الأزمة اليمنية: محاولة للفهم
تمهيد:
تنطلق هذه الورقة من التسليم بوحدة اليمن، كيانا وشعبا، باعتباره بلدا عربيا، وجزءً أساسيا في منظومة الأمن القومي العربي. إن ذلك يعني، عدم القبول أو التسليم، تحت أي ظرف أو أي مبرر بالنزعات الانفصالية، المُستعرة الآن في الجنوب، ومنطقة صعدة.
المقدمة اللازمة لقراءة ما يجري من أحداث في اليمن، بالجنوب وفي منطقة صعده، وعلى حدوده الشمالية، في جبل الدخان، حيث تشتبك القوات السعودية مع الحوثيين، تقتضي قراءة دقيقة لخارطة الاشتباك، على أرض اليمن ومن حوله.
الأزمة في الجنوب:
لعل الحديث عن الوحدة اليمنية، تُشكل بداية صحيحة لقراءة الأزمة، التي تبدو مستعصية على الحل حتى الآن. وحدة الشمال والجنوب، كانت حلما كبيرا لدى جميع اليمانيين، منذ هيمن الاستعمار البريطاني على عدن وحضرموت، وبقية مناطق الجنوب. وأثناء الكفاح الوطني، من أجل الحرية رفعت جبهتا المقاومة الرئيسيتان: جبهة تحرير الجنوب اليمني المحتل، بقيادة المرحوم عبد القومي مكاوي، والجبهة القومية شعار وحدة اليمن.
ورغم أن الشطر اليماني من الجنوب قد تمكن من إنجاز استقلاله في نهاية السيتينات، من القرن المنصرم، لكن وحدة شطري اليمن، لم تتحقق إلا عام 1990. وقد تم تحقيقها بمفاوضات سريعة، تم خلالها تغييب الفوارق التي تحققت على الأرض، خلال ما يقرب من قرن من الزمن. وكان الحفاظ على الوحدة وصيانتها من الارتداد، يقتضي معالجة تلك الفوارق، وتحقيق الاندماج، في القرارات والقوانين، والأنظمة الاقتصادية بشكل تدرجي.
فاستمرار الاحتلال الانجليزي للجنوب لحقب طويلة أفرز حقائق جديدة. أهم هذه الحقائق تضعضع الكيانات القبلية في الجنوب، بالمقاربة مع نظيراتها في الشمال. وقيام أحزاب سياسية شبه معلنة، وتأسس اتحادات نقابية ومهنية، تعمل في العلن.
وكانت سياسات بريطانيا في هذا السياق، بالمقارنة مع سياسات حكم الأئمة في الشمال، تبدو أكثر “ليبرالية” وتسامحا حين يتعلق الأمر بحرية العمل السياسي والنقابي. ففي الوقت الذي كانت فيه الأحزاب السياسية والتنظيمات النقابية، تسجل حضورها في الجنوب المحتل، كان النظام الاستبدادي الإمامي في الشمال، يعمل جاهدا على إبقاء اليمن في ظلام العصور الوسطى، ممارسا جبروته وسطوته، في قمع كل تطلع نحو الحرية والانعتاق، مواجها بقوة الحديد والنار، أية معارضة سياسية، تتطلع إلى نقل اليمن للعالم المعاصر.
في هذه المناخات، تشكلت حركات سياسية في جنوب اليمن، تحولت فيما بعد إلى حركات مسلحة، تناضل من أجل تحقيق الاستقلال. في الشمال، كانت المعارضة تأخذ أشكالا قبلية محضة، بقيادة رموز وطنية، ثم انتقلت لاحقا إلى تنظيمات عسكرية سرية.
