الإصلاح السياسي: التعجيل أم التأجيل؟!

0 175

في الطبيعة كما في الكون ومختلف أنماط الحياة، يشكل التطور التدرجي والمتوازن القانون العام. أما التبدلات والتقلبات والتحولات الرئيسية التي تصاحب الإنتقال من التراكم إلى الكيف والقفزات الإنسانية الكبرى، وما يدعى مجازا على الصعيد التاريخي بحرق المراحل فقوانينها هي الإستثناء.

 

فعلى سبيل المثال، في بلاد الأنهار، يسير النهر بشكل ثابت ومستمر ومتوازن حافرا مجراه على الأرض بقوة وأناة وصبر، مشكلا له فروعا وقنوات وجداول متجها إلى مصابه، ومحولا الأراضي المقفرة إلى خمائل جميلة وواحات خضراء، ليعيش من حولها في رخاء ورغد عيش. وبالمثل، تتداعى فصول العام الواحد تلو الآخر، ضمن غائية، لا تحيد أنساقها، تبعث فينا الدفء أحيانا والانتعاش في أحيان أخر، ويلبى من خلال اتساق عمل وتعاقب هذه الفصول حاجاتنا ومتطلباتنا. وتلك هي نواميس الكون. وأحيانا، تنحرف بعض هذه القوانين، فيحل موسم الصيف مبكرا، وتذوب الثلوج من على الجبال، فتنزل فيضانات وطوافين عنيفة تغمر الأرض وتقضي على الزرع، متسببة في حدوث كوارث كبيرة.

 

في الزمن الغابر، كان الإنسان يقف عاجزا، أمام هذه الظواهر، ولكنه مع الزمن، تعامل معها بشكل حي، فاعل ومبدع، فبنى السدود وشق ترعا جديدة. وحين تطور العلم، في عصرنا الحديث، تمكن الإنسان من تحويل نقمة الفيضانات إلى نعمة، حين شيد السدود الضخمة واستغل طاقة المياه المتفجرة ليحيلها إلى طاقة كهرمائية، تضيء المنازل والحقول وتشغل المصانع، وتجعل حياتنا أكثر استقرارا وبهجة ورخاء.

 

ومثل هذا القول يصدق على الكثير من الظواهر الطبيعية. فقد استطاعت همم الرجال أن تهون المصاعب، وتمكنت من إيجاد حلول ناجعة، تجعل هذه الظواهر تمر بسلام، أو على الأقل بقدر أدنى من الخسائر. وحتى ظواهر مدمرة كالصواعق والهزات الأرضية، تمكنت المجتمعات الإنسانية المتقدمة من التعامل معها إيجابنا، وأوجدت حلولا عملية، من ضمنها تغيير في البنى وهياكل السكن ونصب أجهزة استشعار تجعل الأزمة تمر دون أن تلحق خسائر فادحة في البشر والممتلكات.

 

في التعامل مع الأمراض التي تصيب البشر، لجأ أجدادنا إلى الكي والبتر والحجر عندما لا يكون هناك مفر من ذلك. وجاء الطب الحديث ليثبت كثيرا من القناعات التي كانت قائمة من قبل في مجال العلاج. وفي كثير من الأمراض يجري استئصال وبثر وقتل لخلايا مريضة.. كما هو الحال من أمراض السرطان.

 

وفي الصراعات بين الحكومات والشعوب، تلجأ الأطراف المتصارعة للحروب، كحلول استثانية، حين تعجز عن التوصل لتفاهمات، بالطرق السلمية. وحتى في المجتمع الواحد، رأينا التاريخ يسجل لنا ثورات اجتماعية وأنواع مختلفة من التمرد وحروب أهلية لأسباب دينية وإثنية وطبقية في شتى أصقاع المعمورة.

 

هذه المقدمة تقودنا إلى الحراك الدائر الآن بشكل مكثف في المجتمع العربي، وما يطرح لهذه المنطقة من مشاريع أمريكية تحت عناوين مختلفة، كان آخرها مشروع الشرق الأوسط الكبير. ومن المؤكد أننا لا نضيف جديدا، حين نشير إلى عجز النظام العربي الرسمي عن القيام بالمهمات المنوطة به، والتي يأتي في المقدمة منها محو الأمية وتأمين مجانية التعليم والدفع بعجلة التنمية الاجتماعية والاقتصادية خطوات واسعة إلى الأمام وتحقيق المشاركة السياسية، واللحاق بالعصر، والدفاع عن حدود الوطن، وإصلاح الخلل في العلاقات العربية العربية، وصولا إلى تحقيق نوع من التنسيق، يرقى في المستقبل إلى تحقيق التكامل والوحدة.

