الاحتلال الأمريكي للعراق: مستلزمات المقاومة

0 191

تؤكد معظم المؤشرات أن ما يجري على أرض الرافدين الآن من مقاومة باسلة ومواجهات شعبية، وتعرض مستمر والتحام مباشر مع قوات الاحتلال الأمريكي، وكر وفر، ستحدد معالم الطريق ومستقبل الوطن العربي بأسره. إن انتصار المقاومة ودحر العدوان سوف يشكل مفصلا تاريخيا ونقلة نوعية في حياتنا المعاصرة، وعلى صخرتها ستتحطم كل المشاريع والإستراتيجيات الاستعمارية التي رسمت من أجل صياغة خارطة سياسية جديدة لمنطقتنا.

 

إن معركة المقاومة، على هذا الأساس، هي المعركة الكبرى للأمة العربية، حيث أن نتائجها سوف تحدد خطي الصعود والنهوض، المشروطين بتحقق النصر، أو خطي النكوص والسقوط، إذا لم تنته نتائج المواجهة باندحار كامل لقوى الاحتلال. وبالقدر الذي تستمر فيه المقاومة ويتصاعد إيقاعها بالقدر الذي تتراجع فيه القوى الإمبريالية، بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية عن تنفيذ خططها ومشاريعها الأخرى. ولهذا تصبح مهمة التصدي والمواجهة للاحتلال، على الصعيدين الرسمي والشعبي مسؤولية وطنية وقومية، ينبغي أن تتعدى حدود العراق، وأن تمتد ساحتها من المحيط إلى الخليج.

 

ولعل أهم الشروط الرئيسية لانتصار المقاومة العراقية هو الرفد العربي لها، وهذا الرفد ينبغي أن يتضمن مختلف الأشكال المادية واللوجستية والتعبئة الشعبية وخلاف ذلك.. فذلك وحده السبيل لإنقاذ سوريا، ومصر والجزيرة العربية، ولتعطيل الاستراتيجية الكبرى لمعهد راند ومشاريع ريتشارد بيرل، والنوايا الشريرة للإدارة الأمريكية والصهيونية العالمية. إن احتضان المقاومة العراقية ورفدها، يصبح شأنا دفاعيا عن الوجود بالنسبة للعرب جميعا، وبشكل خاص الأقطار التي تتعرض بشكل مباشر ومستمر للتهديد والوعيد من قبل الأمريكان.

 

لكن الرفد الشعبي العربي للمقاومة العراقية لن يأخذ بعده الإستراتيجي، وتأثيره المباشر على النتائج السوقية ما لم يتصاعد خط المقاومة عموديا وأفقيا، بحيث تتصاعد ضرباتها النوعية والمؤثرة في خاصرة الغزاة من جهة، وتمتد لتشمل الساحة العراقية، ولتتواجد مضاربها في كل مدينة وقرية من زاخو شمالا إلى جنوب البصرة، ومن خانقين شرقا حتى أبو الشامات والحدود مع الأردن غربا. ولتمثل مختلف التوجهات والأطياف السياسية والأقليات القومية، ومختلف الطوائف والمذاهب والأديان في المجتمع العراقي.

 

وقد لا نضيف جديدا إذا قلنا إن العمود الفقري للمقاومة العراقية، حتى الآن، يتكون من أعضاء في حزب البعث العربي الاشتراكي والجيش العراقي والحرس الجمهوري وفدائيي صدام. وذلك وضع طبيعي جدا، فهؤلاء عاشوا تجربة في الحكم طويلة استمرت خمسة وثلاثين عاما، مر خلالها العراق بمواجهات عسكرية، في السبعينيات من القرن المنصرم، مع الحركة الكردية الانفصالية في الشمال بزعامة الملا مصطفى البرزاني، اكتسب خلالها الجيش العراقي خبرات واسعة بفنون المقاومة الشعبية وحروب العصابات، وخلال الثمانينيات خاض الجيش ومعه الحرس الجمهوري والجيش الشعبي حربا استمرت ثماني سنوات مع إيران، شملت معارك في الجبال والوديان والأهوار. ومنذ حرب الخليج الثانية، طورت القيادة العراقية أساليب وأدوات لمواجهة الإعتداءات الأمريكية المتكررة على البلاد، واكتسب الجيش العراقي خبرة واسعة وطور تكتيكاته وأساليبه وأسلحته وأدواته من خلال تلك المواجهات.

