الأحزاب السياسية ومستقبل الوحدة العربية
تمهيد:
تركز هذه الورقة على دور الأحزاب السياسية العربية التي تطرح بقوة قضية الوحدة. وتميز في هذا السياق بين ثلاثة مستويات: مستوى يرى في الالتزام بالوحدة مبرر وجوده، وعلى أساس ذلك، تبنى هياكله وتنظيماته، كما هو الحال مع البعث والناصريين وحركة القوميين العرب، ومستوى يؤمن بالوحدة، ولكن دائرة عمله هي حدود البلد الذي نشأ فيه، وينسحب ذلك على مواقف الأحزاب الوطنية المغربية، وجبهة التحرير الجزائرية، وبعض تنظيمات المقاومة الفلسطينية، وتنظيمات أخرى، في أرجاء الوطن العربي. ومستوى ثالث، هو أقرب للموقف الرسمي العربي، يتبنى الوحدة، من منطلق تضامني، لكنها ليس لها أرجحية، في سياساته أو برامجه، وحضوره موسمي في الغالب.
تنطلق هذه المقالة من الالتزام بالوحدة العربية كمسلمة قومية وتاريخية، ولذلك لا تناقش جوانب الضرورة فيها. ولا تتعرض للصيرورة النضالية التي حكمت مسار الوحدة، إلا بقدر علاقتها بتوجهات المستقبل.
الأسئلة المركزية التي تطرحها هذه الورقة هي: لماذا تعثر مشروع الوحدة العربية؟ وما السبيل لتجاوز العثرات؟ وما السبيل لتجاوز الأسباب التي أودت بمسيرة العمل القومي، وما هي الأدوار التي ينبغي أن تضطلع بها الحركة القومية، باتجاه صياغة مشروع وحدوي جديد، يستوعب المتغيرات الكونية؟ هذه الأسئلة ستكون محاور المناقشة.
لماذا تعثر مشروع الوحدة العربية:
خلافا للمشاريع القومية الأوروبية، ارتبط المشروع القومي العربي، بمواجهة الهجمة الكولونيالية، وتحقيق الاستقلال، والنضال ضد الأسواق الإمبريالية، التي هدفت إلى استنزاف ثروات الأمة، والعبث بمقدراتها. وكانت نشأته في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، قد جاءت للرد على الاضطهاد العنصري الطوراني، ومحاولات تغييب الهوية العربية، ولم تكن تحمل برنامج عمل نضالي، ولذلك غلبت الانفعالية على شعاراتها، وغدت محكومة بقانون الفعل ورد الفعل، وليس بالإبداع والمبادرة.
على النقيض من ذلك، ولدت المشاريع الأوروبية، في القلب من السوق، الذي أضحى حاضنتها الأولى، وجاءت ولادة أمم أوروبا تعبيرا عن صعود كاسح للطبقة البورجوازية، التي وجدت من مصلحتها تحطيم الحدود، وكسر الحواجز الجمركية، كمقدمتين لازمتين، لانطلاق عصر الإمبريالية.
إن مقاربة المشروعين: الأوروبي والعربي، تشي بأن الأول، كان نتاج صيرورة تاريخية، وجد حاضنة اجتماعية قادرة على النهوض به وتحويله إلى أمر واقع. وكان لنتائج الحرب العالمية الثانية، دورا كبيرا في تعضيده، والارتقاء به من مشروع أمم أوروبية، إلى شراكة في السوق، عبر عنها بـ”السوق الأوروبية المشتركة”، ثم إلى مواطنة مشتركة واتحاد أوروبي. شمل في مراحله الأولى الجزء الغربي من القارة، لتنضم إليه لاحقا بعد انتهاء الحرب الباردة بقية دول أوروبا. وقد حلق المشروع الأوروبي بجناحين، هما مشروع مارشال، الذي أسس قاعدة الانطلاق الإقتصادية، وحلف الناتو، الذي تحول إلى مؤسسة دفاع مشتركة. بمعنى آخر، وضعت نتائج الحرب الكونية الثانية، لبنات التأسيس، لانطلاق مشروع الوحدة الأوروبية، بينما وقفت نتائج الحربين الكونيتين، الأولى والثانية، بالضد من الحلم العربي في الحرية والانعتاق، وتحقيق الوحدة.
