الإستعمار عمل غير أخلاقي..
المحرض على هذا الحديث هو ما ورد في الأيام الأخيرة بحلقة من برنامج النادي السياسي في القناة العربية الإخبارية ANN. كان الحديث عن موضوع الاستعمار، وكان المتكلم يطالب بتغيير الصورة السلبية السائدة لدى معظم شعوب البلدان العربية عن المستعمر. إن الاستعمار، من وجهة نظره ليس شرا بشكل مطلق، كما يتصوره معظم الناس، بل على النقيض من ذلك، فقد جاء الاستعمار الغربي إلى المنطقة العربية على أنقاض الحكم التركي، وساهم في ترسيخ قيم الديموقراطية ومبادئ الحرية، وقام بعملية تنمية واسعة في البلدان التي احتلها. وحين غادر المستعمر هذه البلدان، وأصبحت معظم الأقطار العربية دولا مستقلة سادت أنظمة الديكتاتورية والاستبداد. وأمسى متعذرا على الشعوب، أمام عمليات القمع التي تتعرض لها، أن تواجه حكامها، فكان لا بد من أن يأتي الإنقاذ من الخارج.
إن المتحدث، على هذا الأساس، يجد في احتلال القوات الأمريكية للعراق، خطوة على طريق الحرية وبناء المجتمع المدني في هذا البلد. وهو لا يكتفي بذلك، بل يطالب الإدارة الأمريكية، بشكل مباشر وصريح بإسقاط نظامي سوريا وليبيا، أما الأنظمة العربية الأخرى، فإنه يرى أن على أمريكا أن تمارس الضغط عليها من أجل الانفتاح بشكل أعلى على شعوبها، وتدشين المؤسسات القانونية والدستورية المعبرة عن ذلك، وإذا لم تخضع تلك الحكومات للضغوط الأمريكية وتنفذ ما هو مطلوب منها، فإنه لا يجد بدا من العلاج بالكي.
والواقع أن هذه الطروحات، المنتشرة بكثرة في هذه الأيام، تجد لها مريدين في أوساط بعض المثقفين والنخب الاجتماعية العربية، وخطورتها أنها تجد صدى واسعا لدى كثير من الجمهور. ولاشك أن من بين النتائج السلبية لهذه المقولات إضعاف المقاومات والهوية والثوابت الوطنية والأخلاقية للجمهور، وتسهيل عمليات الاختراق الثقافي والغزو الفكري والاحتلال العسكري للبلدان العربية، ومن هذا المنطلق فإن عملية التصدي لهذه الطروحات وتفنيدها هي مهمة ملحة، أخلاقية ووطنية.
وابتداء فإن التعريف الواضح والمبسط للاستعمار هو أنه إخضاع جماعة من الناس لحكم أجنبي. ويدعى سكان البلد المحتل بالمستعمرين، ويطلق على البلاد الواقعة تحت الإحتلال بالأراضي المستعمرة. ومعظم الأراضي المستعمرة لا تتصل جغرافيا ببلد المستعمر. وفي حالات كثيرة، ترسل قوات الإحتلال بعضا من سكانها للعيش في المناطق المحتلة لإدارتها واستغلال مصادر ثروتها وخيراتها، ويمارس هؤلاء الحكام الغرباء عملية فصل عرقي عن سكان البلاد الأصليين.
وللاستعمار تاريخ طويل موغل في القدم. ومعظم الإمبراطوريات، التي قامت عبر التاريخ، تمددت إلى بلدان غيرها ومارست عملية السطو المسلح بحق شعوب كثيرة. ومن بين أهم الدوافع للقيام بالاستعمار هو نهب الثروات الاقتصادية والسيطرة على المنافذ والمعابر والمضائق الإستراتيجية. وبذات القدر كانت السلع النادرة، فيما مضى، كالتوابل والماس والقطن والفحم والنفط والمواد الخام الأخرى من أسباب قيام الاستعمار الأوروبي التقليدي باحتلال بلدان آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية. ولا شك أن تمدد الإمبراطوريات وتوسع ممتلكاتها كان يعتبر عاملا رئيسيا في علو مكانة الدول وسمعتها بين الأمم.. وهكذا كانت قياسات الدول العظمى في التاريخين القديم والحديث.
في العصور الحديثة، يمكننا القول أن البرتغال وأسبانيا كانتا أول من دشن العهود الاستعمارية الحديثة، عندما بدأتا، في القرن الخامس عشر الميلادي، بإرسال مكتشفين للبحث عن طرق بحرية جديدة إلى الهند والشرق الأقصى، تمكنوا من السيطرة على التجارة في تلك البلدان، وفي القرن السابع عشر الميلادي، انتزع الهولنديون والبريطانيون تلك المواقع من البرتغاليين، بعد أن نجحوا في احتلال جزر الهند الشرقية. وفي مراحل لاحقة، تم اقتسام القارة الأفريقية بين كل من بلجيكا وفرنسا وألمانيا وبريطانيا وإيطاليا والبرتغال وأسبانيا. ولم يتبق مستقلا من القارة الأفريقية إلا القليل. وكانت اليابان بدورها قد قامت باحتلال كوريا وتايوان.
والواقع أن عمليات احتلال الإمبراطوريات لأراضي الغير لم تكن حتى العشرينيات من القرن المنصرم عملا مستهجنا، بل كانت شيء متعارف عليه بـ”حق الفتح”، شأنها في ذلك شأن ممارسات أخرى مشينة، كالعبودية والرق، لم يتخذ منها موقفا حاسما إلا في مراحل أخيرة، بعد أن تطور الوعي الإنساني، وأصبح النظر إلى ممارسات العبودية والاستعمار باعتبارهما حطا من القيمة الإنسانية وامتهانا لكرامة البشر.