 

يضاف إلى تراكم الخبرة، تراكم آخر في التنظيم والعدد والعدة والمال، وجميعها مستلزمات أساسية لاستمرار المقاومة وضمان تصاعدها. إن التسليم بهذه الحقائق هو مقدمة لا بد منها لتجاوز المعضلات التي تقف دون انتشار حركة المقاومة، بخط أفقي إلى عموم مدن العراق وقراه وأريافه، وتعبئة جماهير الشعب العربي لتكون رافدا رئيسيا لهذه الحركة.

 

ليس هناك من ضير في أن يكون البعث هو العمود الفقري للمقاومة الآن في هذه المرحلة، ولكن ذلك، سينعكس سلبيا، على نمو وتصاعد العمليات القتالية، إذا استمرت الأوضاع على حالها، ولم تتمكن حركة المقاومة من الإنتقال من كونها طليعة للشعب العراقي، تقاتل في بعض من أجزاء الوطن، وتقتصر في بنيتها الرئيسية على طيف سياسي بعينه دون سائر الأطياف الأخرى. إلى كونها جيش الشعب وممثلة لمختلف أطيافه وطوائفه وأقلياته وتوجهاته. إن ذلك وحده هو الذي يمنحها زخما كبيرا وقدرات هائلة تمكنها من تحقيق أهدافها واستراتيجياتها في زمن قصير.

 

إن قيام الجبهة الوطنية العريضة التي تضم مختلف فعاليات الشعب العراقي، على هذا الأساس، يصبح ضرورة ملحة، تقتضيها مطلب طرد الاحتلال وبناء المجتمع الأبي الحر، وتحقيق التقدم والبناء. على أن ذلك لا زال، رغم أهميته، يصطدم بمعوقات كثيرة، نتجت عما تراكم من أوضاع سلبية في علاقات القوى الوطنية العراقية مع بعضها البعض. والمؤسف أن جدارا غليظا قد تشكل منذ أن سقطت أول محاولة جبهوية استطاعت أن تنجح برنامجها المتمثل في القضاء على حلف بغداد وإعلان الجمهورية وطرد الإستعمار البريطاني من قاعدتي الحبانية والشعيبة، وتأميم النفط وتوزيع الأراضي على الفلاحين وبناء القاعدة الإقتصادية المتينة، والتوسع في مجالات التعليم والصحة والزراعة. إن تلك النجاحات ينبغي أن تكون محرضا في هذه اللحظات المصيرية من أجل استعادة فكرة تأسيس الجبهة العريضة والعمل على إنجاحها.

 

إن قطيعة زمانية استمرت ما يقرب الخمسة والأربعين عاما بين القوى الوطنية العراقية، باستثناءات محدودة، ستجعل من عملية المخاض الجديدة صعبة للغاية، لكنها بالتأكيد ليست مستحيلة. ونجاح العملية مرهون بشكل كبير إلى قدرة الجميع على الارتفاع فوق الجراح، وممارسة عملية نقدية ذاتية صارمة بهدف قراءة التجارب السياسية المريرة التي مر بها المناخ السياسي العراقي. وإذا أخذنا الجانب العملي في هذه القراءة، فإن على حزب البعث وعناصره، بالدرجة الأولى، أن يمارسوا عملية النقد هذه. فهؤلاء كانوا على رأس الدولة لفترة قاربت الخمسة وثلاثين عاما، وكان من المفترض أن يتم انتقال المجتمع العراقي إلى المشروعية الدستورية والمجتمع المدني أثناء قيادتهم للدولة. وليس من الإفراط في شيء الإشارة إلى أن مسيرة تحويل العراق إلى الديموقراطية والتعددية والقبول بالآخر قد تعطلت، وأن جملة من الأخطاء التي ارتكبت قد ساهمت في تجميد المشروع الديموقراطي، وتعطيل انتقال الدولة إلى الصيغ الدستورية والمؤسساتية والتعددية وإقرار مبدأ تبادل السلطة. وربما كان للسلطة عذر الإنشغال بمهام بناء الدولة، ومواجهة محاولات الإنفصال في الشمال ومتطلبات الحرب الدامية التي استمرت ثماني سنوات، ومن ثم الحصار القاسي الذي فرضته الولايات المتحدة على العراق قرابة الثلاثة عشر عاما. ولكن ذلك لا يعف الثوار من مسؤولياتهم تجاه شعبهم، ولعل هذا هو الوقت المناسب للقيام بهذه المراجعة النقدية.