وهكذا يمكننا القول أن السياسات الدولية والتحولات التاريخية، لم تسعفا مشروع الوحدة العربية، بل على النقيض من ذلك، جاءت الهجمة الإمبريالية، والهجرة الصهيونية، وضعف مقاومة الهياكل الاجتماعية العربية، لتصبح عناصر طاردة لهذا المشروع. في حين كانت تلك التحولات والسياسات التي ارتبطت بها، عناصر جاذبة لوحدة أوروبا.
يضاف إلى ذلك أن اليقظة العربية الأولى، بما هي مشروع للنهوض، جاءت بعد انقطاع طويل لحضور الأمة، إثر اجتياح التتار والمغول العاصمة العباسية بغداد ولمراكز الإشعاع العربية. وكان المؤمل أن تتجه مسيرة التنوير بالعصر الحديث، في خط بياني صاعد، حتى تتمكن من إحداث نقلات نوعية في الفكر والثقافة، إلا أنها لم يقدر لها مواصلة سيرها، ووئدت وهي لما تزل في المهد. فكانت النتيجة فشل مشروع النهضة، قبل أن يتمكن من تحقيق أهدافه. وقد أفصح هذا الفشل عن ذاته، في جملة من التراجعات، لعل أبرزها، توقيع معاهدة 1936، مع الاستعمار البريطاني، في مصر، وعجز القيادات الوطنية عن التصدي للهجرة اليهودية إلى فلسطين، منذ مطالع العشرينيات من القرن المنصرم، مما رصف الطريق لإقامة الكيان الصهيوني، وتوقيع معاهدة بارتسموث، في العراق، وأيضا النظرة المزدرية للجماهير المعبر عنها بـ “أن العرب هم مجموعة من الأصفار”. وكان من نتائج هذا العجز تقسيم بلاد الشام، وفقا لاتفاقية سايكس- بيكو وتنفيذ وعد بلفور. إضافة إلى فرض اتفاقيات ومعاهدات حماية ووصاية مهينة، على بلدان الساحل المتصالح: الخليج العربي.
لقد نقلت نتائج الحرب العالمية الأولى الصراع في الوطن العربي، إلى مواجهة مع استعمار فتي، لا يرى في حضارة الشعب المضطهد سوى الانحطاط والتأخر والهمجية، وهو فوق ذلك كله احتلال عسكري، متغطرس يمارس فيه أصغر جندي من قوى الاحتلال صلفه على أكبر كبير في الأمة. وهو احتلال ثقافي، يحاول المحتل عن طريقه قطع صلات الأمة بتاريخها وثقافتها وحضارتها وتراثها كله.
في عمرة الصراع مع الاستعمار، تبلورت الهوية العربية، في إطار تاريخي وموضوعي ارتبط بسيرورة تفكك النظام الاستعماري، بالاتفاق أو عن طريق القوة، وصعود نجم حركات التحرر الوطنية في العالم الثالث. وكانت تلك من أبرز تحولات القرن العشرين.
كان الإيقاع السياسي الذي يموج به الشارع العربي، مفعما بالأماني بقيام أمة عربية واحدة. وكان الأساس النظري لفكرة الوحدة قد استمد مشروعيته من الإيمان بأن المجموعات البشرية التي عاشت على البقعة الجغرافية الممتدة من الخليج العربي شرقا، إلى المحيط الأطلسي غربا، قد جمعها إرث حضاري وتاريخي وثقافي، بل ونضال ومصير مشتركان. وأنها بما يربطها من وحدة لغوية وجغرافية واقتصادية، فإن قدرها الانضواء في دولة عربية موحدة، تجعل من رفضها للاستعمار وربيبته “إسرائيل”، رفضا إيجابيا وغير منفعل، أدواته ومقوماته عمق الأمة، حين تضع ثرواتها وإمكاناتها ومواردها مجتمعة في خدمة هذا الرفض، بما يضمن تحقيق الحرية والتقدم والتطور.