حين قامت الثورة، وأعلنت الجمهورية في أوضاع غاية في التعقيد، واجهت الثورة إسقاطات النظام القبلي، وتدخلات الأنظمة العربية المحافظة لقمع تطلع شعب اليمن في الخروج إلى العصر، وفرض إرادته. وتدخل الرئيس عبد الناصر، مساندا النظام الجمهوري الفتي، كما ساندت سوريا البعث ثورة 26 سبتمبر وقدمت لها مختلف أشكال الدعم. لكن الحرب، بين النظام الجمهوري، وفلول النظام الإمامي، استمرت حتى ما بعد نكسة حزيران، عام 1967، حيث اتفق الملك فيصل والرئيس عبد الناصر في مؤتمر قمة الخرطوم على وضع حد للصراع، وتحقيق مصالحة وطنية، أعادت لشمال اليمن بعضا من الاستقرار، بعد أن تمكن اليمانيون بقوة إصرارهم، وقوة ثباتهم، ودعم القوى القومية، وفي مقدمتها القطر العربي السوري من إفشال المحاولات البائسة، التي أعقبت إعلان المصالحة، لإسقاط النظام الجمهوري، وبشكل خاص ما عرف ﺒ”هجوم رمضان”.
في الشطر الجنوبي، تحقق الاستقلال، وتسلمت الجبهة القومية السلطة. وبدأت الجبهة التي قادت النضال، تشهد تحولات سياسية وأيديولوجية، جعلت منها تلتزم بالنهج الاشتراكي، وقد جعل ذلك من الشطر الجنوبي من اليمن حليفا استراتيجيا للسوفييت. ومع كل الصراعات والمشاكل، التي واجهتها الجبهة، التي تحولت مؤخرا إلى الحزب الاشتراكي، فإن الدولة أصبحت “دولة رفاه” بالمعنى المجازي، حيث تعهدت بتوفير التعليم والعلاج المجانيين، والسكن والعمل والغذاء. في ذات الوقت، قضت عمليات التأميم المستمرة، على إمكانية بروز طبقة متوسطة في البلاد. وكانت البقية الباقية من الإقطاع قد تم دحرها.
مقاربة بين الوحدتين اليمنية والألمانية:
حين تحققت الوحدة بين شطري اليمن، لم يكن في الجنوب سوى الدولة، وعموم الناس الذين يشكلون القاعدة العريضة من الجمهور. ولم يكن هناك هرم اقتصادي. بمعنى أنه لم تكن هناك طبقات أخرى، غير تلك القاعدة.
في اليمن الشمالي، بقي القطاع الخاص، يمارس دوره، وبقي الإقطاع نشيطا، كما بقي للقبيلة ثقلها المادي والمعنوي، وكان حضورها السياسي قويا جدا، يلمس بشكل واضح في التشكيلات السياسية في المؤتمر الشعبي والإصلاح، وبقية الحركات السياسية الأخرى.
هذا يعني أن الوحدة بين الشطرين، تمت بين بلدين، بنظامين اقتصاديين مختلفين: أحدهما يقوم على هرم، قاعدته جموع المعدمين والكادحين والحرفيين، وفي القلب منه تقف البيروقراطية والطبقة المتوسطة من تجار وضباط كبار وملاك صغار، وفي قمته يقف شيوخ القبائل، وبقايا الإقطاع، وبناء السلطة الفوقي. أما في الشطر الآخر، فلا يوجد هرم على الإطلاق، وإنما عناصر تستمد قوتها من كونها تتربع على السلطة، وتعتمد صيغة الاقتصاد “الاشتراكي” “الريعي”، حيث لا تكون الثروة نتاجا لحراك ذاتي، رغم أن السلطة تهيمن بشكل يكاد يكون مطلقا على القطاع العام، بل تعتمد بشكل كبير على المساعدات والقروض، وتقدمها للشعب في صيغة خدمات مجانية، تماهيا مع الالتزام الأيديولوجي للنظام.
