الاحتلال والتنمية

0 200

يطرح باستمرار نموذجا اليابان وألمانيا كأمثلة حية للتدليل على أن المشاريع الأمريكية الهادفة للسيطرة على المنطقة ليست شرا. وأنها الطريق لقيام أنظمة ديمقراطية في الشرق الأوسط، ولتحقيق التنمية. أو لم تتبن الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها، إثر انتصارهم، بعد الحرب العالمية الثانية مشروع مارشال الذي بموجبه جرى إعمار ألمانيا واليابان؟ وهل كان بالإمكان انتصار الديمقراطية في أوروبا الغربية لو لم يتم القضاء على النازية والفاشية؟ وهل كان بإمكان اليابان وألمانيا التوصل إلى هذا المستوى المتقدم من النمو الاقتصادي والصناعي والتنافس في الأسواق العالمية لو لم يكن هناك مشروع مارشال؟ أو لم تصبح هاتان الدولتان هما الأكثر نموا في مؤشراتهما الاقتصادية، في العالم بأسره؟..

 

وتتوالى الأسئلة في صياغة مضللة تسعى للتأكيد على أن مشاريع الهيمنة الأمريكية على المنطقة، حتى وإن بلغت حد الاحتلال، هي أمور مطلوبة لكي ننتقل من حال الديكتاتورية والاستبداد إلى واقع الحرية والديمقراطية وأنظمة المؤسسات، ومن حال التخلف وتنمية الضياع، إلى تحقيق التنمية والنمو الاقتصادي بكل أبعادهما، والولوج في الثورة الصناعية من أوسع أبوابها.

 

قادت هذه الأسئلة إلى تذكر طرفة يتندر بها البعض من مثقفي اليمن. تقول الطرفة إن إمام اليمن أحمد بن يحيى، واجه في بداية الخمسينيات أزمة اقتصادية حادة، فاستشار أحد المقربين إليه عن كيفية الخروج من المأزق الاقتصادي، فاقترح عليه أن يعلن الحرب على الولايات المتحدة الأمريكية، وأن يستفيد من التجربة اليابانية. إن الجيش الأمريكي، بطبيعة الحال، سوف يحتل اليمن، ولكن هذا الجيش، كما أبرزت تجربة اليابان سوف يطيح بالمؤسسة العسكرية فقط ويبقي على الإمام في الحكم كما أبقى على الإمبراطور الياباني. وعندها سوف يكون هناك مشروع مارشال لإعمار اليمن وحل أزمته الاقتصادية. استبشر الإمام بهذا الحل، ولكنه اكتشف فجأة أنه مبني على احتمال واحد فقط هو انتصار أمريكا في الحرب، فتساءل ولكن ماذا سيكون عليه الأمر لو أن اليمن هي المنتصرة؟. يبدو أن هذه الطرفة قديمة، وأن التندر بها أيضا قديم، لم يأخذ المتندرون في الاعتبار هزيمة الغول الأمريكي في الهند الصينية: فيتنام ولاوس وكمبوديا، ولا الهزيمة الأمريكية في الصومال وهروب قوات المارينز من لبنان. وبالتأكيد لم يتسن للذين يرددونها معايشة الوضع الذي يواجهه الجيش الأمريكي الآن في المستنقع العراقي.

 

هل صحيح أن الولايات المتحدة قد أتت بالديمقراطية والتنمية إلى اليابان وألمانيا، وأن استسلام البلدين بعد هزيمتهما في الحرب العالمية الثانية هو سبب نهوضهما الاقتصادي والصناعي؟.

 

بالنسبة لقضية الديمقراطية، فلسنا بصدد الغوص عميقا في هذا الموضوع. فألمانيا هي بلد أوروبي، وقد مرت بالتطور التاريخي الذي مرت به الدول الأوروبية الغربية الأخرى، والذي أنتج التحولات الديمقراطية، بما في ذلك إقرار مبدأ العلاقات التعاقدية، الذي بشر به جان جاك روسو، والفصل بين السلطات التنفيذية والقضائية والتشريعية. وقد وصل الفاشيون في إيطاليا والنازيون في ألمانيا عبر صندوق الاقتراع وعن طريق الانتخابات، بمعنى أن هاتين الحركتين قد ولدتا من رحم النظام الديمقراطي الغربي، وليس من خارجه. وكان وصولهما إلى الحكم تعبيراً عن أزمة اقتصادية عاشها النظام الرأسمالي في البلدين، وفي العالم الغربي أثناء تلك الحقبة.. إن وصولهما في حقيقته هو تعبير عن أزمة الديمقراطية الغربية ذاتها. والوضع في اليابان لم يكن بعيدا عن ذلك بكثير، إذا ما استثنينا كون اليابان بلداً آسيوياً، لم يمر بذات المسار التاريخي الذي مرت به التجربة الأوروبية، فيما يتعلق بالعلاقة التعاقدية والفصل بين المؤسسات.