كما انطلقت من التسليم بأن الحرية التي يسعى إلى تحقيقها كل قطر عربي على حدة، تصطدم بمعوقات ومآزق تجعل من الحديث عنها طنين، لا تربطه بالواقع أية صلة، مادامت السيادة الاقتصادية في يد السيد المستعمر. فالحرية بالمعنى العميق والشامل، هي التي تبلغها الأمة من خلال هيمنتها على مقدراتها، وبنائها لقدراتها الذاتية.
وكان تنامي التأييد لفكرة الاشتراكية لدى قطاع واسع من المثقفين، فيما بين الحربين العالميتين، قد منح زخما جديدا لفكرة الوحدة العربية، حين ربطها بموضوع التنمية الاجتماعية والاقتصادية، التي لا يمكن أن تتحقق في ظل ضعف للهياكل الاجتماعية، والتركيبة العشائرية وشبه الإقطاعية السائدة بالوطن العربي، إلا عبر تخطيط اقتصادي، يلتزم بتنفيذ الأولويات من المشاريع التي تستجيب للحاجات الأساسية للأمة. وذلك يعني في أبسط أبجدياته، رفضا قاطعا لأن تكون التنمية في الوطن العربي، حاصل فوضى ومضاربات الحرية الاقتصادية، بل من خلال سيطرة الدولة على موارد البلاد، وهيمنتها على وسائل الإنتاج، وبالتوزيع العادل للدخل، من خلال زيادة الضرائب وتوفير الخدمات الاجتماعية. إن ذلك، هو السبيل لتحقيق تنمية اقتصادية بأبعاد كبيرة، بما تتطلبه من رؤوس أموال كبيرة، وقدرات بشرية هائلة، مواد خام وموارد وأسواق واسعة، لا يمكن أن يضطلع بها أي قطر عربي على حدة، وإنما تتحقق عن طريق تكامل اقتصادي عربي، بين مجموعات تتجانس، أو على الأقل تتقارب، في أسس نظمها السياسية والاجتماعية. وتصبح قادرة من خلال دولة الوحدة، على إحداث تغييرات أساسية وجذرية في البنى الاقتصادية.
باتت هذه المقدمات النظرية، بحاجة إلى حاضن سياسي، وإلى طليعة ثورية تقود الشعب نحو تحقيق تلك الأهداف. وما كان لهذا الجدل أن يجد بيئة أفضل ملائمة في الوطن العربي، من القطر السوري. فمنذ النصف الثاني للقرن التاسع عشر، غدا هذا القطر مركزا لانبعاث اليقظة، ومنه انطلقت فكرة القومية العربية، وفيه حدثت أول مواجهة عسكرية بالمشرق العربي، مع الاستعمار الفرنسي في موقعة ميسلون. وكان هذا القطر من أكثر الأقطار تضررا بالحدود التي رسمتها بريطانيا وفرنسا بموجب اتفاقية سايكس بيكو، التي قسمت مشرق الأمة، وفقا للأطماع الاستعمارية. وكانت سوريا قد بدأت، منذ وقت مبكر، رصدها عن قرب، تطبيق البرنامج الصهيوني، لاغتصاب فلسطين، بعد الشروع في تنفيذ وعد بلفور.
وكان الجواب الذي قدمه البعث، هو عصارة الجدل الذي استعر، بين النخب القومية والوطنية فيما بين الحربين، وخلاصته أن الأمة العربية أكدت حضورها الإنساني، من خلال حادثة تاريخية هي بروز الدعوة الإسلامية، ونشوء الدولة العربية التي ارتبطت بتلك الدعوة. إن هذا الإنجاز لا يمس في جوانبه الإيجابية جزء من العرب، بل هو إنجاز لكل العرب، لأنهم وجدوا أنفسهم أمة واحدة من خلال هذه الحادثة، ومن خلالها أيضا تمكنوا من نشر رسالتهم الحضارية في مختلف أرجاء الكرة الأرضية. ولذلك فإنهم إذا ما أرادوا تحقيق تواصلهم الحضاري، فإن عليهم أن يستلهموا من ذلك الإرث محفزات في انطلاقتهم الجديدة.
