الإستراتيجية العربية: من الإستقلال إلى التسليم
يقترب شهر آذار/ مارس من نهايته، وقد حمل معه كثيرا من الحوادث والمتغيرات، بضمنها التطورات المتلاحقة التي تشهدها الساحة اللبنانية، واحتدام الصراع بين الموالين والمعارضين، وإعلان الرئيس بشار الأسد في مجلس الشعب السوري عن خطة لانسحاب سريع للقوات السورية من لبنان، وموافقة حركة المقاومة الإسلامية، حماس على توصية للرئيس الفلسطيني تقضي بتحقيق هدنة مع الصهاينة لمدة ستة أشهر، وقرارها الإنتقال إلى العمل السياسي والمشاركة في انتخابات المجلس التشريعي، بعد أن حصدت مقاعد الأغلبية في انتخابات المجالس البلدية بقطاع غزة. والطروحات الجديدة التي عبر عنها رئيس الحركة السيد خالد مشعل بضرورة أخذ المتغيرات الدولية بعين الإعتبار عند رسم الإستراتيجية الجديدة للحركة. وأخيرا انعقاد مؤتمر القمة العربي في العاصمة الجزائرية، وتركيزه على موضوعي الإصلاح والتمسك بالمبادرة العربية للسلام. وهناك أيضا استمرار لحوادث العنف في عدد من البلدان العربية، امتدت لأول مرة إلى العاصمة القطرية الدوحة، واستهدفت عناصر غربية.
جال شريط هذه الحوادث بالخاطر، وحاولت أن أجد رابطا مشتركا بينها. فجأة تذكرت أن لهذا الشهر أيضا دلالات كبيرة في تاريخنا المعاصر. ففيه انطلقت، في الثامن من آذار/ مارس أول رصاصة، من مكة المكرمة، أثناء الحرب العالمية الأولى لتعلن بدء انطلاق الثورة العربية الكبرى التي هدفت إلى التخلص من نير الإحتلال التركي وتحقيق استقلال المشرق العربي. وشهد الثامن من آذار/ مارس أيضا، في عام 1963 قيام انقلاب عسكري أعلن بيانه الأول أن الهدف منه هو القضاء على الحركة التي قادت الإنفصال بين سورية ومصر. وصادف هذا الشهر ذكرى يوم الأرض، وهي مناسبة يحتفل بها الفلسطينيون والمناصرون لقضيتهم العادلة، مؤكدين على حقهم في الإستقلال والعودة إلى ديارهم. وهو أيضا الشهر الذي تحتفل فيه الإنسانية بيوم المرأة العالمي، وهي مناسبة لتأكيد حق المرأة في المساواة والتخلص من أصفادها، والمشاركة مع الرجل في الحقوق وبناء وتنمية المجتمع.
كانت العودة إلى التفكير في المحطة الأولى، محطة انطلاق الثورة العربية الكبرى قد قادت إلى استدعاء بقية الأحداث.. ومعها تتالت صور لمحطات كثيرة من فشل ذريع شهده تاريخنا، منذ بدأنا لهثنا الدؤوب، باحثين عن مواطيء لأقدامنا. انتهت الحرب العالمية الأولى بفشل مشروع الإستقلال، وقيام أنظمة وصاية وانتداب. وتحقق على الأرض مشروع سايكس بيكو ووعد بلفور، وبدأت الهجرة اليهودية إلى أرض فلسطين. وفيما بين الحربين، شهد المشرق العربي انتفاضات ووثبات شعبية عبرت عن صبوات للتحرر والإنعتاق، وعن استعداد سخي للبذل والتضحية. وبالتوازي مع تلك الإنتفاضات والوثبات كان المشروع الصهيوني يتقدم بقوة وثبات. وانتهت الحرب العالمية الثانية، وخلالها سمع العالم بأنباء حملات الإبادة الهتلرية ضد اليهود، واعتبر تلك المجازر مبررا للتعاطف مع مشروعهم في اغتصاب فلسطين. وغض العالم المتحضر أطراف سمعه عن مجازر مماثلة شنتها عصابات الهاجانا والأرغون في بئر السبع ودير ياسين.