وإذا قمنا بمقاربة بين وحدة شطري اليمن، على سبيل المثال، والوحدة الألمانية، وهما وحدتان تحققتا في وقت متقارب، وعوامل التشابه بينهما كثيرة من حيث وجود نظام اشتراكي في ألمانيا الشرقية، وآخر يعتمد الاقتصاد الحر في ألمانيا الغربية، بما يعني وجود هرم اقتصادي في ألمانيا “الرأسمالية”، وغيابه في ألمانيا الاشتراكية. سجلت تجربة الوحدة الألمانية نجاحا واضحا، بينما عانت وحدة اليمن من كثير من العثرات>
هنا نحن إزاء جملة من القضايا، لا بد من الوقوف أمامها لوعي أسباب هذه العثرات. لعل أهمها أن انفصال اليمن، استمر لحقبة أطول من تلك التي شهدتها ألمانيا. فقد تم احتلال بريطانيا لمرفأ عدن عام 1833 وبقيت تحت الاحتلال حتى عام 1967، حين أُجبرت القوات البريطانية على الرحيل أمام ضربات الثوار. في حين تم فصل الجزء الشرقي من ألمانيا عن الوطن الأم إثر استسلام ألمانيا عام 1945، وتم هدم جدار برلين في نوفمبر عام 1989، بعد 45 عاما على الاحتلال السوفييتي للمدينة.
ن ثقافة الديمقراطية، بالطريقة الغربية، ترسخت في ألمانيا الغربية، بما في ذلك ثقافة القبول بالآخر والتعددية وتداول السلطة، والرقابة والمساءلة. وكانت بنية النظام وأوضاعه الاقتصادية تساعد كثيرا على اندماج الشطر الألماني سريعا في الوطن الأم. في حين لم يكن الوضع كذلك، في اليمن. هناك وضع قبلي نشط في الشطر الشمالي، وحضوره معنوي ومادي، يمكن قياسه معياريا. أما في الشطر الجنوبي، فإن هذا التشكل القبلي شهد تضعضعا متدرجا في كثير من المحطات.
شهدت القبيلة في الجنوب تضعضعها الأول أثناء هيمنة الاستعمار البريطاني، حين خلق الحضور العمالي، وبشكل خاص في ميناء عدن، واقعا سياسيا ومجتمعيا جديدا، عبر عنه موقف الطبقة العاملة أثناء رفض العمال الأمريكيين تفريغ الباخرة المصرية كليوبترا في ميناء نيويورك في منتصف الخمسينيات. كما عبر عنه وجود اتحاد عمال قوي يقوده عبد الله الأصنج، وأحزاب سياسية، وطنية وقومية ناشئة.
وتضعضعت مرة أخرى، حين قاد النضال الوطني المسلح، عناصر شابة، اتخذت في المدن الرئيسية، كعدن وحضرموت، طابع الانتفاضات الشعبية والتشكيلات المدنية، غير القبلية، كما اتخذت شكل حرب العصابات وجيوش التحرير، منطلقة من جبال ردفان. إن قيادة هؤلاء الشباب للعمل الوطني المسلح، وتمكنهم من إحراز انتصارات باهرة على المحتل، يعني تراجع دور الوجاهات القبلية، لصالح القوى الجديدة التي تصدرت قيادة الكفاح. ومع تضعضع المرتكزات المادية للبنيان القبلي، أصبح حضوره معنويا فقط، حتى وإن بقي محتفظا لبعض الوقت، بقوته الاقتصادية.
وتضعضعت مرة ثالثة، بعد الاستقلال حين قام نظام اقتصادي اعتمد على سيطرة الدولة على كافة الفعاليات الاقتصادية، وشكل القطاع العام العمود الفقري للاقتصاد. وأصبحت البلاد، كما أشرنا، دون هرم اقتصادي، حيث لا طبقة متوسطة ولا إقطاع. ومع حملة التأميمات التي قامت بها الدولة لم يعد هناك أي حضور للقبيلة، سوى الحضور الاعتباري، المرتبط بقوة النسب وصلات القربى.
حين حدثت الوحدة، وجرى الانتقال بالاقتصاد في الشطر الجنوبي، من الاقتصاد “الاشتراكي”، إلى اقتصاد السوق، وبدأ تفكيك القطاع العام لم يتم ذلك بشكل منظم، يحقق الندية والتكافؤ بين شطري اليمن، ولم يؤدي إلى تشكيل هرم، حتى وإن كان جنينيا في الجنوب بأي شكل من الأشكال. لقد تم ذلك بشكل آخر، مغاير تماما عما حدث في ألمانيا الشرقية. هنا نظر أقرباء رئيس الدولة ومعاونوه إلى الجنوب كغنيمة، انقضوا عليها. ولم يمر الشطر الجنوبي بمرحلة تأهيل للانتقال من النظام الاقتصادي القديم إلى الشكل الجديد. وتحول الجنوب برمته إلى أطراف. ولن نجانب الحقيقة كثيرا إذا ما وصفنا ما يجري في اليمن ﺒ”التطور اللامتكافئ” حسب تعبير الدكتور سمير أمين.