جاءت التجربة الناصرية لاحقا، مع مطلع الخمسينات من القرن المنصرم، لتلتحق بغمار هذا الجدل، ولتتضح هويتها، في خضم المعارك التي خاضتها، بدءا بكسر احتكار مبيعات السلاح، وتأميم قناة السويس، إلى مواجهة العدوان الثلاثي الغاشم عام 1956، وبناء السد العالي، حيث تنبهت لأهمية المشرق العربي، وبالتالي لأهمية الزخم القومي كرافد لها في معركتها الوطنية.. وكانت لحظة توجت بقيام أول وحدة بين قطرين عربيين في العصر الحديث.
لكن تلك التجربة ووجهت بنكسة الانفصال، وعلى الرغم من مضي ما يزيد على الأربعين عاما على الإعلان عن تلك التجربة، لم يشهد الوطن العربي تجربة أخرى مماثلة. ولم يعد مقبولا اعتبار القوى الامبريالية المسؤول المباشر عن هذا الفشل، خاصة بعد وصول حزب البعث العربي الاشتراكي للسلطة في قطرين عربيين: سوريا والعراق، هما بمنطق التاريخ العربي، من أهم مراكز الإشعاع الحضاري في الأمة، إضافة لوجود نظام قومي ووطني، في مصر استطاع تحشيد الجماهير من حوله لما يقرب من حقبتين.
ولعل الإجابة على هذا السؤال: لماذا فشل المشروع القومي في تحقيق الوحدة، هي المقدمة اللازمة، للخروج بمشروع النهضة العربية من حالة الانسداد التي واجهها.
في هذا السياق يجدر التنبه إلى أنه على الرغم من أن كافة مشاريع النهضة العربية، اعتبرت قضية الوحدة الركن الأساس، فيها، فإن سياقات تحقيق هذا الهدف، وشكل الوحدة المنشودة كانت ولا تزال موضوعا خلافيا بين المفكرين العرب. ولن نتجاوز كثيرا الحقيقة حين نشير إلى أن المشروع القومي الوحدوي ارتبط بشحنات عاطفية ووجدانية حركت مشاعر الجماهير العربية في كل مكان لكنها عجزت عن تحويل الحلم إلى حقيقة.
قيل في أسباب عجز المشروع النهضوي، أنه رومانسي، يستند على الذاكرة التاريخية، وقيل في المقابل، إن الأمم هي نتاج صيرورة تاريخية، وأن عناصر تكونها هي اللغة والجغرافيا والتاريخ، وأن المشكلة تكمن في قوة رسوخ الكيانات القطرية، وتجذر فكرتها، التي هي نتاج واقع التجزئة من وجهة نظر البعض، وأنها واقع موضوعي، سابق على الإحتلال الأجنبي من وجهة نظر البعض الآخر.
وللأسف لم يخرج الجدل المحتدم، ولا الحوارات الساخنة، حول موضوع الوحدة العربية والفكر القومي، في معظم الأحيان عن المماحكات اللفظية، والتصورات الذهنية. وكانت في نتائجها إفصاحا عن ارتباكات في الأجوبة، كما هي ارتباكات في الأسئلة، وتعبير عن تهاوي التنظير في مقدماته ونتائجه.
لقد أصبح واضحا أنه ليس يكفي الحديث عن هجمة كولونيالية، وهي صحيحة إلى حد كبير، في مواجهة المشروع الحضاري للأمة، فتلك من بديهيات المواجهة، والفشل في إدراكها هو كارثة بكل المقاييس. كما أنه من غير المفيد كثيرا الاعتراف بضعف التشكيلات الاجتماعية العربية، وبهيمنة شبكة من العلاقات والكيانات البطركية ما قبل التاريخية على الواقع العربي، بما يفرض استتباعا قدريا لتلك البنيات، ولتجليات علاقتها بالخارج. فذلك مهما بلغ في دقة شروحه، لا يخرج عن التوصيف والتحليل، ولا ينقل الفكر القومي إلى دائرة الفعل.
