الأيديولوجيا في الشهد السياسي والفكري بالوطن العربي

0 104

ا

في مسألة الآيديولوجيا:

 

ابتداء نشير إلى أن كلمة الآيديولوجيا، هي في الأصل غريبة على اللغة العربية. وهي بذلك كلمة وافدة. وهي في أصلها فرنسية، كما يذكر الدكتور عبدالله العروي. وقد عنت علم الأفكار، لكنها لم تحتفظ بهذا المعنى، في مراحل لاحقة. ذلك أن الألمان استعاروا الكلمة، وضمونها معنى آخر، تناوله بالتفصيل الفيلسوف الفرنسي، وعالم الإنسانيات بول ريكور في كتابه محاضرات في الآيديولوجيا واليوتوببا.

 

وحسب ريكور، كان هناك دائما مزاوجة بين المفهومين، على الرغم من التسليم بأن الآيديولوجيا، تنتمي إلى علم الاجتماع والسياسة، بينما تنتمي اليوتوبيا إلى التاريخ والأدب. لكن ريكور وضع مقاربة أخرى للمفهومين، ربط بها الآيديولوجيا مع الواقع والعلم، بينما نظر إلى اليوتوبيا باعتبارها حلما أو خيالا دالا على رغبة. (بول ريكور: 6، 2001).

 

في التراث السياسي العربي، تشير الآيديولوجيا، إلى منظومة فكرية أو عقيدة، أو ذهنية. وقد استخدمت في السنوات الأخيرة، وبشكل خاص بعد سقوط الحرب الباردة باعتبارها دوغما. أنها التعصب لكفرة ما، ورفض ما سواها من الأفكار. وأحيان توصف الآيديولوجيا بالتعصب العقائدي، وهي بهذا المعنى رديفة  للتحيز. فيقال على سبيل المثال، أن فلانا من الناس، ينظر إلى الأمور نظرة آيديولوجية، بمعنى أنه يؤول الوقائع، بكيفية تظهرها دائما مطابقة لما يعتقد أنه الحق. (العروي: 10، 1993).

 

لكن الأمر لم يكن كذلك، أثناء حقبة انتعاش الحركات القومية واليسارية، حيث كان مريدو تلك الحركات، يفاخرون بانتماءاتهم، ويدافعون عنها، ويرون أنها وسيلة تحقيق التطور والتقدم في مجتمعاتهم. إلا أن ذلك لم يكن دائما موضع إجماع، فقد كان هناك أناس مناصرون للآيديولوجيا، باعتبارها نظرة شاملة للكون وقف من الأشياء، وبين معارضين، يرونها معوقا للانطلاق نحو عالم وفكر أرحب.

 

وفي سياق تعريف المفهوم أيضا، يرى الدكتور نديم البيطار، أن هناك بنية أساسية واحدة، تعيد ذاتها في جميع الآيديولوجيات التاريخية المتكاملة الجوانب، سواء كانت دينية أو علمانية، تعيد ذاتها في فكرة المجتمع الجديد التي قالت بها المذاهب السياسية والآيديولوجيات الجديدة. عربيا أعادت إنتاج ذاتها فيما يعرف بالإسلام السياسي.

 

ويصنف البيطار الآيديولوجيات التاريخية المتكاملة الجوانب في نمطين. نمط يصفه بالميتافيزيقي، الذي يجد الحقيقة النهائية خارج التاريخ، وأخر يجد الحقيقة في التاريخ. ويشير في كتابه الموسوعي التاريخ كدورات آيديولوجية، (البيطار: 20، 200) إلى أنه رغم الاختلاف بين النمطين، فإنهما يعودان إلى بنية أساسية واحدة، تعيد ذاتها. وأن هذه البنية تعود إلى وضع تاريخي متشابه.

 

الآيديولوجيا العربية ونظرية الدورة التاريخية:

 

إذا سلمنا بنظرية الدورة التاريخية، فإننا نجيز لأنفسنا تطبيق هذه الدورة على الأفكار. فتاريخيا، هناك صراع فكري مستمر، بين رؤيتين: رؤية منفتحة وأخرى منغلقة. وقد كان ذلك هو الواقع مع المذاهب السياسية الوضعية، كما هو أيضا مع العقائد والمذاهب الدينية. والأفكار هي في النهاية استجابة وتعبير عن واقع موضوعي، ترتقي في لحظات النهوض، وتتراجع في لحظات الضعف.

