الاحتلال والإرهاب

459

في الثامن من ابريل عام 2003، سقطت العاصمة العراقية، بغداد بيد قوات الاحتلال الأمريكي. وإثرها غرق العراق، في بحور من الفوضى وانعدام الأمن والقتل على الهوية. وبرزت حالات الانتقام والكيد من التاريخ، من قبل القوى الشعوبية، التي خاضت حربا ضروسا استمرت ثماني سنوات، فيما بات معروفا بالحرب العراقية- الإيرانية.

 

ومنذ ذلك التاريخ، تأكد وجود علاقة طردية، بين الاحتلال والإرهاب. فكلما تصاعدت جرائم الاحتلال، كلما تصاعدت مقاومة الشعب المحتل لجرائمه. وعندما يتم هتك الأعراض، وتغيب منظومة القيم الأخلاقية التي صنعت تاريخ بلاد ما بين النهرين، تتخذ المقاومة أشكالا أكثر عنفا وضراوة، لتكون متماهية، ومعادلة لجرائم الاحتلال، والقوى الطائفية، التي ارتبطت بالعملية السياسية التي دشنها، منذ البداية.

كان ذلك قد حدث قبل أكثر من عقدين، من احتلال العراق، حين دخلت الدبابات الروسية، مدينة كابل الأفغانية، في مطالع الثمانينات من القرن الفائت، فتصدى لها الأفغانيون بصدورهم الغارية. تأسست “حركات جهادية”، لمقاومة المحتل، تحولت لاحقا إلى جزء ملحق بالحرب الباردة الدائرة، في حينه بين الأمريكيين والسوفيات. وتم استقبال المقاتلين الأفغان، من قبل الرئيس رونالد ريجان، باعتبارهم أبطالا يقارعون الشيوعية.

لم يكن للمقاومة الأفغانية، في ظل البنية القبلية، والمواريث الدينية، وطبيعة الاصطفافات الدولية والإقليمية، خلاف ما جرى. فالشعب الذي يتعرق لمقاوماته ومورثاته، يمارس حيله الدفاعية، مستنهضا تاريخه، وإرثه لمقاومة الاحتلال. فكان أن اتخذت المقاومة شكل الحركات الجهادية. وقد حظيت آنذاك بدعم غربي، باعتبارها ملحقا في الصراع ضد الشيوعية.

لكن الأمر تغير جذريا، بعد تحرير أفغانستان. فالحركات الجهادية، وبشكل خاص بعد بروز حركة طالبان، وارتباطها الوثيق بتنظيم القاعدة، تحولت من حركة تحرير أفغانية، في مواجهة الاحتلال السوفييتي، إلى حركة جهادية عالمية. وتحول الأمريكيون حلفاء الأمس، إلى خصوم في الحقبة التي أعقبت هزيمة السوفييت. وبدأ تفريخ منظمات الإرهاب، المرتبطة بتلك التنظيمات، على مستوى العالم بأسره. وكان نصيب الوطن العربي من ذلك، هو حصة الأسد.

حين احتل العراق، من قبل الأمريكيين، لم تكن هناك حاجة لابتداع وسائل جديدة، لمقاومة المحتل والقوى المرتبطة به. فالأمريكيون الذين قاتلهم الأفغانيون والمتطرفون العرب، جهاديو الأمس قد باتوا يحتلون أرض السواد. وقد مارسوا جرائم القتل، وهتك الأعراض، كأي قوة احتلا ل في التاريخ. وبرزت التقارير عن جرائم كبرى، يندى لها الجبين الإنساني، في سجن مطار بغداد، وفي سجون أبو غريب. وتزامن ذلك مع جرائم ارتكبتها العصابات الطائفية في سجون الجادرية. وفي ظروف كهذه، تكون المواجهة معادلة لعنف المحتل، وربما تكون أعنف من ذلك. وهكذا رأينا السيارات المفخخة والأحزمة الناسفة، تحضر مجددا وبقوة في المنازلة العراقية للمحتل. ومعها حضرت منظمات الإرهاب من القاعدة وأخواتها.