صحيح أن عناصر تكوين الأمم الحديثة، التي أشارت إليها الأدبيات السياسية، والتي ارتبطت ببروز الدول القومية، متوفرة في واقعنا العربي. فنحن في الغالب نتكلم لغة واحدة هي العربية، ويربطنا تاريخ واحد، وجغرافيا واحدة، ويجمعنا أن منطقتنا هي منطلق الأديان السماوية الثلاثة، وأن غالبيتنا تعتنق الإسلام ديناً، وتجد فيه مصدراً رئيسياً للتشريع والثقافة، وأحد عناصر المقاومة الرئيسية في وجه محاولات التغريب. وكانت هذه العناصر، مجتمعة أو فرادى قد أسهمت في تجييش العواطف، وخلقت حالات من النهوض والغليان أثناء الأزمات والهزات العنيفة التي تعرضت لها الأمة، مجسدة عمق ومستوى العلاقة ومعنى التلاحم بين الجسد الواحد.
كانت الأمة، ولا تزال تنتخي عند كل نازلة لتشد عضد المصاب. وكانت الشعوب تتظاهر في معظم العواصم والمدن العربية الرئيسية، عند كل حدث مزلزل تتعرض له مراكز إشعاعها. حدث ذلك قبيل الحرب العالمية الأولى، وأثناء معارك التحرر الوطني، بين الحربين. وحدث ذلك أيضاً أثناء نكبة فلسطين عام 1948 وأثناء العدوان الثلاثي الغاشم عام 1956 وفي نكسة يونيو/ حزيران عام 1967 وأثناء الغزو “الإسرائيلي” لبيروت في صيف 1982 وأثناء احتلال العراق عام 2003 وخلال حرب تموز على لبنان عام 2006 وأثناء حرب الإبادة على قطاع غزة عام 2009 وفي مناسبات كثيرة أخرى يصعب حصرها. لكن هذه المشاعر الجياشة لم ترق حتى اللحظة، إلى فعل يتخطى الموقف التضامني، وينتقل بالمشروع القومي من موقع الحلم إلى فعل الإرادة.
الطريحة التي يمكن أن نخلص إليها، من هذه المقدمة، أن العلاقة الرومانسية، ووجود روابط وجدانية، بين أفراد الأمة، ومن ضمنها كل عناصر ومقومات نشوء الدولة القومية، لا تحتم قيام هذه الدولة، ولا تسهم في التسليم بيقينياتها. والدليل الواضح على ذلك، هو أن الدول القومية الأوروبية، لم تكن بحاجة إلى كل هذه العناصر، لكي تستكمل وحدتها. لقد كان المحرض على الوحدة الأوروبية شيئاً آخر تماماً، مختلف عن هذه المسلّمات والبديهيات، خلاصته بزوغ قوى اجتماعية جديدة، وجدت من مصلحتها كسر الحواجز الجمركية والانطلاق إلى اقتصادات الأبعاد الكبيرة. وتمكنت من كنس كل المعوقات التي وقفت في طريقها. ولم يعد هناك مفر سوى تجاوز البنى القديمة، عشائرية وقبلية ونظام إقطاعي، وقيام دول حديثة على أسس تعاقدية، تم فيها الفصل بشكل واضح بين ما للكنيسة وما لقيصر.
سبل تجاوز حالة الانسداد:
هناك مقدمات لازمة لتجاوز حالة الانسداد، ليس تجاوزا القول بأن أهمها هو وحدة القوى القومية والتقدمية، وبشكل خاص: التيارين البعثي والناصري. وقوى اليسار الأخرى، المناهضة للاحتلال. فقد استنزفت هذه القوى طاقاتها الفكرية والنضالية في صراعها مع بعضها، مما أدى إلى انحسار الجماهير عنها، ومكن أعداد الوحدة من اقتناص حالة الصراع هذه، لطعن المشروع القومي، وتعطيل حركته. وقد آن الأوان لكافة القوى القومية والتقدمية، للقيام بمراجعة نقدية لمواقفها السابقة من بعضها البعض، وإعادة قراءة مشاريع النهضة، بما يتسق مع التحولات الكونية، في مجالات السياسة والاقتصاد والعلوم والمعرفة، وأن يعاد للفكر القومي اعتباره، ليس باستنساخه، وإنما بتجديده.
