أهلية لن يتمكن أحد من حسمها غير المقاومة العراقية. في هذه الحالة فقط، سيكون بمقدور الإدارة الأمريكية اتخاذ موقف عسكري حاسم من الملف الإيراني، أو التنسيق مع إسرائيل لتقوم بالوكالة بتنفيذ الضربة، مدعومة بتأييد ودعم سياسي وعسكري من الأمريكيين وحلفائهم في أوروبا.
إن لدينا جملة من القرارات والتصريحات تؤكد أن ورطة إدارة أوباما، وحماسه تجاه تفكيك المنشآت النووية الإيرانية، لا تقل عن تلك التي واجهها سلفه الرئيس، بوش.
وفي هذا السياق، يأتي تعيين أوباما للسيد، دينيس روس، المعروف بعلاقاته الوثيقة مع الكيان الصهيوني، بتولي الملف الإيراني كدليل واضح وجلي عن مدى اهتمام إدارة الرئيس الجديد بهذا الملف. كان روس في عهد الرئيس، كلينتون مبعوثا للسلام في الشرق الأوسط. وخلال فترة توليه لهذه المهمة، أثبت ولاء منقطع النظير لإسرائيل. وقد كشفت دورية “نيلسون ريبورت”، التي تتمتع بحظوة وثقة كبيرة في الأوساط السياسية الأمريكية، أن روس، هو أحد مؤسسي معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، الذراع البحثي لمنظمة إيباك اليهودية، كبرى منظمات اللوبي الإسرائيلي في أمريكا.
إن تعيين السيد دينيس يأتي دون شك لطمأنة الإسرائيليين، والتأكيد لهم أن ملف إيران هو في الأولوية من سلم اهتمامات الإدارة الأمريكية الجديدة. وفي هذا السياق، يرى المحلل الأمريكي البارز، السيد جيم لوب أن تولي روس للملف الإيراني سيؤدي إلى موقف أمريكي متشدد من قِبل إدارة أوباما تجاه إيران. وسوف تبقى “إسرائيل” من خلال نفوذها بإدارة الرئيس أوباما تضغط بقوة للتشدد في التعامل مع إيران. وهناك من يرى أنها ربما تبادر إلى القيام بضربة لإيران دون التشاور مع الإدارة الأمريكية، ولكن سياق الحوادث التاريخية السابقة، منذ نهاية العدوان الثلاثي على مصر عام 1956م، حتى الوقت الحاضر، يشير إلى استحالة إقدامها منفردة، بذلك، دونما تنسيق مسبق مع حلفائها الاستراتيجيين.
إن ما يدعم رأينا في أولولية الملف الإيراني بالنسبة للإدارة الأمريكية الجديدة هو أن الرئيس أوباما، رغم تأكيده لأهمية الحوار مع الإيرانيين، فإنه من جهة أخرى، وكما أشار في مقابلة له مع قناة “أن بي سي” أنه يعرض على الإيرانيين خيارا واضحا، يترك لهم أن “يختاروا بأنفسهم إن كانوا يريدون الطريق السهل أم الطريق الوعر”، مضيفا أنه يود أن تفهم إيران أن تطويرها برنامجا نوويا أمر “غير مقبول”.
وفي الاتجاه ذاته، تناقلت وكالات الأنباء أن فريق أوباما عقد اجتماعا مطولا مع مجموعات يهودية أمريكية في واشنطن، قبيل تنصيبه للبحث في قضايا رئيسية، بينها الملف الإيراني وعملية السلام بالشرق الأوسط. ونقلت مصادر مقربة لصحيفة «الحياة» أن فريق الرئيس الجديد أكد أولوية معالجة الملف الإيراني وتفعيل الوسائل الدبلوماسية وليس فقط العسكرية حيال طهران، وأكد أن الملف سيبقى في سلم أولويات الإدارة الجديدة، وسيبقى كذلك حتى إيجاد حل للمعضلة النووية.
فيما يتعلق بالعراق، تحاول الإدارة الأمريكية الجديدة أن تغلف سياستها المستقبلية، وبخاصة موضوع الانسحاب العسكري بالغموض من خلال تباين التصريحات. فحسب وكالة رويترز، أبدى وزير الدفاع الأمريكي روبرت غيتس ليونة تجاه جدول الانسحاب من العراق وفق رؤية أوباما، لكنه لم يؤيد بشكل واضح انسحابا سريعا من بلاد الرافدين، معتبرا فترة 16 شهرا، غير كافية لتحقيق الانسحاب. وقال في مؤتمر صحفي بواشنطون إنه ليس مهتما بالجدول الزمني، وأن القادة العسكريين ينظرون في الآليات الممكنة لتسريع الانسحاب بما يحقق الالتزامات الأمريكية للعراقيين. وفي وقت آخر، أشار أنه يريد انسحابا متعقلا، لكنه جاهر للاستماع إلى قادته. وكانت الخلافات بين الرئيس الجديد ووزير دفاعه حول سرعة الانسحاب من العراق موضوعا وصفه غيتس بأنه “فريد”، خاصة وأنه أول وزير دفاع أمريكي يبقى في منصبه خلال تغير إدارتين رئاسيتين.
وقال جيتس إنه يعتقد أن “الرئيس المنتخب أوضح بجلاء أنه يريد حوله فريقا من الأشخاص الذي سيقولون له ما يعتقدونه وسيعطونه أفضل نصائحهم. وأعتقد أنه حقق ذلك”.
لن ننتظر طويلا حتى تتضح ملامح السياسة الأمريكية في العراق بالمرحلة القادمة. فحسب صحيفة، “ماك كلاتشي إن أوباما سيعلن استراتيجيته في العراق على الأرجح منتصف مارس القادم. لكن الإعلان على أية حال، لن يكون القول الفصل، فالمنطقة لا تزال حبلى بأعاصير وبراكين، والعراقيون لن يقبلوا أبدا بأقل من الاستقلال التام.
وتبقى هناك في هذا الموضوع قضايا كثيرة جديرة بالمناقشة، علنا نتمكن من تناولها في أحاديث قادمة بإذن الله.
cdabcd
yousifsite2020@gmail.com