في ألمانيا، كانت الوحدة مكسبا لشطري البلاد فقد جرت مرحلة من التأهيل والانتقال المخطط من تفكيك القطاع العام إلى الاندماج باقتصاد السوق الحر. جرى ضخ مليارات الماركات لتنشيط الفعاليات الاقتصادية، وكانت نتيجة ذلك أن انطلق قطار التنمية الاقتصادية، بقوة في ألمانيا الشرقية.
بالتأكيد لم يكن ذلك ممكنا أبدا، في اليمن بشطريه، فالبلاد شمالها وجنوبها تنوء بقوافل العاطلين عن العمل، وترزح بأسرها تحت ثقل مشاكل اقتصادية مستعصية، إضافة إلى استشراء المحسوبية والفساد، وضعف المراقبة والمساءلة، وجميعها تجعل البلاد عاجزة عن تحقيق التنمية والالتحاق بركب التطور والتقدم. وكانت النتيجة أن الوحدة غدت، منذ بداياتها كسيحة وعاجزة عن تلبية حلم المواطنين في يمن سعيد.
وحين تتضاعف المشاكل، الاقتصادية والاجتماعية، وتعجز الدولة عن إيجاد معالجات جدية لأزماتها، تضعف هيبة الدولة، ويتطاول عليها المحرومون والمهمشون والجياع.
كان طبيعيا أن تتفجر الأزمة في الشطر الجنوبي، بعد أن أصبحت وحدة الشطرين عبئا على مصالح الناس وقوتهم وحقهم في الحياة، بدلا من أن تكون عامل إسناد وتعضيد للمشروع الوطني اليمني، وللدفع باليمن في مسارات التنمية والبناء. وكان طبيعيا أيضا، أن تتفاعل الأطراف المهمشة والمحرومة في الشطر الشمالي من اليمن مع ما يجري من حراك في الجنوب.
التدخل الإيراني في شؤون اليمن:
في أجواء ضعف الدولة ومؤسساتها، وعجزها عن معالجة المشاكل المستعصية، ومع حرمان القيادات الوطنية المخلصة، من المشاركة في إيجاد حلول للأزمة، تكون فسحة للقوى الإقليمية، للتدخل في الشؤون الداخلية لليمن، مستغلة في ذلك الصلات الثقافية، والانتماءات المذهبية.
إن تدخل الجمهورية الإسلامية الإيرانية في الشؤون الداخلية اليمنية، في صعده بدعم التمرد الحوثي يأتي في هذا السياق، كما يأتي متسقا مع سياسات إيران، في المنطقة، وبشكل خاص تدخلها الجلي في الشأن العراقي، وتنسيقها مع المحتل الأمريكي في فرض عملية سياسية، تهدف إلى تفتيت العراق، على أسس المحاصصات الطائفية والإثنية.
وربما هدفت إيران، من خلال تنشيط بؤر التوتر في اليمن، إلى إيجاد موضع قدم لها على الضفة الشرقية للبحر الأحمر، قريبا من مضيق باب المندب. إن ذلك، إن تحقق لها سيشكل، حين يضاف إليه حضورها الاستراتيجي، في عنق مضيق هرمز، قوة ضغط على الولايات المتحدة الأمريكية، التي تحاول منع إيران من امتلاك قدرات نووية.
ماذا التدخل العسكري السعودي:
التدخل السعودي، المتمثل في التنسيق مع الحكومة اليمنية لخنق التمرد الحوثي، يمكن فهمه من عدة زوايا. أهمها خشية النظام من أي وجود، وفي أي شكل من الأشكال لقوة موالية لإيران على حدوده الجنوبية.