كانت الأمم فيما مضى، تنشئ إمبراطورياتها وتنشر عقائدها وأديانها عن طريق الغزو والفتوحات. وبوحي من هذا العرف قامت الممالك وانتشرت العقائد والأديان وشنت الحروب الصليبية، وتوسعت السلطنة العثمانية..
لكن ظروفا وتطورات أخذت مكانها في المسرح الدولي بعد نهاية الحرب العالمية الأولى أدت إلى تغير جذري في المفاهيم، وعبر عنها ببروز مؤسسات أممية جديدة طرحت رؤى وأفكارا مغايرة حيال مفهوم حق الفتح، مستعيضة عنه بمبادئ حقوق الإنسان وحق الشعوب في الاستقلال وتقرير المصير.
كان رئيس الولايات المتحدة الأمريكية أثناء الحرب العالمية الأولى، وودرو ويلسون يرصد، عن قرب، احتضار الإمبراطورية العثمانية واقتسام تركتها بين المنتصرين، وفي عملية التحضير للقرن الأمريكي، وتهيئة مستلزمات إزاحة الاستعمار الغربي التقليدي من الواجهة، طرح شعارات عدة بضمنها، إقرار حقوق الإنسان، والحيلولة دون استعار الحروب بين الأمم. وقد وجد أن أفضل وسيلة لتحقيق ذلك هي قيام تجمع عالمي، أطلق عليه فيما بعد اسم عصبة الأمم، مهمته الدفاع بشكل مشترك عن أرض واستقلال أية دولة منضمة في العصبة تهاجمها دولة أخرى. وكان يرى استحالة قيام دولة منفردة بالهجوم على دولة أخرى، ما دام العالم بأسره مصمما وقادرا على ردع العدوان.
وقد تزامن تشكيل عصبة الأمم عام 1920م مع إعلان المبادئ الأربعة عشر لحقوق الإنسان التي أطلقها الرئيس الأمريكي ويلسون، والتي كان حق تقرير المصير في مقدمتها. وقد أدى ذلك إلى إدخال صياغات جديدة في الأدب السياسي الاستعماري، في عملية تضليل وتحايل وتورية على ما كان قائم فعلا. فبرزت مفاهيم الوصاية والحماية والانتداب، وجميعها تعبيرات مغلفة تخفي وراءها نزعات التسلط والهيمنة وغطرسة القوة.
وبوحي من هذه المفاهيم، تم تطبيق اتفافيات سايكس- بيكو وجرى احتلال سوريا والعراق ولبنان والأردن وفلسطين، تحت شعارات الحماية والوصاية والانتداب، والتي أعطت بموجبها عصبة الأمم لفرنسا وبريطانيا حق الاستيلاء على المشرق العربي، تحت ذريعة الأخذ بناصية هذه الشعوب وتمكنيها من النهوض والتنمية، وتهيئتها للتحكم في مصائرها وأقدارها، بعد أن تكون قد مرت بمرحلة تأهيل لازمة للعبور من عهود التخلف والظلام إلى عهد المدنية.
ورغم كل الأقنعة التي تتستر خلفها النوايا الحقيقية للغزو الاستعماري فقد تكشف للجميع أنه لم يشكل أية إضافة إيجابية للشعوب المستعمرة، بل كان في كل جوانبه سلبا علنيا. فقد سخرت جميع موارد البلدان المحتلة، سواء من حيث كميتها، أو من حيث نوعيتها أو أسعارها، أو حتى من حيث التصرف بها، لمصلحة البلد المستعمر، بحيث لم يتحول الاستغلال إلى الجانب الطبقي فقط، بل كان سرقة بشعة، ينقل فيها المستعمر كل ما تنتجه البلاد من ثروة ليضيفها إلى ثروته هو.
والاستعمار فوق ذلك، غريب ومتغطرس، يمارس فيه أصغر جندي من جنود الاحتلال دور جبروت القوة على أكبر كبير في الأمة. وتكون وظيفة قوات الاحتلال إخضاع السكان الأصليين للحاكم المدني القادم من آلاف الأميال. وفي سبيل ذلك، لا تتورع سلطات الاحتلال عن القيام بالمداهمات والملاحقات وهتك الأعراض وانتهاك حرمات البيوت.
وفي عملية الأخذ بناصية الشعوب نحو المدنية والحضارة، يمارس المستعمر احتلاله الثقافي للبلاد، ويقوم بقطع كل صلات الشعب المحتل بثقافته وحضارته وتاريخه وتراثه، وتحطم من خلاله جملة الأعراف والتقاليد والقوانين المتصلة بحضارة الشعب المستعمر وقطعه من جذوره، لتحل محلها قوانين لا هدف منها غير خدمة مصالح القوة العسكرية والمالية الحاكمة وحماية سلطانها واستغلالها، من غير اعتبار لمقتضيات المجتمع القائم وعلاقاته.
ثم لا يصل للشعب، بعد ذلك، إلا فتات الذي يكون مقتصرا على النخبة التي يكون من مهماتها تسهيل عمليات السيطرة والنهب. وضمان استمرار الاحتلال.
ويبقى علينا أن نواصل المناقشة، في أن الاستعمار عمل غير أخلاقي في حديث قادم بإذن الله.
ــــــــــــــــــ
yousifsite2020@gmail.com
د. يوسف مكي
تاريخ الماده:- 2003-12-24