الاستراتيجية العربية محاولة للفهم
في حديث سابق تحت عنوان الإستراتيجية العربية: من الإستقلال إلى التسليم توصلت المناقشة إلى أن أحد الأسباب الرئيسة لفشل مجمل مشروعات النهضة العربية منذ الحرب العالمية الأولى حتى يومنا هذا هو غياب المفاهيم وضبابية الرؤية وعدم القدرة على القياس. وهكذا فإننا دخلنا معظم معاركنا دون وعي وبالتالي دون مناهج وبرامج. وكانت خطواتنا في الغالب ردود أفعال لاهثة ما تلبث أن تنتهي إلى كوارث مروعة وفشل ذريع. ولكي لا يكون كلامنا إسهاما في جلد الذات وتثبيطاً للهمم وبكاءً على الأطلال ومكوثا في عنق الزجاجة، وعدنا أن نناقش ما كان مغيبا في مشروعاتنا النهضوية وفي مواجهاتنا، وأيضا في حالات اقتحامنا وتراجعنا.
ويقينا فإن النظرة الموضوعية والرصينة تقتضي تحديد الأهداف ووضوحاً في الرؤية، سواء فيما يتعلق بطرائق تعاملنا مع التحديات التي تواجه أمتنا أو المخاطر التي تتعلق بأمننا الوطني والقومي، لأن وعي المفاتيح الرئيسة للنهوض والمواجهة على السواء هي وسيلتنا لفك كثير من الطلاسم، ولوضع المقدمات الضرورية للفهم. ولن يتسنى لنا تحديد تلك المفاتيح إلا بتنشيط الذاكرة وطرح الأسئلة، خاصة تلك التي تتعلق بقضايا أساسية ترتبط بمصيرنا ومستقبلنا، بل بوجودنا.
لنأخذ على سبيل المثال، قضية مركزية واحدة من قضايانا، ولنعمل الذهن في قراءتها. قضية فلسطين والصراع العربي مع الصهاينة. هذه القضية عاشت معنا ما يزيد على قرن من الزمن، منذ بشر ليون بينسكر اليهود في كتابة الانعتاق الذاتي بوطن خاص بهم يعوضهم عن حياة المنافي والشتات. وقد أصبحت شغلنا الشاغل وعدَّها الجميع قضية العرب المركزية، ومع ذلك ظلت المفاهيم حول طبيعة هذا الصراع إما مغيبة أو مرتبكة. فبعضنا عدَّ القضية شأنا فلسطينيا خاصا، والموقف العربي في هذه الحال هو من باب مناصرة الأشقاء عملا بالقول المأثور انصر أخاك ظالما أو مظلوما ووجد بعضنا الآخر في هذه القضية فرصا جيدة أعطت مشروعية للحكم من جهة، ومن جهة أخرى، غيبت استحقاقات وطنية تنموية وسياسية أُجِّلت أكثر من نصف قرن، تحت شعار لا صوت يعلو فوق صوت المعركة.
تعطل العطاء في مجالات التعليم والصحة وتوفير الماء والكهرباء والسكن اللائق، وبقيت الزراعة تدار بطرق بدائية ورثناها منذ زمن غابر، ولم نتمكن من الولوج إلى عصر التنمية الصناعية. من أي باب، وصودرت الحريات وفرضت حالة الطوارئ في عدد من البلدان العربية، وعطلت أشكال الإصلاح السياسي والاجتماعي والاقتصادي كافة، وحجب حق المشاركة في صناعة القرار تحت ذريعة الجهاد المقدس ومواجهة الأخطار الخارجية، وحين انتهت حرب عام 1948م اتضح أن جبهاتنا كانت مكشوفة والخنادق مخترقة، وأن جميع الزوايا كانت معتمة، لقد خاض العرب حربهم ضد الصهاينة، وكان جلوب باشا البريطاني الذي منحت بلاده وعد بلفور بإقامة وطن قومي لليهود على أرض فلسطين، هو قائد الجيوش العربية، وهكذا كانت الصورة كاريكاتيرية فاضحة.
وعللنا النفس بالاستفادة من ذلك الدرس القاسي والمر، وأن النكبة ستكون خاتمة الأحزان، واحتملنا من أجل المعركة والصمود تبعات قاسية أودت بما في خزائننا من مال، ووضعتنا على شفير هاوية من الفقر المدقع والجوع، واحتمل الجميع بصبر تبعات ما حصل، ذلك أن الهدف النبيل المتمثل بتحرير فلسطين تهون في سبيله كل التضحيات، وحين حل يونيو من عام 1967م بوجهه الكالح الكئيب سقطنا في قاع سحيق.