إن الأمر بالنسبة للقيادة السعودية، يصبح أخطر من ذلك بكثير، حين تنتمي هذه القوة إلى الطائفة الشيعية. فحين يتمكن المنتمون إلى هذه الطائفة، في اليمن من تحقيق أي شكل من أشكال الانفصال، أو حتى ما هو أقل من ذلك بكثير، فإن من شأن ذلك تعزيز النزعات الاستقلالية في المناطق التي يشكل الشيعة أكثرية سكانها الأصليين، وبشكل خاص بالمنطقة الشرقية.
ليس بخاف أن تفتيت المملكة موضوع مطروح من قبل مراكز استراتيجية بالولايات المتحدة، منذ فترة طويلة. وقد أعيد بعث الموضوع بعد أحداث 11 سبتمبر عام 2001، بشكل مكثف. ولعل الأوضح بين المشاريع التفتيتية، هو تقرير معهد راند للدراسات الاستراتيجية The Grand Strategy الذي يقترح فصل منطقتي الحجاز والشرقية عن المركز، كمقدمة لتفتيت بقية المناطق.
إضافة إلى ذلك، فإن هيمنة متمردين على جزء من الساحل الشرقي للبحر الأحمر، وقريبا من باب المندب، من شأنه أن يهدد سلامة طرق الإمدادات النفطية إلى أوروبا وأفريقيا. لقد واجهت المملكة، ولا تزال تواجه مشاكل القراصنة الصوماليين، الذين تعرضوا فعلا لناقلات النفط السعودية، وقاموا باحتجاز واحدة منها. إن الأمر سيكون أكثر خطورة، على سلامة تدفق النفط للخارج، إذا ما تمكن المتمردون الحوثيون من الوصول إلى الساحل.
إن انفلات الأمور في اليمن شماله وجنوبه، ستجعل البلاد مطمعا لتدخلات أكبر من القوى الإقليمية، كما أن ضعف الدولة المركزية سينتج عنه تمكين منظمة القاعدة، التي عانت المملكة جراء عملياتها التخريبية، من جعل الأراضي اليمنية معاقل لوجودها، خاصة بعد الحصار العنيف الذي تتعرض له الآن في أفغانستان وباكستان.
مثل هذه الميلودراما الثلاثية: أوضاع الجنوب، والحوثيين والقاعدة، تهديدا مباشرا للأمن الوطني في السعودية. إن ذلك هو ما يفسر الحماس السعودي على التدخل عسكريا، في اليمن وضرب معاقل الحوثيين في صعدة، وسفوح جبل الدخان، بمختلف أنواع الأسلحة، بما في ذلك القصف الجوي والمدفعي.
لا شك أن استمرار الحرب، ستزيد الموقف تعقيدا، داخل الأراضي اليمنية، وسوف تضعف استمرارية هذه الأزمات من قبضة الدولة المركزية، وتشل قدرتها على الإمساك بزمام السلطة، كما أنها ستعطل مجرى الحياة اليومية والطبيعية للشعب اليمني، وتحول دون نماء هذا الشعب ورخائه.
وعلاوة على ذلك، فإن من غير المستبعد أن ينتقل لهب هذه الأزمات إلى عموم المنطقة، وبشكل خاص إلى المملكة، ما لم يتم احتواؤه، ومعالجته.
سبل معالجة الأزمة:
شلال الدم الذي يجري الآن، في عدد من المناطق اليمنية، ليس مقبولا مهما تكن ذرائعه وتبريراته. وضع كهذا من شأنه أن يحدث شرخا كبيرا في بنية المجتمع اليمني، يضرب بمفهوم المواطنة، ويضع شرعية النظام محل مساءلة. ولن يكون من السهل إعادة الاعتبار لروح العائلة الواحدة. فالأهل، حيثما تواجدوا، وفي أي خندق وجدوا هم أهلنا. والذين يقتلون، سواء من الجنود والضباط أو من الحوثيين والجنوبيين وأفراد القاعدة هم أولا وأخيرا من أبناء اليمن. ولذلك تغدوا المصالحة الوطنية أمرا ملحا وجوهريا، لإعادة اللحمة لأبناء هذا القطر، ولتمكينه من الانطلاق نحو التقدم والنماء.
