الإرهاب وسيكولوجية الجماهير
وأنه يعيد لرسالة الإسلام اعتبارها، بعد ما لحقها من ظلم. هل يعقل أن يصل التزييف وغسل الأدمغة حد تجريد الفرد من عواطفه ومشاعره، وماذا يتبقى من منظومة القيم والمبادئ إن هي جردت الفرد عن بيئته ومحيطه ومحبيه؟!
أسئلة كثيرة تخالج النفس، وهي ترى هذا الانهيار الأخلاقي، المعمد بالدم، يعمم باختيال عددا كبيرا من ساحاتنا. ما هي ملكات تلك القوى المتجبرة القادرة على تحويل الباطل إلى حق، وإقناع شبابنا الغض، بالسير طواعية نحو محرقة الموت. وهل تسعفنا المدارس النفسية في الحصول على جواب مقنع، يعيد للنفس شيئا من اليقين.
في زحمة السؤال، ورحلة البحث، وقعتيدىعلى كتاب سيكولوجية الجماهير، وهو كتاب قديم ألفه غوستاف لوبون المولود عام ١٨٤١. وقد صدر هذا الكتاب أول مرة عام ١٨٩٥. وقام الأستاذ هاشم صالح بترجمته إلى العربية، وصدرت طبعته الأولى عن دار الساقي عام ١٩٩١. وقد اعتبر هذا الكتاب إضافة رئيسية فيما بات يعرف في علم النفس بعلم الجماهير.
ورغم أن موضوع الكتاب يركز كثيرا على دور الشخصيات القيادية، المتمتعة بجاذبية عالية في تجييش الجماهير، والتأثير عليها وتوجيه حركتها، لكنه يتناول أيضا تأثير الأديان والمذاهب السياسية، على الجمهور. ولا يتردد الكاتب في الإفصاح عن أن الأيديولوجية الدينية، حين تتحول إلى دوغما، تكون قادرة على تهييج الجماهير، وتجييشها لكي تنخرط في الحركات الكبرى.
وفي هذا السياق، يشير لوبون إلى الحروب الصليبية، والدعاية العباسية التي قلبت الدولة الأموية كأمثلة على ما تحدثه عملية تحفيز الجماهير وتسعير مشاعرها، في صناعة التاريخ.
لقد حلت السياسة مكان الدين، لكن جوهر التسعير بقي على ما هو عليه. أضحت الأحزاب السياسية والحركات العمالية، هي التي تعبئ الجماهير وتجعلها تنزل إلى الشارع. وبدلا من الحروب بين الكاثوليك والبروتستانت، حلت الحروب بين الأحزاب الاشتراكية والأحزاب الليبرالية. مثلت هذه الظواهر تراجعا عن الحضارة، وعودة إلى مرحلة البربرية والهمجية.
درس لوبونظاهرة الجماهير، ليس من زاوية علم الاقتصاد أو التاريخ، بل في علم النفس. وتوصل إلى أن هناك “روحا” للجماهير، مكونة من الانفعالات البدائية، ومكرسة بواسطة العقائد الإيمانية القوية. وهي أبعد ما تكون عن التفكير العقلاني المنطقي. إن روح الفرد، شبيهة بالخضوع لتحريضات المنوم المغناطيسي، تخضع لإيعازات وتحريضات أحد المحركين، أو القادة الذين يعرفون كيف يفرضون إرادتهم عليها.
إن الفرد يقدم على أشياء استثنائية، ما كان ليقدم عليها، لو كان في حالته الفردية المتعقلة. إن ذلك في حقيقته خضوع للصور الموجبة والشعارات البراقة التي يستخدمها الزعيم، مستعيضا بها عن الأفكار المنطقية والواقعية، التي لا تمكنه من تحقيق السيطرة على الجماهير وامتلاك روحها.
وهكذا فإن الميزة الأساسية للجمهور هي انصهار أفراده في روح واحدة، وعاطفة مشتركة، تقضي على التمايزات الشخصية، وتخفض من مستوى الملكات العقلية. ولوبون يشبه ذلك بالمركب الكيماوي الناتج عن صهر عدة عناصر مختلفة، تذوب وتفقد خصائها الأولى، نتيجة التفاعل، وبسب من المركب الجديد.
يقع لولون في ارتباك واضح، في حديثه عن العرق، حيث يغيب التمييز بين مفهوم العرق ومفهوم الموروث. ويرى أن الجماهير لعبت أدوارا مهمة في صناعة التاريخ، بفعل دورها اللاواعي. إن الانقلابات الكبرى في التاريخ، هي نتاج التغير العميق الذي يصيب أفكار الشعوب. وأن المتغير الحقيقي في التاريخ هو التغير الذي يؤثر في عواطف البشر، بشكل جمعي.
وعلى هذا الأساس، فإن وعي التغير في مسار التاريخ، ينبغي ألا يتجه نحو الفرد، بل نحو الكتل الكبرى، من الجمهور. إن تكتل ما من البشر، يمتلك خصائص مختلفة جدا عن خصائص كل فرد. فشخصية الفرد الواعية تنطمس في شخصية الجمهور. وتغدوا عواطف وأفكار الوحدات المصغرة، المشكلة للجمهور موجهة في نفس الاتجاه، وتشكل كينونة واحدة خاضعة لقانون الوحدة العقلية للجمهور.
إن الظواهر اللاواعية، تلعب دورا حاسما في طريقة اشتغال الذهن. والحياة الواعية، للروح البشرية، لا تشكل إلا نزرا يسيرا من الحياة اللاواعية. والكفاءة العقلية للبشر تمحى وتذوب في الروح الجماعية، فلا يبقى مكان للمختلف أمام المؤتلف. والائتلاف بهذا المعنى هو نزول عن سقف الحضارة، وعودة للبدائية.
والجمهور بموجب هذا التحليل، هو دائما أدنى مرتبة من الإنسان الفرد فيما يخص الناحية العقلية والفكرية. والكتل البشرية يمكن أن تتجه في ظروف معينة نحو الأفضل، ولكن ذلك لا يعصمها من الاتجاه نحو الأسوأ.
والسؤال بعد كل هذا هو هل تسعفنا هذه القراءة، في تحديد أسباب تغول ظاهرة الإرهاب في مجتمعنا العربي، بالسنوات الأخيرة. الجواب بنعم ولا في نفس الوقت. إن التفسير الذي قدمه لوبون قد فتح أعيننا على جوانب خافية من التحليل، ولكنه لم لا يقدم قراءة شافية لأسباب استفحال هذه الظاهرة، وفي هذا الوقت بالذات.
إن علم النفس، مهم جدا في دراسة المجتمعات الإنسانية، ولكنه يبقى عاجزا عن تقديم تفسير واقعي وحقيقي للظواهر الاجتماعية إن لم يتم ربطه بالاقتصاد والسوسيولوجيا والسياسة والتاريخ. على أن ذلك لا ينفي إسهاماته في تقديم شيء من التفسير عن حالة التداعيات والانهيارات الراهنة في مجتمعنا العربي.
ويبقى موضوع استفحال ظاهر الإرهاب في مجتمعنا العربي بحاجة إلى المزيد من التحليل والتأصيل.