وقضية فلسطين التي كان يفترض فيها أن تكون أحد الأسباب في توحد العرب ومواجهتهم للخطر المحدق بهم مجتمعين أضحت عبئا على وحدتهم وعاملا في تعدد خنادقهم.
وعلى الجانب الآخر، كانت الأسطورة التاريخية تتقدم و”شعب الله المختار” يحث الخطى نحو الإطباق على ما تبقى من مشروعه في اكتساب فلسطين، وكان الصهاينة لا يكلون أو يملون من الحديث عن الحق التاريخي وعن عقدة الاضطهاد، وعمارة الأرض، وأن الأرض لمن يحرثها، وأن فلسطين أرض بلا شعب لشعب بلا أرض.
هل كانت فلسطين حقا قضية تخص الشعب الفلسطيني وحده؟ وهل تعامل العدو مع هذه القضية من هذا المنظور؟ سؤال حاولنا الإجابة عليه طيلة الخمسين سنة المنصرمة، لكيلا نحمل أنفسنا عقدة ذنب أخرى، لكنه سؤال مهم وتتوقف على الإجابة عليه كثير من خياراتنا، فعلى أرض الواقع كان اكتساب فلسطين من قبل الصهاينة قد مثل تحديا صارخا للأمن القومي العربي، وبالدرجة الأولى لدول الجوار، وقد خاضت الشعوب العربية معارك عديدة قدمت فيها فلذات أكبادها وخيرة شبابها.
وهو سؤال أجابت عليه الوثائق والبيانات الرسمية الغربية والصهيونية، وطبيعة التحالفات الدولية قبل أن تبدأ رحلتنا المضنية لفك طلاسمه. وفي هذا السياق، نشير إلى وثيقة وردت في كتاب تاريخ فلسطين للدكتور عبدالوهاب الكيالي يوضح فيها أن نابليون بعد الحملة الفرنسية على مصر وصل إلى الحدود الشمالية، عند مضائق إيلات وتطلع إلى سيناء، ووجه أنظاره إلى الشمال الشرقي حيث بادية الشام والعراق، وفي الجنوب حيث تقع جزيرة العرب، واستخلص من خلال هذه المشاهدة أن المنطقة الواقعة من نهر الأردن إلى البحر الأبيض المتوسط هي أهم منطقة استراتيجية في الوطن العربي، لأنها تربط مشرقه بمغربه. ورأى أنه من الضروري الهيمنة عليها من قبل الغرب، للحيلولة دون قيام امبراطورية قوية وقادرة على تهديد المصلحة الأوروبية.
وكانت رسالة ثيودور هرتزل إلى روتشيلد هي الأخرى واضحة ومعبرة، حيث يقول: سنقوم بتسديد ديون السلطنة العثمانية إذا قدمت الدعم لمشروعنا، وسنشكل بدولتنا اليهودية سياجاً واقياً يفصل بين العالم المتحضر والبرابرة، وفي الوقت نفسه سنحمل ثقافة الغرب ونبشر بها وندافع عنها. وكان السلوك الأوروبي في التصدي لامتداد دولة محمد علي باشا، والتعاون الفرنسي البريطاني الروسي من أجل هزيمة جيشه وإغراق أسطوله قد أكد بشكل لا يقبل الجدل رفض الغرب لأي نوع من الاتحاد بين البلدان العربية.
إن إشارتنا إلى هذه الحوادث لا تهدف بأي شكل من الأشكال إلى التقليل من دور الصهاينة في اغتصاب فلسطين، وإنما إلى توضيح أن المشروع الصهيوني جاء متوافقاً مع النظرة الغربية، وامتداداً للحركة الاستيطانية التي حدثت في الجزائر وجنوب إفريقيا وهكذا حصل زواج غير مقدس بين الصهاينة والغرب دفعنا نحن ثمنه، بعجزنا عن وعي طبيعة الصراع وفهم مفاتيحه الرئيسة.
ـــــــــــــــــــــ
yousifsite2020@gmail.com
د. يوسف مكي
تاريخ الماده:- 2005-04-06