في الخمسينيات، شهد العالم احتدام الحرب الباردة، بين الولايات المتحدة الأمريكية والإتحاد السوفياتي. وكان الوطن العربي موضع صراع مستمر ومحاولات استقطاب لهذا الطرف الدولي أو ذاك. وكانت الصراعات السياسية، في مختلف مستوياتها الرسمية والشعبية، في جزء كبير منها هي انعكاس لمحاولات الإستقطاب تلك.
دخلنا، آنذاك، في صراعات قبلية وعشائرية تحت يافطات ومسميات جديدة، عكست رغم ما حفلت به من تعابير ومظاهر حضارية ومتمدنة ضعف هياكلنا الإجتماعية وهشاشة نظمنا السياسية، وركاكة منظومتنا الفكرية والثقافية. وكانت فاجعة حزيران قد كشفت عن البون الشاسع بين أحلامنا وواقعنا، كما عرت الإنفصام القاسي والمر بين الأقوال والأفعال، وبين النظريات والتطبيقات.
وفجأة انتقلنا بعد النكسة من اللاءات الرافضة للمفاوضات والإعتراف والصلح مع إسرائيل، إلى فتح الأبواب، الواحد تلو الآخر، ليس فقط للقبول بقرار التقسيم، أو إزالة آثار العدوان، عبر العملية العسكرية أو السياسية، ولكن للتعامل مع كل ما كان في عداد التابو، حتى صبيحة الخامس من حزيران عام 1967.
هكذا تم الإنتقال من إزالة آثار العدوان، إلى مشروع روجرز، إلى حرب أكتوبر وجولات كيسنجر المكوكية، إلى محادثات الخيام، وفك الإرتباطات والإنسحابات الجزئية والسلطة الوطنية على أي بقعة محررة ينسحب منها العدو، إلى الإستعداد للذهاب لأقصى بقعة في العالم من أجل السلام، حتى لو كان ذلك إلى الكنيست الإسرائيلي بالقدس، إلى كسر الحاجز النفسي وإعطاء قوة دفع للتطبيع. ومن ثم إلى اتفاقيات في كامب ديفيد ووادي عربة وأوسلو. وإلى شروخ وانهيارات متتالية في النظام العربي الرسمي، أخذت طابعا دراماتيكيا، مع حرب الخليج الثانية عام 1990، واستمرت في خط بياني متصاعد حتى يومنا هذا.
وفي ذات الوقت، كان المشروع الصهيوني يستغل حالة الإقتحام والتراجع ليضيف نقطا تتراكم يوما بعد يوم إلى رصيده. فشل مشروع الثورة العربية الكبرى ونجح وعد بلفور. وانتهت الإنتفاضات الفلسطينية في الثلاثينيات إلى هدنات استغلها العدو لصالحه. ورفضنا قرار التقسيم، ودخلنا في حرب انتهت بالنكبة وإعلان قيام الدولة العبرية. دخلنا في صراعات مع بعضنا البعض، استثمرها الكيان الصهيوني، لبناء قوة عسكرية لايضاهيها مثيل لدينا، تمكنت من إلحاق الهزيمة بجيوشنا، وفرضت بعدا استراتيجيا جديدا لهيمنتها أصبح الآن يمتد من شرق باكستان شرقا إلى المحيط الهادر غربا، ومن شمال تركيا في الشمال إلى أوغندا بالجنوب.
وانتقلنا من مشاريعنا القومية والإسلامية إلى الشرق أوسطية، دون أن نستكمل أي من هذه المشاريع. غادرنا توجهنا القومي، وانكفئنا بعيدا عن فكرة التضامن العربي، وتخلينا عن ميثاق جامعة الدول العربية، ومعاهدة الدفاع العربي المشترك. وتراجعنا عن فكرة الوحدة الإقتصادية والسوق العربية المشتركة. وأصبحت مؤتمراتنا الإسلامية مهرجانات احتفائية، تنتهي ببيانات فضفاضة لا تسمن ولا تغني من جوع. وحين طرح مشروع السلام، واندفعنا له منذ عام 1990، ذهب كل فريق بأجندته الخاصة، وتفرد العدو بنا الواحد تلو الآخر. وجائت الشرق أوسطية، فاندفع بعضنا لها بقوة تفوق سرعة الصوت، وبقي الفريق الآخر، ملتزما الصمت، يرنو إليها على استحياء من بعيد، قلقا ومضطربا، متخوفا أن تفوته القافلة، أو أن يكون هو الهدف القادم للإحلال الديموقراطي الأمريكي. وكان جزاء سنمار نصيب الكثير ممن اندفعوا منا نحو الجادة الأخرى.
