الاحتلال مشروع حرية أم استلاب؟
ما زال العزف الصاخب مستمرا، رغم بحر الدم الذي يغمر كل زاوية من زوايا عاصمة الرشيد، رمز العنفوان والكبرياء في تاريخ العرب. لا يزال هناك من يصدق أن العقب الحديدية هي وحدها الطريق للخلاص من أنظمة الديكتاتورية والاستبداد، ولنشر قيم التسامح والديموقراطية, ولذلك نجد أنفسنا مجبرين باستمرار، على معاودة الحديث ومواصلة التحليل والتفكيك، علنا نساهم في التحريض على الوعي، وتنشيط الذاكرة.
وكما اعتمدنا من قبل على التاريخ في جملة قراءاتنا للمواضيع المتعلقة بمشروع الشرق الأوسط، بمختلف تفرعاتها، نؤكد من جديد على الاستمرار في هذا النهج، كبوصلة لا مفر منها لكشف الزيف، وفضح ما هو مضمر في شعارات الهيمنة.
وفي هذا الاتجاه، يجدر لفت الانتباه إلى أن رفع شعارات التمدين والديموقراطية، من قبل الغرب كان دائما يتزامن مع مشاريع استعمارية للهيمنة على شعوب العالم الثالث، وأنه يأتي متوافقا مع استراتيجيات ومشاريع ليس لها صلة بمصلحة تلك الشعوب.
إن سجل الاستعمار، خلال النصف قرن المنصرم حافل ليس فقط بمساندته ودعمه لأنظمة الاستبداد والديكتاتورية، ولكن أيضا بسعيه الحثيث لإسقاط أنظمة ديموقراطية، وصلت إلى الحكم عن طريق صناديق الاقتراع. وفي حالات كثيرة نتج عن ذلك الإطاحة بحكومات شرعية ووطنية، واستبدالها بأنظمة عسكرية وديكتاتورية. حدث ذلك في إندونيسيا حين أطيح بالرئيس أحمد سوكارنو، وفي مساندة الولايات المتحدة لنظام ماركوس في الفلبين، والإتيان بفان ثيو في فيتنام، ولون نول في كمبوديا، وموبوتو في الكونجو، والإطاحة بالليندي سيلفادور وإقامة نظام عسكري استبدادي بزعامة بونتشيه، وساند الغرب أنظمة فاشية في البرتغال، وإسبانيا، إبان حكم سالازار، وفرانكو، كما ساندوا حكم مندريس في تركيا، وضياء الحق بباكستان. ووقفوا إلى جانب المعارضة ضد أنظمة وطنية، في غينيا وغانا، والكونجو، كما كان الحال عندما وقف الغرب ضد سيكوتوري ولومومبا، وناكروما ومحمد مصدق وذوالفقار علي بوتو، ونوردوم سيهانوك.
سيرد على جدلنا هذا بالقول بأنك تغرق كثيرا، في التاريخ وتستطرد في سرد الحوادث، وهذه سمة خاصة لمن يعتقلون أنفسهم خلف الأسوار التاريخية. لا بأس إذن، دعونا لا نقف كثيرا عند هذه السلسلة الممتدة من السلوك العدواني الغربي، تجاه شعوب العالم الثالث، ولنخرج من “نظرية المؤامرة” فربما كان ذلك أجدى وأفضل. فلنقفز إلى الحاضر، لنطل على ما يجري الآن، وآخره إعلان الرئيس شافيز أنه لا يستبعد أن تعمد الإدارة الأمريكية إلى تصفيته جسديا، بعد أن فشلت عدة محاولات لقلب نظامه. ولمن يفتقر إلى الذاكرة، أو لا يقرأ جيدا، نؤكد له أن شافيز وصل إلى الحكم عن طريق ديموقراطي، وبالقيم الليبرالية وبواسطة صناديق الاقتراع.
وفي السياق ذاته نذكر أيضا أن حركة المقاومة الإسلامية (حماس) وصلت إلى السلطة عن طريق صناديق الاقتراع، ورفض الكيان الصهيوني والإدارة الأمريكية التعامل معها، وفرض إثر ذلك حصار جائر على الشعب الفلسطيني. وحتى بعد لقاء مكة بين الفلسطينيين، أعلنت الإدارة الأمريكية أن موقفها من حكومة الوحدة الوطنية سيتحدد بعد مراجعة قائمة أسماء أعضاء الحكومة الجديدة. وبعد الإعلان عن أعضاء الحكومة اتخذت الإدارة الأمريكية واحدا من أغرب القرارات في السياسة الدولية، خلاصته نتعاون مع بعض الأعضاء، ونرفض التعاون مع البعض الآخر.
