الإعلام العربي والاستعارات المغلوطة

0 166

جملة من الأمور التي لفتت انتباهي هذا الأسبوع حرضت على كتابة هذه المقالة. كان الأمر الأول بينها استفتاء نشرته الجزيرة نت نصه هو الآتي: هل تثق بنزاهة لجان التحقيق الدولية في القضايا العربية؟ السؤال بطبيعته، وحسب خانات الإجابة التي وضعت له لا يحتمل أكثر من إجابتين إما بـ نعم أو لا. إن المعروض مطروح تماما بطريقة تبدو حيادية، بحيث يوحي للمتلقي بأن هناك لجان تحقيق دولية، تؤدي وظيفتها بشكل مستقل، وأنها في معظم الأحيان تابعة لأطر الشرعية الدولية، ممثلة في هيئة الأمم المتحدة. والواقع أن تلك أمنية يحلم بها أنصار السلام في كل مكان.. لكنها على أرض الواقع أبعد ما تكون عن الأماني..

 

وكان الأمر الثاني، تصريحات المندوب الأمريكي في الأمم المتحدة، جون بولتون حول عدم تعاون الحكومة السورية في التحقيقات التي تجريها اللجنة الدولية برئاسة، ديتليف ميليس المكلفة بالتحقيق في اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق السيد رفيق الحريري. وتصريحات المندوب السوري بأن حكومة بلاده تتعاون بالكامل مع هذه اللجنة، وأنه ليس لديها ما تخفيه في هذا الشأن.

 

أما الأمر الثالث، فهو تصريحات وزيرة الخارجية الأمريكية السيدة، كونداليزا رايس حول انسحاب المستوطنين الإسرائيليين من قطاع غزة. لقد عبرت عن إعجاب شديد بموقف رئيس الوزراء الإسرائيلي، أرييل شارون، وأبدت تعاطفها مع المستوطنين الذين تركوا منازلهم، وأشادت بتضحياتهم في سبيل السلام. وكان الأمين العام للأمم المتحدة، السيد كوفي عنان هو الآخر كبيرا في أريحيته، حيث عبر في كلمات رقيقة عن تعاطف وجداني مع المستوطنين، وعن تفهمه لمعاناتهم.

 

ولعلي أكتفي بأمر رابع هو بالتأكيد ليس الأخير، ويتعلق بقضية التطبيل واللغط اللذين أحاطا بقضية الدستور الدائم للعراق، والذي تقرر أن يجري الاستفتاء عليه، بغض النظر عن معارضة شرائح كبيرة وواسعة من النسيج العراقي له.

 

ما لفت النظر في جملة هذه القضايا هو الاستعارة الكاملة لأجهزة الإعلام العربي، المرئي منها والمقروء للمواقف الأمريكية، حيالها.

 

في قضية الاستفتاء، تم تضليل القارئ بالطريقة التي طرح فيها السؤال. ولم يجر توجيه نظر المتلقي إلى أن لجان التحقيق الدولية في تركيبتها هي تعبير عن إرادات القوى الكبرى، التي تهيمن على العالم، بشكل أدق إرادة الولايات المتحدة الأمريكية، وهذا الكلام قد ثبت للقاصي والداني، ولم يعد موضع جدال. إن لجان التحقيق الدولية لا يتم تشكيلها من فراغ، وإنما تأتي استجابة لضغوط وسياسات أمريكية وأحيانا أوروبية. وهكذا كانت لدينا لجان للتفتيش عن أسلحة الدمار الشامل في العراق، ولنا لجان للتحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان في جنوب السودان وفي مراحل لاحقة بمنطقة دارفور. ولدينا لجان للتحقيق في قضايا الإرهاب بالوطن العربي، ولجنة للتحقيق في أسباب اغتيال السيد رفيق الحريري.

 

ورغم أن أغلب هذه القضايا يتعلق بأوضاع داخلية، فإن طرح أي منها لم يجر بمبادرة ذاتية أو عربية، ولكنها دائما تأتي من الأمريكيين وحلفائهم. وينساق الإعلام العربي وراء الدعاية الغربية ويطبل لها، ويتبنى أطروحاتها ومفرداتها وتعابيرها… وفي كل الحالات فإن هذه الأطروحات والمفردات والتعابير هي مقدمات لفواتير يدفعها العرب ذاتهم، مقابل لا شيء، سوى المزيد من التفريط والتسليم بالحقوق.

 

عادت إلى الذاكرة التعابير الشهيرة التي أطلقها وزير الخارجية الأمريكي الأسبق، هنري كيسنجر، بعد حرب أكتوبر عام 1973م. فخلال تلك الفترة دخلت إلى مصطلحات قاموسنا السياسي مفردات لم تكن مألوفة في تاريخنا، كسلام الشجعان، وكسر الحاجز النفسي، وإعطاء قوة دفع للحركة، والتطبيع. وكانت تلك المفردات عناوين لفواتير باهظة، قدمتها الأمة العربية من أرضها وعرضها وكرامتها، ونتج عنها تفتيت للجبهة العربية، وكسر لإرادة الأمة وشرخ كبير في مفهوم التضامن العربي، وخروج على المعاهدات والمواثيق التي تعهد بموجبها القادة العرب على جملة من الثوابت الوطنية والقومية.

 

وكانت لنا جولات مماثلة أثناء التحضير للعدوان على العراق، وبعد احتلاله. وهكذا، تبنينا الأطروحات الأمريكية تجاه وجود أسلحة دمار في العراق، وهني أسلحة لو كانت موجودة بالفعل في العراق، فستكون أسلحة رادعة للعدوان على العرب، وستكون رصيدا احتياطيا لهم في معارك الدفاع عن المبادئ والوجود. وهكذا، ونتيجة لحالة الضعف والانكسار بدأت أطروحاتنا ذليلة وضعيفة، تسلم بالأمر الواقع، وتنطلق منه لعل بعضنا يتمكن من تحسين أوضاعه الخاصة.. وضاع في وسط الزحمة المثل الشائع، أكلت يوم أكل الثور الأبيض. وأخذنا نبحث يمنة ويسارا عن تبريرات يبدو بموجبها تقهقرنا وتراجعاتنا أموراً منطقية ومقبولة.