 

كهذا كان التاريخ دائما، منذ القدم. فالإبداع والمبادرة رديفان للتقدم والنهوض، والجهل والتعصب رديفان للجهل والتخلف. وقد شهد سقوط الحضارة اليونانية، بروز الفلسفة الإبيقورية واللا أدرية، التي لم تكن تعني سوى التشجيع على القبول بالهزيمة. “إذا كان النصر مستحيلا فينبغي احتقاره” “وإذا كان ما لديك لا يكفيك، فلن تكون سعيد حتى لو حكمت العالم”. وبرزت فلسفات مهزومة تدعو إلى التعويض باللذة بدلا عن العمل. كان ذلك نقيض فلسفة سقراط وأرسطو وأفلاطون، الفلسفات التي برزت وانتعشت أثناء توهج حضارة الإغريق. وهي في النهاية حيل دفاعية تلجأ لها الشعوب، لتحقيق توازنها النفسي مع أوضاع صعبة.

 

ولم يكن الأمر بعيدا عن ذلك في الأفكار التي شهدتها الحضارة العربية الإسلامية، بعد الفتنة الكبرى، وخلال العهدين الأموي والعباسي. وليس كتاب تهافت الفلاسفة لأبي حامد الغزالي، وتهافت التهافت، لابن رشد سوى تعبير عن صراع الأفكار، في اتجاه ما عبرنا عنه بنظرية الدورة التاريخية.

 

في التاريخ العربي المعاصر، نشأت الآيديولوجيات السياسية، كانعكاس لأفكار تلاقحت مع الفكر الإنساني العالمي، وتماهت مع شعاراته.

 

كانت حركة اليقظة العربية، قد تأثرت بشعارات الحرية والاستقلال، وطمحت في الخلاص من السيطرة العثمانية، مؤسسة لهوية عربية معاصرة، تتسق مع الأفكار الحديثة التي ارتبطت بالتحولات السياسية الكبرى، في القارة الأوروبية. وحين طعنت النخب العربية في حلمها بتشكيل دولة عربية مشرقية، بعد وضع اتفاقية سايكس- بيكو 1916 قيد التنفيذ، وبداية الهجرة اليهودية إلى فلسطين، تنفيذا لوعد بلفور، 1917، بدت الأبواب مفتوحة لتيار الإسلام السياسي، لتحل محل النخب الذي قادت حركة اليقظة العربية. فكان تأسيس حركة الإخوان المسلمين، بمدينة الإسماعيلية، بعد عقد واحد من وعد بلفور، على يد الشيخ حسن البنا، تعبيرا عن خيبات مشروع اليقظة وفشل محاولات الانعتاق عن السيطرة الأجنبية، والعجز عن بناء دولة عربية عصرية.

 

بعد الحرب العالمية الثانية، بدأت الانقلابات العسكرية، في عدد من البلدان العربية، احتجاجا على واقع مأزوم، وكردة فعل على نكبة فلسطين. ونتج عن الانقلابات العسكرية المتتالية في الوطن العربي، تجريف للحركة السياسية، واقتصر العمل السياسي على الأحزاب الحاكمة. وفي مثل هذه الظروف، كانت الجهة الأقدر، خارج السلطة على احتكار العمل السياسي، هي مجموعات الإسلام السياسي، التي استغلت مفهوم الدعوة، لتوسع من دائرة حركتها، انطلاقا من أرض الكنانة.

 

وليس من شك، في أن نكسة يونيو 1967، قد أسهمت في انهيار الفكرة العربية، التي بدأت حركة اليقظة العربية التبشير بها، منذ النصف الثاني للقرن التاسع عشر الميلادي. وتواصلت بين الحربين، واستمرت في خط بياني متصاعد، حتى النكسة.

وليس من شك في أن ضعف التشكيلات الاجتماعية العربية، والفشل في مواجهة المشروع الصهيوني، قد هيئا لبروز جديد لظاهرة الإسلام السياسي، التي جرى قمعها في الأربعينيات والخمسينيات من القرن المنصرم. فكان عقد السبعينيات مرحلة بروز واسع لحركات الإسلام السياسي، متلفعة بشعار الصحوة، وبـ “الجهاد”، هذه المرة، وناقلة فكرتها بشكل صريح من الدعوة بالتي هي أحسن، إلى عسكرة صفوفها، وفرض أفكارها، بالقسر وقوة السلاح.