 

وفي هذا الإتجاه، تجدر الإشارة، إلى أن المشروع الأمريكي لاحتلال العراق، لم تكن له علاقة البتة بالتضامن مع المطالب المشروعة للمجتمع العراقي في الديموقراطية، بل كان الهدف منه الإستيلاء على ثروات العراق، والقضاء على آخر معقل مناوئ بشراسة للمشروع الصهيوني ورافض لوجوده على أرض فلسطين. كما كان وجود الجيش القوي في العراق يشكل هاجسا مرا، وتحديا لإنجاز مشروع الهيمنة على الوطن العربي وتحقيق الشرق أوسطية، وقد حان الوقت للذين ضللوا بالشعارات، أفراد وجماعات، أن يعلنوا عن عودتهم إلى الهوية الوطنية باعتبارها الحاضنة الأكبر للجميع. لقد تكشف زيف الشعارات التي أطلقها المحتلون، ورأى العراقيون بأم أعينهم كيف تحولت بلادهم إلى سجن واسع ومقبرة كبيرة، وكيف أصبحت الديار خربة، ينعق فوق أطلالها الغربان.

 

حان الوقت ليعود للفكر القومي نقاءه، ولتعاد للمبادئ التي خرج بها البعثيون عند تأسيس حزبهم في نيسان/ أبريل عام 1947 نقاءها وبهاءها، تلك المبادئ التي ربطت بين الحرية والعدالة، واعتبرت كليهما شرطا لازما لبناء النهضة العربية الجديدة، وأن يعاد أيضا لمبادئ الأممية حيويتها ونقاءها، وصدق تعبيراتها تجاه الإمبريالية والرأسمالية، وأن لا يغيب، تحت وطأة الضجيج والصخب، وسبائك الدبابات ديالكتيك التاريخ… وآن أيضا للمرجعية الشيعية أن تتعلم من أبي الشهداء الحسين بن على دروسا في الإباء والكرامة ورفض الإحتلال… ولإخوتنا الأكراد، نقول إن سر عظمة العراق تكمن في لوحته الفيسفسائية الجميلة، وحين ينفرط عقد اللؤلؤ لا يعود هناك وطن جدير بالتضحية.. بل ربما لا يعود هناك وطن البتة. فليتحد جميع العراقيون في جبهة وطنية عريضة، ليس فقط على قاعدة دحر الإحتلال، ولكن أيضا، على صعيد بناء الوطن وضمان مستقبله وحريته وكرامته. وتبقى النوايا موضع تساؤل ما لم يرتق الجميع فوق الجراح، وما لم تمارس الأطياف والإتجاهات السياسية عملية نقد وتبضيع تبدأ من الذات، وتنتهي بتحقيق الوحدة الوطنية والكفاحية، على قاعدة مقاومة المحتل وطرده من الوطن دون قيد أو شرط.

 

تلك مقدمات لا بد منها لإنجاح مشروع المقاومة للإحتلال الأمريكي للعراق، وهي أول خط رئيسي عند صياغة مستلزمات المقاومة.

 

 

د. يوسف مكي

تاريخ الماده:- 2004-01-14

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

ثلاثة + سبعة عشر =


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.

د.يوسف مكي