تأسس تنظيم الدولة الإسلامية في العراق، لاحقا بقيادة مصعب الزرقاوي. واتخذت مركزا لها في محافظة الأنبار، المحافظة المعروفة بتقاليدها الإسلامية المحافظة، وبإرثها في مقاومة المستعمر البريطاني، في ثورة العشرين. ولم يكن صدفة أن يتصدى العلماء المسلمون، وشيوخ العشائر مجددا للمحتل. فهؤلاء هم الذين حملوا تاريخيا، في تلك المحافظة مسؤولية مقاومة المحتل.

قتل الزرقاوي لاحقا، في محافظة ديالى، لكن تنظيمه بقي متماسكا، وتوسع حضوره في عدد آخر من المحافظات العراقية، فبلغ نينوى وصلاح الدين إضافة إلى الأنبار وديالى. مارست تنظيمات الإرهاب، جرائم القتل والنهب، بطريقة أشد ضراوة من تلك التي مارستها التنظيمات الطائفية.

وحين برزت الأزمات في عدد من البلدان العربية، بعد ما عرف بالربيع العربي، توسع تنظيم داعش، وبدأ يأخذ كثيرا من حصة التنظيم الأم، تنظيم القاعدة. تحول مسمى داعش إلى تنظيم الدولة الإسلامية، في العراق وبلاد الشام. ومع عسكرة الانتفاضة السورية، انتقل أفراده إلى سوريا، وشاركوا مع غيرهم من المقاتلين، من مختلف الجنسيات، في احتلال المدن والبلدان السورية. ولم يختلف نهجهم العنفي، وارتكاب الجرائم والقتل على الهوية، عما مارسوه من قبل، في أرض السواد.

ورويدا رويدا، توسع تنظيم داعش، وانتشر في معظم البلدان العربية، مستغلا الأزمات الاقتصادية والأمنية، ليحقق اختراقات واسعة فيها.

تأكد بما لا يقبل الجدل، وجود علاقة طردية، بين وجود المحتل، ووجود تنظيمات الإرهاب. ولا نعنى هنا بالاحتلال، شرط حضوره المباشر على الأرض. بل يشمل ذلك التدخلات الإقليمية والدولية، في شؤون البلدان العربية، دعما لهذا الطرف أو ذاك، من الأطراف المتناحرة، في بلدان “الربيع العربي”، كما هو الحال الآن في سوريا والعراق وليبيا واليمن، ولا يستثني السودان والصومال من ذلك.

فهذه التدخلات، التي تأتي في شكل تدريب على السلاح، وتقديم مختلف أشكال الدعم، سواء لما بات يطلق عليه بالمعارضة أو الموالاة، هو الذي يمد في عمر الإرهاب، ويطيل حضوره. وفي بلدان عربية، هناك أكثر من حكومة، وأكثر من جيش، بل إن هناك أكثر من تسعة عشر إمارة في ليبيا، يدعي كل منها شرعية التمثيل للشعب الليبي المقهور.

وقد ناقشنا في أحاديث سابقة، علاقة الإرهاب بالاختلال الراهن في موازين القوى الدولية. وأن عودة الأمن والاستقرار إلى المنطقة، هو رهن بتسويات تاريخية بين الكبار. ومرة أخرى، نؤكد أن فعل الإرهاب، سيتواصل على الأرض العربية، وإن بنسب مختلفة، إلى أن ينتهي الاحتلال، عن الأرض العربية، وتتوقف التدخلات الإقليمية في الشؤون الداخلية للمنطقة. وحينها لا يعود من مبرر، للإرهاب لأن شرط حضوره، هو تكامل العلاقة الطردية بينه وبين المحتل.

makki@alwatan.com.sa

كاتب أكاديمي سعودي متخصص في السياسة المقارنة

د.يوسف مكي