هذه الحلقة الجديدة، في سلسلة الدورة التاريخية استمرت طويلا، في التاريخ العربي، في خط صاعد منذ بداية السبعينيات حتى يومنا هذا.

آيديولوجيا الإسلام السياسي، والتحولات الإقليمية والدولية:

لماذا أخذت دورة الإسلام السياسي، حقبة أطول بكثير مما توقع لها الكثير، مع كل الضربات التي وجهت لها، منذ السبعينيات من القرن الماضي؟!

 

تفسير ذلك يكمن في قراءة التاريخ المعاصر، للمنطقة العربية وجوارها الإقليمي. ففي نهاية السبعينيات من القرن الماضي، حدثت الثورة الإيرانية، منطلقة من آيديولوجيا دينية ومذهبية. ولم تتردد عن التبشير في تصدير ثورتها إلى الجوار، وانهمكت في حرب ضروس استمرت ثماني سنوات مع العراق، تسببت في مصرع أكثر من نصف مليون قتيل وضعفهم من الجرحى، وأفرغت الخزائن المالية في المنطقة من مدخراتها.

 

ومع بداية حقبة الثمانينات نزلت القوات الروسية بالعاصمة الأفغانية كابول، ليبدأ التدخل السوفييتي العسكري والمعلن في هذا البلد. وكان من نتائج ذلك بروز مقاومة أفغانية، رفعت شعار الجهاد، وبدت موئلا للجماعات الإسلامية من كل مكان، وحظيت في حينه بدعم عربي ودولي، واعتبر أفرادها مجاهدون أبطالا في وجه الشيوعية، يستقبل قادتهم الرئيس الأمريكي، رونالد ريجان بالبيت الأبيض.

 

وكانت نهاية العقد، قد شهدت سقوط حائط برلين وبداية العد التنازلي لسقوط الاتحاد السوفييتي. كما شهدت حرب الخليج الثانية، حين غزا الجيش العراقي دولة الكويت، وتشكل تحالف دولي لاستعادة الكويت كدولة مستقلة.

 

وكان نصر التحالف بقيادة الولايات المتحدة على العراق، وسقوط الاتحاد السوفييتي والكتلة الاشتراكية، إعلانا واضحا بانفراط النظام الدولي، الذي دشن بعد الحرب الكونية الثانية، والذي استند على ثنائية قطبية، وساد لأكثر من أربعة عقود، وبداية مرحلة الأحادية القطبية، التي تفردت بها الولايات المتحدة الأمريكية بالتربع على عرش الهيمنة الدولية.

 

وكانت فترة نشار في التاريخ البشري، إذ لم يعرف في التاريخ الإنساني المكتوب، أن تفردت قوة واحدة، مهما تكن قوتها العسكرية والسياسية بصناعة القرار الأممي. ولأنها فترة نشار، لم يكن لها أن تستمر طويلا. فكانت حوادث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001م في نيويورك والعاصمة الأمريكية واشنطن, واحتلال أفغانستان والعراق، بداية العد التنازلي، لنهاية الأحادية القطبية، التي اقتصرت دورتها على ما يزيد عن عقد من الزمن بقليل. وليواصل التاريخ الإنساني دوراته المتعاقبة.

 

كانت المحطة الأولى، في تحدى الهيمنة الأمريكية على العالم، قد جاءت من الحليف الفرنسي، والعضو في حلف الناتو، حين هددت فرنسا باستخدام حق النقض في مواجهة أي قرار يصدر عن مجلس الأمن الدولي، في مطلع عام 2003، يجيز للولايات المتحدة احتلال العراق.

 

ثم بدأت الأحداث تتداعي، مقاومة عراقية تتحدى الاحتلال الأمريكي، وحركات جهادية في أفغانستان، تتصدى لغزو أمريكا. وروسيا تبرز من تحت الركام، بقيادة فلاديمير بوتين، لتبدأ صولاتها في الجمهوريات السابقة للاتحاد السوفييتي، ولتعيد بناء ترسانتها العسكرية. وصعود كاسح للاقتصاد الصيني، وتأسيس منظومات إقليمية ودولية واقتصادية جديدة، في أمريكا الجنوبية، لعل الأبرز بينها منظومة البريكس، وشنهغاي.