فلماذا كل هذه الإنتكاسات والتراجعات في خنادقنا؟ ولماذا ذلك التقدم والثبات والإندفاع القوي للأمام للمشروع الصهيوني؟؟! ولعل في الجواب على هذا السؤال مفتاح الطريق إلى مرحلة أخرى، تمثل أملا واعدا في تاريخنا التليد الحافل بالهزائم.
لا شك أننا دخلنا جل معاركنا الوطنية والقومية، “بمنطق الشرقي ذو مواهب الخطابة”. فمنذ البدء غيبت التعريفات للمفاهيم الأساسية للصراع وللنهوض على السواء. ومع غياب المفاهيم أصبحت الرؤية الفلسفية والنظرية مغيبة أيضا، وأصبح من المستحيل علينا ولوج أي تحليل نوعي. كما أدى غياب التعريفات لتلك المفاهيم، إلى انعدام القدرة على القياس. ومن هنا أصبحت خطواتنا مبنية على ردود أفعال تائهة، في عالم لا يعترف إلا بالأرقام وبالمصالح، والعمل. وتاهت أصداء صيحاتها في هوة سحيقة. بينما كان عدونا يعتمد العلم والتحليل. ويستخدم في حربه ضدنا أحدث أدوات القياس النوعي والكمي. كانت مشكلتنا باختصار كما عرفها وزير الدفاع الصهيوني السابق، موشى ديان أننا أمة لا تقرأ.
وهكذا فنحن عندما نتداعى إلى اجتماعات القمم العربية، لا يكون حاضرا أمامنا سوى العصى الغليظة التي يوجهها العم سام، والمؤسسات الصهيونية، ما ظهر منها وما بطن. ولأننا حريصون على الرضا الأمريكي، فإننا في كل اجتماع نقدم على قضم قطعة من حصتنا، لصالح ما نخشاه من الغضب والإنتقام. نحضر دون وعي بالمفاهيم والمصالح، ودون مشروع، أو برنامج. ومع غياب المفاهيم، وغياب المشروع والبرنامج، ومع تكشف نتائج العجز فإننا بدلا من أن نقدم على مراجعة شاملة لخطواتنا وأفكارنا نتراجع هروبا إلى الخلف، وتنحرف بوصلتنا بشكل حاد بعيدا عن أهدافها الحقيقية.
والنتيجة بالنسبة للمواطن العربي، أن قرارات مؤتمرات القمة لا تساوي الحبر المسكوب في صياغتها، وإن لسان حال الكثير منا يردد مع الشاعر الفلسطيني المرحوم ابراهيم طوقان، وهو يخاطب القادة العرب “في يدينا بقية من بلاد فاستريحوا كي لا تطير البقية”. أفهل يصدق عاقل بسيط أن يعقد مؤتمر قمة في هذه المرحلة الدقيقة من التاريخ العربي، والتهديدات مسلطة على سوريا ولبنان، وجيوش الإحتلال الأمريكي والصهيوني تعيث فسادا في العراق وفلسطين، ولا يناقش القادة العرب في اجتماعهم بالجزائر هذه المواضيع؟!
ما هي المفاتيح الأولية لفهم الصراع، وكيف ينبغي النظر إلى الصراع مع الصهاينة، وما هي الإستراتيجية المطلوبة؟ أسئلة ملحة لا بد من العودة لها، لكي نعود من جديد إلى نقطة البداية، إلى استراتيجية الاستقلال بدلا من التسليم بالأمر الواقع. وسوف تكون لنا وقفة معها في أحاديث قادمة بإذن الله.
yousifsite2020@gmail.com
د. يوسف مكي
تاريخ الماده:- 2005-03-23