هكذا نتوصل إذا إلى أن الذي يحكم الموقف الغربي من الأنظمة السياسية في بلدان العالم الثالث، ليس هو مدى التزام تلك الأنظمة بالقيم الليبرالية والديموقراطية، ولكنه مدى اقتراب أو ابتعاد تلك الأنظمة من أو عن المصالح الأمريكية. ومن أجل تحقيق تلك المصالح، لا تمانع في خرق المواثيق الدولية، ومبادئ الأمم المتحدة، وفي المقدمة منها حق تقرير المصير، وعدم جواز التدخل في الشؤون الداخلية للبلدان الأخرى، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ونصوص القانون الدولي. إن سحر شعارات الديموقراطية والحرية، قد جعل بعض المثقفين الذين يتبرقعون بتلك الشعارات، يطالبون بتغيير مبادئ الأمم المتحدة المؤكدة على حق تقرير المصير، والتي لا تجيز لقوى الهيمنة التدخل في شؤون البلدان الأخرى، وذلك دون شك يعتبر تراجعا عن قيم الحرية، لأن تطوير تلك المبادئ يفترض به في كل الحالات أن يكون صعودا إلى الأعلى، وليس نكوصا، بمعنى أن يعزز نزعات التحرر والاستقلال، وتعزيز مبادئ حق تقرير المصير، وليس العكس. ومن هنا تبدو الدعوة إلى مراجعة القرارات الأممية التي أكدت حق الشعوب في اختيار نظمها السياسية ضد حركة التاريخ ومسيرة الإنسانية الصاعدة. وهي دعوة قد تجد لها صدى مع سيادة هيمنة الآحادية القطبية، لكن هذه الحالة، باتفاق غالبية علماء السياسة تعتبر استثناء في التاريخ، والسياسة الدولية قانونها الطبيعي هو الصراع والتنافس، وليس الانسجام والتجانس.
والتجربة التاريخية التي لا مفر من الإقرار بها، تؤكد لنا أن الديموقراطية هي سيرورة تاريخية، وناتج تحولات اجتماعية جذرية، واختلال في توازن القوى، لصالح تقوية الهياكل السياسية والاقتصادية والتنموية، والانتقال إلى اقتصادات لا تعتمد على مصادر الثروة الاستخراجية، وأن تكون مستقلة، بمعنى ألا تكون تابعة أو فروعا لصناعة اقتصادات أخرى. إن التطور الاقتصادي ينبغي أن يكون حاصل تنمية حقيقية تنطلق من استقلالية مخرجات التنمية وأصولها وقواها المحركة، وتنبع وتصان من قبل قوى اجتماعية واقتصادية في داخل بلدانها.
وحين نتحدث عن الاندماج بالسوق العالمي، أو بمشاريع أخرى، كمشروع الشرق الأوسط الكبير أو الجديد، فإن من الأهمية أن نضع بعين الاعتبار اختلاف الظروف التي حدثت فيها عملية التصنيع في الدول الغربية عن تلك التي حدثت في العالم الثالث. إن أوروبا استطاعت بناء صناعاتها من خلال نهبها للبلدان المتخلفة من العالم، بتحويل رأس المال الكامن، مستخدمة إياه في تمويل الصناعات الأوروبية، وفي الوقت نفسه قامت البلدان الاستعمارية بالاستيلاء على الأسواق. أما في بلدان العالم الثالث، فقد كان على السوق أن يتنافس في الأسواق لا مع الإنتاج الحرفي التقليدي وغير الكفء فحسب، بل أيضا مع أكثر المشاريع الصناعية تطورا في البلدان الرأسمالية المتقدمة. ولذلك فإن عملية التنمية الاقتصادية، وبالتالي الاجتماعية والسياسية في البلدان النامية تواجه صعوبات بالغة ليس فقط في اقتحام الأسواق المحلية، حيث تفترض العولمة غياب الحماية للصناعات المحلية، جملة وتفصيلا، بل أيضا في اقتحام الأسواق الأجنبية، وبخاصة أسواق الدول الرأسمالية المتطورة التي من البديهي افتراض أن يكون تركيب أنظمة التعرفة فيها مصمما لصالح الرأسماليين أنفسهم.
إن الحديث عن تطبيق الديموقراطية، يستوجب الحديث عن توفر مناخاتها، وبضمن تلك المناخات، وجود القوى الاجتماعية الحاملة لمشروعها. وإلا فإن النتيجة سوف تكون إضفاء الشرعية على الهياكل الاجتماعية القديمة، من خلال الاحتكام لصناديق الاقتراع. وهو ما لا ينسجم مع حقائق التطور التاريخي. فالدعوة هنا، وإن تلفعت بشعارات وعصرية، لكنها في حقيقتها ستؤدي إلى تحديث للتخلف، ومنحه بصمة مشوهة، لا تنسجم مع قيم الحرية النبيلة. بالتأكيد ليس المقصود هنا هو أن يستمر الحال على ما هو عليه، على النقيض من ذلك، فإنها دعوة صادقة لتوفير مستلزمات النهوض، وخلق الحاضن الحقيقي لمشروع النهضة، القادر على الدفع بمسيرة التنمية. وإلا فإن ما سوف يحدث، وكما هو حاصل فعلا في عدد من البلدان العربية، يصدر التوجه الديموقراطي بفرمان من الأعلى، وتقوم البرلمانات، ويسمح للتوجهات السياسية والاجتماعية بالعمل، ثم عندما تتغير الظروف يجري، وفقا لمصالح البناء الفوقي، بفرمان آخر، حل تلك المؤسسات “الديموقراطية”.
السيرورة التاريخية، والفعل الإرادي الإنساني هما اللذان يصنعان الحرية، ويقربان من تحقق قيم الديموقراطية، أما الاحتلال فلن ينتج عنه سوى مزيد من مصادرة الحقوق، ومزيد من الاستلاب.
cdbacd
yousifsite2020@gmail.com