 

وليس أدل على عجزنا وفشلنا، في اقتحام مشاريع النهضة والتقدم، من أننا بعد مرور أكثر من نصف قرن على حصول معظم البلدان العربية على صكوك الإستقلال، لم ندخل حتى الآن بوابة ثورات الصناعة والإتصالات وتقنية المعلومات، وثورات البيولوجيا إلا بالصفة الإستهلاكية، وليس بالإنتاج والإبداع والمشاركة. في حين يتهيأ العالم بأسره للدخول في مجالات علمية جديدة، وثورات جديدة. ولم نستطع حتى الآن تحقيق الحد الأدنى من التنسيق مع بعض في مجال السياسات والموارد والإقتصاد والثقافة. بل على النقيض من ذلك، يبدو أن مسافات التعاون والتعاضد، فيما بيننا، تتجه إلى التباعد والتنافر، مشتتة طاقاتنا وإمكانياتنا، ومحدثة شروخا عميقة في لحمتنا.. فنحن نكاد لا نملك موقفا موحدا من قضية. فقضية فلسطين، التي استمد النظام العربي الرسمي، طيلة نصف قرن مضى، مشروعيته من الالتزام بها، أصبحت تأتي في الدرج الأسفل من اهتمام القادة العرب. وانقسمنا حول غزو الكويت واحتلال العراق، وقضية الصحراء، وحول الموقف من العولمة ونزع السلاح والصراع مع الصهاينة، ودخلنا مع بعضنا البعض في صراعات مسلحة على المراعي والحدود والمياه، ومع فقدان المشاركة الشعبية في صناعة القرار السياسي، غيب دور الجمهور في مختلف المعارك والمواجهات، على كل الأصعدة. واقتصر دوره على الوقوف خلف زعيمه ومنحه بيانات التأييد وهو يأخذ بيده نحو الحرب والدمار، أحيانا، أو أثناء مفاوضاته مع أعداء الأمس والسارقين لقوته، أو حتى خلال حفل توقيعه لاتفاقيات سلام مذلة ومهينة.

 

لقد تكشف فيما مضى، من التجارب المريرة التي مرت بها أمتنا، أن اختراق الوطن وإحكام القبضة على مقدراته من قبل القوى الخارجية هو أسهل بكثير، عندما يغيب دور المواطن عن المشاركة في صناعة القرار، وتقرير مصائره وأقداره. والآن بعد ـم أدرك القادة العرب، بعد مضي أكثر من نصف قرن أهمية مناقشة موضوع الإصلاح السياسي، وتطوير صيغ العمل فيما بينهم في قمتهم القادمة، وسط مخاطر خارجية محدقة بهم، فإن الإتزام الوطني والقومي يتطلب منهم موقفا صارما، صلبا وصريحا من المشاريع الخارجية المشبوهة التي تضمر الشر لأمتنا، ومن ضمنها مشروع الشرق الأوسط الكبير، لكن الرفض لهذه المشاريع يظل سلبيا وعاجزا، ما لم تضخ في مواجهته كل الطاقات والممكنات. والتي يأتي في مقدمتها المسارعة في تحقيق الإصلاح السياسي، والمضى قدما في بناء مؤسسات المجتمع المدني.

 

المطالبة بالإصلاح ليست أحجية وليست وسيلة للضغط على أنظمة سياسية غيبت حق شعوبها في المشاركة لحقب طويلة، ولكنها ينبغي أن تكون، في هذا المنعطف الصعب من تاريخنا عمل استثنائي، مبدع وخلاق… كما الحال في التعامل مع الظواهر السلبية التي تحيط بكوننا من حين لآخر، والتي جرى التعرض لها في صدر هذا الحديث. وهذا العمل الإستثنائي المطلوب هو عمل ملح وعاجل، لا يمكن تأجيله، إلا إذا كنا على استعداد لتحمل تبعات الطوفان.

 

ولكي لا يكون كلامنا إغراقا في التنظير، نشير إلى أن بلداننا تواجه أزمات كثيرة، لا يمكن التريث أمامها، لأنها لن تتوقف في انتظار حلولنا، بل ستتضاعف وتتفاقم. لنأخذ على سبيل المثال، مسألة البطالة، أيا تكن النسبة المعترف بها الآن، فهي كبيرة، وهي تهدد مستقبل أجيالنا وأمننا وسلامنا الإجتماعي. ومن المؤكد أن العجز عن إيجاد حل لها سيفاقمها بشكل حاد، بعد ثلاثة أو أربعة أشهر من الآن حين ينتهي العام الدراسي، ويتخرج عشرات الألوف من أبنائنا، ليضافوا إلى قوائم العاطلين عن العمل، بما يعني إضافة جديدة في نسبة البطالة والفقر ومعدل الجريمة.. وربما لا سمح الله إضافة جنود أخر لعناصر التطرف. ومثل هذا القول، يصدق على المديونية، التي تتضاعف بشكل أخطبوطي، بفعل تصاعد أسعار الفائدة، وحاجات الحكومات لأموال جديدة لتلبية متطلباتها اليومية. وكهذا تتالى الأمثلة بأشكال مطردة..

 

ليس أمام القادة العرب، وهم يتناولون بعمق وروية في قمتهم القادمة التعويل على أية متغيرات في السياسة الدولية، لصالح استمرار الأوضاع التي ظلت قائمة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى يومنا هذا. فذلك زمن قد ولى وتجاوزه العصر، وليس من رصيد حقيقي لتحقيق الأمن والإستقرار ومواجهة الأزمة، سوى تحقيق الوحدة الوطنية، والولوج، ضمن برنامج مرحلي ومحدد وواضح المعالم، في طريق الإصلاح السياسي، وأن يأخذ كل مواطن دوره، ويؤدي واجبه بوعي ومسؤولية، في مواجهة الأزمات والمخاطر.. فذلك وحده هو المحفز لعمل استثنائي خلاق وملهم، وإبداعات جديدة…

 

yousifsite2020@gmail.com

 

د. يوسف مكي

تاريخ الماده:- 2004-03-10

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

ثلاثة + ثلاثة عشر =


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.

د.يوسف مكي