لا بد من تحقيق اختراقات فكرية، وإعادة تركيب وترتيب المفاهيم، وتجاوز مغاليق العمل القومي، قبل الولوج في صياغة برنامج وحدوي عملي. وفي هذا السياق يبدو أن لا مناص من سياق بعض الملاحظات حول المشروع المنشود للنهضة:
ينبغي التمييز بشكل حاسم بين الاتحاد والاندماج، وبين التكامل والتماثل. فقد استغرق الفكر القومي “الأرثوذكسي” طويلا في الحديث عن الوحدة الاندماجية. وقد أثبت التطور التاريخي، صعوبة تحقيق ذلك، وعدم فاعليته. إن قراءة تجارب التاريخ المعاصر، تؤكد أن الأنظمة اللامركزية هي الأكثر قدرة على الفعل والاستمرار. نحن بحاجة ماسة إلى تحقيق الوحدة، بوسائل وأدوات سياقات تسمح بقيامها، ضمن منظور زمني وسياقات عملية.
لقد ركز الفكر القومي التقدمي فيما مضى على المضمون الاجتماعي للوحدة، باعتبارها إعادة تشكيل سياسي واجتماعي لخريطة الوطن العربي. بمعنى أنها سبيل لنقل المجتمع العربي إلى مجتمع مدني صناعي. وأكد على إن ذلك سيحدث فقط في صيغة تحول دراماتيكي حاسم، ولن يتم عبر تطورات تدرجية. إن شرط تحققه، هو وثبات نوعية يصاحبها في الغالب غليان ونهوض، تندفع في صخبه الغالبية من الجمهور المحروم.
الوحدة ضمن هذا المنطق، لن تتم من خلال بُنيات فوقية، حالها في ذلك حال التغيرات الاجتماعية الكبرى في التاريخ الإنساني، التي هي في أهم مقولاتها تعبير عن مصالح فئات اجتماعية. في هذا السياق، يستدل الدعاة للحلول الجذرية بتجارب فرنسا وانجلترا وروسيا والصين. وقد استمرت هذه الرؤية، سائدة في الفكر العربي، خلال حقبة نهوضه، في الخمسينيات والستينيات. ولا تزال هذه الرؤية سائدة في أدبيات الفكر الثوري العربي، حتى يومنا هذا.
هذه الرؤية بحاجة إلى تقييم وقراءة جديدة. فليس للتاريخ أن يعاود خطاه بشكل ميكانيكي، دونما مراجعات نقدية لمرحلة النضال القومي، في حقبة نهوضه. مراجعات، تنطلق من التسليم بالنسبي في قراءة التاريخ، وأيضا من كون التاريخ صيرورة وحركة في آن معا.
صيرورة، بمعنى الخلق والإبداع، وحركة تتفاعل فيها آليتا التفسير والفعل، وتشملهما معا. وذلك هو شأن كل تقييم إيجابي لتجربة إنسانية فوارة. وفي عملية الخلق هذه، ينبغي إعادة النظر بشكل إيجابي، بالدولة القطرية، بدلا من وضعها في خط معاد للأمة، كما كان الحال في أدبيات الخمسينيات والستينيات، ومعظم الأدبيات الجنينية التي بشرت بالفكر القومي. لا بد من اعتبار الدولة القطرية، نقطة انطلاق نبني عليها، ولا نتجاوزها لتعزيز العمل الوحدوي القومي. ننطلق منها إلى صيغ فيدرالية أو كونفدرالية، تحقق الهدف الأسمى من فكرة الوحدة، خدمة مصالح الناس، ولحاق هذا الجزء من العالم، بقاطرة النمو والنهوض، وليس صيغة الاندماج الكامل، المنفعلة، التي كانت عنوانا لمرحلة الصعود في الفكر القومي.