 

لكن واقع الحال يأبى إلا أن يعري ضعفنا. لقد سلمنا بأن وجود لجنة تابعة للأمم المتحدة للتحقيق في اغتيال مواطن لبناني، أمر طبيعي ومفروغا منه. لكننا رغم أننا أدنا جميعا اغتياله واعتبرنا رحيله خسارة للبنان وللأمة، لا نوافق على ذلك. لأن الأمر ببساطة ليس شيئا مشرعا ولا حتى عرفا في سياسات الأمم المتحدة. حالات الاغتيال السياسي، رغم أنها مدانة جميعها، تجري في كل مكان، ولكن طرحها للمناقشة في الأمم المتحدة هو أمر جديد ليس له سابقة. قد يقال لنا إن الأمر يتعلق بشخصية سياسية مرموقة لها ثقلها ووزنها في السياسة اللبنانية. لا بأس سنسلم بذلك، ولكن ما بال هذه الأمم لم تطرح من قبل قضية اغتيال مالكوم اكس ومارتن لوثر كنج وروبرت كنيدي، بل والرئيس الأمريكي جون كنيدي، الذي تؤشر أوساط أمريكية رسمية على ضلوع وكالة الاستخبارات الأمريكية في مصرعه؟

 

في أسلحة الدمار الشامل، ترفض الإدارة الأمريكية أن يناقش موضوع السلاح النووي وأسلحة الدمار الشامل في أجندة مؤتمر القمة الدولي القادم. وترفض حتى الالتزام بالاتفاقيات التي وقعتها مع الاتحاد السوفيتي سابقا، ومع روسيا الاتحادية حاليا حول موضوع الحد من أسلحة الرعب، ومع ذلك ينساق إعلامنا ركضا في تبني مقولات الإعلام الأمريكي حول أسلحة الدمار الشامل.

 

وبالمثل ينساق الإعلام العربي، في لعبة التقسيم التي تجري في العراق، وبناء كيانات قائمة على أسس إثنية وطائفية. بل وتتبارى أجهزة الإعلام في طمس الهوية العربية للعراق. فيجري الحديث بحماس عن الفيدرالية. وهي فيدرالية أصبح من الجلي للجميع أنها جاءت متسقة بالدقة مع خطوط العرض التي فرضت أثناء حظر الطيران والحصار الظالم الذي استمر على العراق لأكثر من عشر سنوات. أصبح العراق بموجب التركيبة الجديدة ليس أرضا عربية، لكنه يضم في بعض أجزائه سكانا عربا، شأنه في ذلك شأن الدول الأخرى التي تضم جاليات عربية. وكان المستهدف في هذه الحرب ليس أي بلد، ولكنه العراق، البلد الذي علم الحرف، وقعد اللغة ومن رحمه خرجت مدارس الكوفة والبصرة، ومنه الفارابي والإدريسي والفراهيدي والخليل بن أحمد وسيبويه.. وكان لحقبة طويلة حاضرة الأمة العربية بأسرها… وأثناءها عرفت بغداد عاصمة المنصور بمدينة السلام.

 

وحتى تكتمل الحلقة، يجري تصوير العرب، عن عمد وكأنهم أقلية في بلاد الرافدين، فنسمع على سبيل المثال عن مفردة عرب السنة، في حين لا نسمع أبدا عن عرب الشيعة. وفي هذا إشارات متعمدة تهدف أولا إلى التقليل من شأن المعارضين للدستور، وهم نسبة في وسط العراق وحده تزيد على ثلث تعداد السكان العراقيين. ومن جهة أخرى، فإنها محاولة متعمدة لإبراز العراق كبلد غير عربي، لأن العرب السنة وحدهم هم عرب العراق، وما عداهم فهم إما أكراد أو أعاجم.. إنها إذن محاولة جائرة للتزييف واغتيال للتاريخ. والمتوقع أن يساهم الإعلام العربي في فضحها، لا أن يتماهى معها. إنها جريمة ترتكب الآن بحق العرب والمسلمين، والصمت عنها غير مقبول، حتى ولو كان ذلك في حدود التفرج العاجز.

 

وبالمثل يتوقع من الإعلام العربي ألا تتسق مواقفه حيال القضية الفلسطينية، وانسحاب المستوطنين من غزة بتلك التي يتبناها الإعلام الغربي. فقد جاء المستوطنون إلى أرض محتلة، بحكم القانون الدولي، وخرجوا عن أرض ليست لهم إلى أرض أخرى مغتصبة. ولن يستقيم حال الأمة إلا بعودة كامل الحقوق لأهلها، وطرد المغتصبين والمحتلين عن الديار العربية.

 

لا بد للإعلام العربي أن تكون له ثوابته ومواقفه المعبرة عن أماني وتطلعات الأمة. وأولى الخطوات باتجاه ذلك أن نتخلى عن الاستعارات المغلوطة، وأن يكون لنا مفرداتنا الخاصة، وتعابيرنا الخاصة المعبرة عن مصالحنا وثوابتنا، وتوقنا لأن نكون بناة لمستقبل واعد وصناعاً لحضارة.

 

yousifsite2020@gmail.com

 

 

 

 

 

 

د. يوسف مكي

تاريخ الماده:- 2005-08-31

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

19 + 19 =


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.

د.يوسف مكي