 

ثم جاء الربيع العربي، خريفا قاسيا على المنطقة بأسرها. تغيرت أنظمة سياسية، من خلال الحركات الاحتجاحية، وصودرت كيانات. وكانت آيديولوجيا الإسلام السياسي، حاضرة في كل المواقع والميادين، وثكنات السلاح. بدت المنطقة تسير ركضا نحو المجهول. وكانت الكلف عالية جدا، وقائمة المصروفات غزيرة، في العراق وسوريا وليبيا واليمن… وأوضاع المنطقة بأسرها، باتت أسيرة الإرهاب والتطرف.

 

كيف نضع هذه الأحداث، في سياق التحولات الإقليمية والدولية؟!

 

الجواب ببساطة أن الكون لا يقبل الفراغ. وسيادة نمط التعددية القطبية في العلاقات الدولية، كانت فترة ترصين للعلاقات بين الدول، والمؤسسات الناظمة. كما كانت فترة الهيمنة الأحادية، فترة تجبر وغطرسة، هيأت مقدماتها لهذا الانفلات والفوضى التي تعم منطقتنا الآن.

 

فترة الانتقال من نظام دولي إلى آخر، هي فترة انعدام التنسيق والترصين للعلاقات بين الأمم. وخلالها تعم الفوضى، التي تأخذ أحيانا أشكالا إيجابية، وأحيانا أخرى، تأخذ أنماطا تدميرية.

 

اتسمت فوضى الانتقال من نظام عصبة الأمم المتحدة إلى نظام هيئة الأمم ومجلس الأم الدولي، بفوضى إيجابية، شهدت تصاعد أدوار حركات التحرر الوطني المطالبة بالاستقلال من الاستعمار التقليدي، وفي المنطقة العربية بشكل خاص من الاحتلال الفرنسي والبريطاني.

 

وحين تأسس النظام الدولي الجديد، لم تتصدى القوتان العظميتان: الأمريكان والسوفييت، لمهمات حركات التحرر الوطني، وهي تواصل كفاحها من أجل الحرية والاستقلال، فقد رأت أمريكا ذلك فرصة لإزاحة الفرنسيين والبريطانيين، عن المنافسة معها، وتطبيق سياسة الباب المفتوح التي بشر بها الرئيس روزفلت ،ورأى فيها السوفييت اتساقا مع آيديولوجيتهم السياسية.

 

في هذه اللحظة، لا يبدو أننا أمام تسويات تاريخية سريعة. فالتسويات الكبرى، تتطلب حروبا في حجم تلك التسويات بين القوى الكبرى. والقوى المرشحة دوليا لملأ الفراغ كثيرة. هناك روسيا والصين والهند، وفي القارة الأوروبية ألمانيا. وهناك من يطالب بإعادة تركيب هيكلية مجلس الأمن الدولي، على ضوء حقائق القوة الجديدة.

 

ولذلك من غير المتوقع أن يتوصل الكبار، في وقت قريب إلى توافقات وتسويات. وحين يستمر الفراغ، تستمر الفوضى، وتواصل طحالب الإسلام السياسي، بدغماها المغرقة في التعصب، ونشر الكراهية، والعطش إلى الدم، لعب دورها التخريبي المدمر. إلى أن تتغير موازين القوى الدولية، بما يجبر الكبار، للجلوس على طاولة المفاوضات، والاحتكام مجددا للقانون الدولي، ولمبادئ الأمم المتحدة، المستندة على احترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، وتحريم الاحتكام للسلاح في حل المنازعات الدولية.

 

عندها فقط، تتغير الدورة التاريخية من جديد، ويتأسس نظام دولي بديل، انطلاقا منن حقائق القوة الجديدة. وحينها فقط لا تعود الآيديولوجيا دوغما ومخزنا للحقد والكراهية، بل رؤية محددة للكون، وموقف من الأشياء تمد بقواعد من السلوك.

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

اثنان × 4 =


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.

د.يوسف مكي