و”ما ينفع الناس” ينقلنا مباشرة، إلى النقطة الرئيسية الثانية، وهي المدخل الاقتصادي للوحدة. فهذا المدخل، يتعامل مع مشروع الوحدة، ليس بنظرة توق لتحقيق ماض سلف، ولكن باعتباره ضرورة حضارية وتاريخية، للنهوض بهذا الجزء من العالم. وهو يجرد الدعوة الوحدوية من الأهواء العاطفية المحضة، ويضفي عليها طابعاً علمياً. فالاقتصاد، من بين العلوم الاجتماعية، هو الأكثر دقة، ويستطيع أن يتوصل إلى استنتاجات من خلال بناء نماذج وتحليل فكري متقن. وبالتالي، فإن بإمكانه المساعدة على التبشير بأهمية تحقيق الوحدة العربية، بصيغ تتماهى مع روح العصر، وتنقل مشروعها من الاندماج إلى اللامركزية. ومن التماثل إلى التكامل. ومن خلال عملية التكامل الاقتصادي، يصبح الإيمان بالوحدة، ليس مجرد توق معنوي إلى تاريخ وثقافة وتواصل، بل ضرورة حضارية للعرب إذا ما رغبوا في أن يأخذوا مكانهم في مسيرة الإنسانية الصاعدة إلى الأمام. وتصبح الوحدة في هذا السياق، سبيلاً لتحقيق قدر أعلى من التطور والكفاءة الإنتاجية، والنهوض بالمجتمع العربي في كافة المجالات، وعلى جميع الصعد، وتجاوز التشرنق في الهويات السحيقة والمعوقة.. وذلك هو جوهر الوحدة.
ولأن التاريخ صيرورة وحركة، إرادة وفعل، لم تعد سياقات الثورات الاجتماعية الكبرى، وحدها تصلح دليلا للعمل القومي، ولا بوصلة لتوجيه الفعل النضالي من أجل الوحدة. وأمامنا فسحة لإعادة ترتيب المفاهيم، بما يتسق مع النظرة البراغماتية، وبعيدا عن الدوغما وعصبياتها.
لقد اتسم الموقف من الدولة القطرية بالعداء والسلبية. ورغم ضعف كياناتها وفشلها في أداء وظائفها التنموية والاجتماعية، فإنها بقيت ماثلة أمامنا، لم تتزحزح، وبقي الحلم الوحدوي مؤجلاً حتى إشعار آخر. مكمن الخلل هنا، أن الفكر القومي قد تخلى عن وظيفة رئيسية من وظائفه التوحيدية، حين غيب مهماته في تحقيق الاندماج الوطني، بين مختلف مكونات النسيج الاجتماعي القطري، ولم يسهم، مع غيره من المكونات السياسية المدنية، ببرنامج عملي في محاربة التوجهات الطائفية والعشائرية والفئوية في البلد الواحد.
والنتيجة الموضوعية لذلك هي أن الموقف السلبي من الدولة القطرية أصبح إسهاماً في إضعاف التوجه القومي بدلاً من تقويته. بل إن الوضع العربي، بعد وصول المحافظين الجدد إلى سدة الحكم بالولايات المتحدة أصبح مهدداً بمزيد من التشظي، وأصبحت الدولة القطرية ذاتها، مستهدفة في وجودها، بما يضاعف من صعوبة عملية انتقال مشروع الوحدة من إرادة كامنة، إلى واقع متحقق.
إن ذلك يقتضي في أبسط أبجدياته، الانطلاق من الدولة القطرية، كواقع وطني، يبنى عليه، ومن خلاله بالمزيد من التضامن، والمزيد من المشاريع الوحدوية، التي لا تنتقص من الهوية الوطنية، ولكن تضيف إليها. وصولاً إلى تحقيق إجماع عربي على “ما ينفع الناس”.
وفي هذا المضمار، لسنا، على سبيل المثال، بحاجة إلى كبير عناء لتعريف من هو القومي، أو من هو العربي.