 

لم تبدأ مسيرة النمو الاقتصادي في ألمانيا واليابان بعد الحرب العالمية الثانية. فتاريخ البلدين يشهد بأنهما كان لديهما ثقل عسكري واقتصادي عالمي. وقد خاضت ألمانيا، بقدراتها الذاتية، حربين عالميتين انتهت الأولى بهزيمتها عن طريق تحالف دولي فتي، في حين كان حلفاؤها الأتراك يضعون عليها الثقل الأول في خوض الحرب. أما في الحرب العالمية الثانية فقد تمكن الألمان من احتلال عدد من البلدان الأوروبية، بما في ذلك بلجيكا وفرنسا، وصارت طائراتهم تمارس قصفا يوميا للعاصمة البريطانية. ولم يتغير مجرى الحرب إلا بعد دخول الاتحاد السوفييتي، وفي مراحل لاحقة الولايات المتحدة الأمريكية جبهة الحرب.

 

وكانت اليابان، أثناء تلك الحرب، قوة عسكرية لا يستهان بها، تمكنت طائراتها من قصف ميناء بيرل هاربر. وكانت تلك الحادثة من الحوادث النادرة التي تتعرض لها السواحل الأمريكية لقصف من الخارج.. بل لعلها الأولى والأخيرة في التاريخ الأمريكي الحديث.

 

حين خرج البلدان من ركام الحرب، وبدأت مرحلة الإعمار، استغل البلدان قدراتهما البشرية المتطورة، وإمكانياتهما المادية ومخزونهما المعرفي، وتم استثمار ذلك بشكل ليس له نظير، في عملية البناء وأخذ المكان اللائق من جديد على الخارطة السياسية الدولية.

 

صحيح أنه كان هناك مشروع مارشال، ولكن هذا المشروع لم يكن تعبيرا عن أريحية القوة الغاشمة التي تفردت، في التاريخ الإنساني، باستخدام الأسلحة النووية في هيروشيما وناجازاكي. بل العكس هو الصحيح. فاليابان التي فرض عليها الاستسلام من قبل الحلفاء، ومنعت بموجب قوانين الاحتلال، من إعادة بناء قوتها العسكرية، كانت تملك من القدرات ما يجعلها محط أنظار الطامع المحتل. فهي أولا بلد قريب من الكثافة السكانية في العالم.. حيث لا تبعد كثيرا عن الصين والهند، أكبر مخزنين بشريين في العالم. وبها من السواحل العميقة، ما يكفي لاستقبال أكبر الأساطيل. وهي أيضا تضم قوى عاملة رخيصة، إذا ما قيست أجورها بتلك التي يقدمها الأمريكيون للعمال في بلدهم. وكلفة الشحن والمواد والتأمين في اليابان بعد الحرب أقل منها في الولايات المتحدة الأمريكية. ومن هنا فإن اختيارها من قبل الشركات الأمريكية لتكون إحدى أهم المحطات الرئيسية لاستثماراتهم يأتي في سياق موضوعي صحيح.

 

ومثل هذا القول، ينطبق بشكل أو بآخر، على ألمانيا الغربية. فقد خرجت من الحرب وكانت كتلة من خراب. وكانت إعادة إعمارها فرصة لا تقدر بثمن للمستثمرين الأجانب. وألمانيا كما هو معروف تقع في القلب من أوروبا. فهي والحال هذه مكان ملائم لكي تكون محطة لتصنيع ونقل المنتجات إلى آسيا وإفريقيا ومنطقة البحر المتوسط. وهي أيضا المكان المناسب للتسلل الأوروبي الغربي لأوروبا الشرقية، التي شكلت بعد الحرب كتلة عسكرية وسياسية موالية للاتحاد السوفيتي، القطب الآخر الأعظم في صناعة السياسة الدولية في الفترة التي أعقبت نهاية الحرب مباشرة، حتى تفكك هذا البلد في مطلع التسعينيات من القرن المنصرم.

 

وبنبغي في إطار هذا التحليل أن يؤخذ بعين الاعتبار انبثاق الحرب الباردة بين الكتلتين، الرأسمالية والشيوعية بعد الحرب العالمية الثانية، وأثر ذلك في صياغة السياسة الأمريكية والأوروبية الغربية تجاه ألمانيا واليابان، بما أدى إلى الطفرة الصناعية والنمو الاقتصادي في هذين البلدين. وتلك أمور جديرة بالتحليل والتفكيك، في حديث آخر بإذن الله.

 

yousifsite2020@gmail.com

 

 

د. يوسف مكي

تاريخ الماده:- 2006-02-15


 

 

2020-06–0 2-:03

عزيزة الخولى من مصر

السلام عليكم

إن أول مايلفت نظرى بشدة فى مقالاتكم الرائعة العنوان ؛ فإن عناوين المقالات جد ممتازة وموفقة،أما عن المقالة نفسها فإنها لا تخلو بالطبع من معلومات مفيدة جدا ، ورؤية ثاقبة جريئة ، وتنم عن ثقافة متنوعة وعميقة.

أحييكم تحية حارة على هذه الروعة

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

14 + اثنان =


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.

د.يوسف مكي