في هذا السياق، لا بد من خطوات هامة، تضطلع بها القوى الوطنية، وتسهم معها في ذلك القوى القومية، على الساحة العربية، على الصعيدين الرسمي والشعبي. وينبغي تحقيق هذه الخطوات على عجل.
في مقدمة المهام، على الصعيد الداخلي، تحقيق المصالحة الوطنية، وإعلان ميثاق وطني، يتكفل بالقيام بمراجعة شاملة للسياسات التي اتبعتها الدولة اليمنية، وفي مقدمتها، معالجة الأخطاء التي شابت تحقيق الوحدة، ومن ضمنها الفراغ المجتمعي الذي تسبب فيه عدم وجود هرم اجتماعي، بالطريقة التي تناولناها في هذا الحديث.
ذلك يقتضي محاربة جادة للمحسوبية والإقصاء والتهميش والفساد، والتركيز على معالجة الأزمات الاجتماعية والاقتصادية في الشطر الجنوبي. وأن يكون حضوره واضحا وجليا في البناء الفوقي الذي يقود السلطة في هذا القطر. كما يقتضي إعادة صياغة لطريقة الحكم، يتم من خلالها تغليب الاحتكام إلى القانون وإلى الدستور. واعتماد توسيع دائرة المشاركة السياسية في صنع القرار.
ويقتضي أيضا، ترك اليمن لأهله، بعيدا عن التدخلات الإقليمية، والوقوف بحزم ضد مشاريع التفتيت. في هذا السياق، سيكون على القيادة في القطر العربي السوري، أن تلعب دورا مركزيا، من خلال علاقتها المتميزة بالجمهورية الإسلامية الإيرانية، لممارسة ضغط شديد على قيادتها، لكي تنأى عن التدخل في الشؤون العربية، وبشكل خاص ما هو جار الآن في العراق واليمن.
وسيكون عمليا، ومفيدا جدا أن تنسق القيادة العربية السورية، مع قيادتي المملكة العربية السعودية واليمن، للوصول إلى مصالحة وطنية حقيقية، تتكفل بإنهاء الأزمة، بالتنسيق مع أحزاب المعارضة، والعناصر الفاعلة في صناعة القرار داخل اليمن.
توجد أيضا حاجة لضغط القوى القومية الشعبية، وتشكيل مجلس حكماء، من المؤتمر القومي العربي، والمؤتمر القومي الإسلامي، ومؤتمر الأحزاب العربية، يتكون من شخصيات عرفت بنزاهتها وتاريخها النضالي والوطني، لتسهم في تقريب وجهات النظر بين المعارضة والحكومة. ولتلعب دورا رئيسيا في الحفاظ على الوحدة اليمنية، ووقف نزيف الدم في هذا البلد العربي العزيز.
وينبغي أيضا الاهتمام بالأطراف، وسيكون ملحا وضروريا، الخروج ببرنامج إعمار للمناطق التي تضررت من الحرب الأهلية، وبرنامج آخر للأطراف التي عانت من الإقصاء والتهميش. وسيكون مفيدا جدا، أن تضطلع الدول النفطية بتشكيل صندوق لاعادة إعمار المناطق التي دمرتها الحرب، ولتنمية المناطق الفقيرة، ومواجهة حالات البطالة، والفقر والأمراض التي تعصف بالمجتمع اليمني. صندوق كهذا، ينبغي أن يخضع لرقابة مشددة، لكي لا تتسرب أمواله، لجهات ولبرامج ومشاريع، غير تلك التي يؤسس الصندوق لصالحها. وفي يقيني فإن هذه المسألة، تأتي في سياق الحفاظ على الأمن القومي العربي. وهي شرط لازم لتحقيق الأمن والاستقرار في عموم المنطقة.
تلك قراءة أولية للأزمة، ومحاولة متواضعة لإيجاد مخارج لها، فإن أصابت فذلك هو جل ما نتوخاه، وإن أخفقت، فحسبها أنها محاولة من العقل والقلب.