فمن ينوء كاهله بالتجزئة… من يطالب بانتقال رؤوس الأموال العربية… من يطالب بفتح سوق العمل للعمالة العربية… من يطالب بإلغاء تأشيرات السفر بين العرب… من ينادي بعملة عربية موحدة… من يطالب بجواز سفر عربي موحد، من يطالب بإقامة سكة حديد تربط الأقطار العربية، من يؤمن بهذه الأهداف فرادى أو مجتمعة هو قومي، دون الدخول في متاهات أيديولوجية أو شعارات معقدة. والعربي، هو من يعيش على الأرض الممتدة، من الخليج العربي إلى المحيط الأطلسي، ويؤمن بحق أهلها في تقرير مصائرهم وأقدارهم، والنهوض ببلدانهم، وسيادة مفهوم المواطنة المستند على الندية والمساواة والتكافؤ. ذلك بالتأكيد، يقتضي مراجعة واعية أعمق، لعناصر القومية، لغة وتاريخا وأرضا مشتركة… وإعادة صياغتها بحيث تزج بمختلف الطاقات في عملية التنمية والبناء.
وإذا كان علينا أن نستلهم عبرا ومحفزات من التاريخ، فليس صحيحا، أن الثورات الاجتماعية الكبرى، في فرنسا وبريطانيا وروسيا والصين، على أهميتها هي كل ما لدينا. وإذا ما انطلقنا من رؤية برجماتية، فإن دليل الصواب والخطأ، يكمن في تقييم التجارب والبرامج السابقة واللاحقة، نجاحا أو فشلا. وقراءتها بوعي يضعها في سياقاتها التاريخية الصحيحة، وليس في سياق من خارجها.
فالتحولات الاجتماعية الكبرى، التي أشرنا إليها، أخذت مكانها ضمن سياقات وظروف تاريخية مختلفة، وتبنيها من قبلنا سيكون بمثابة وضع العربة أمام الحصان. بمعنى طرح شعار دون إمكانية تحقق ظروف تاريخية تسمح به. وأهم معوقات ذلك، هو هشاشة التشكيلات الاجتماعية، في منطقتنا، وحالة الانسداد التاريخي، التي فرضتها تلك الهشاشة.
لا مندوحة إذا، من اجتراح وسائل أخرى، بإعمال العقل والفعل. لا بد من عمل خلاق ومبدع، يستند على الفعل الإرادي الإنساني، ويقسر الظروف التاريخية، ليس من خلال تجاوزها، لأن ذلك بحكم المستحيل، ولكن بالتغلب على عناصر الردة، ومعوقات النهوض. ونجد نفسنا هنا مجبرين، أن نركز على عنصري الثقافة والوعي، مسلمين بأن الفكر، حسب المنطق الهيجلي، قوة تاريخية، كما هو الفعل أيضا قوة تاريخية.
نتعلم من الثقافة والوعي، أن التحولات نحو الديمقراطية، التي شهدتها أوروبا الشرقية، وانتقلت بموجبها من أنظمتها السابقة إلى أنظمة ديمقراطية، بالتطبيق الغربي، وهي تحولات اجتماعية كبرى، بقياسات التاريخ، قد تمت دون معارك اجتماعية، وحدثت في الغالب بشكل سلمي، بما في ذلك سقوط جدار برلين.
بل إن السقوط الدرامي للاتحاد السوفييتي، قد تم هو الآخر، بشكل سلمي. ولن يكون مجديا القول بأن الأزمة الاقتصادية التي واجهها هي وحدها التي أدت إلى سقوطه. فهناك بلدان كثيرة تعيش أزمات اقتصادية حادة، وتحكم بقبضة استبداد حديدي، ولم يحدث فيها انتقال رئيسي نحو الديمقراطية. إنها جملة من العناصر المركبة والمعقدة، من ضمنها شيخوخة النظام الشيوعي، وتصاعد النزعات القومية، والصراع بين أجهزة النظام البيروقراطية، مضافا إليها الأزمة الاقتصادية الحادة، وأيضا تدخلات القوى الدولية في الشؤون الداخلية للاتحاد السوفييتي، هي التي أدت جميعا إلى تفككه، ونهايته. كان العقل، جاهزا ومتحفزا لدى شعوب أوروبا الشرقية، وجمهوريات الاتحاد السوفييتي، ولذلك حدث انتقال سلمي سلس في الهرم الفوقي، وتغيرت النظم السياسية في تلك البلدان.
أمامنا تجربة أخرى، رائدة، ينبغي أن يستفيد منها التوجه القومي العربي، هي تجربة الإتحاد الأوروبي، وقد مرت بمسار طويل، ومخاض عنيف، لكنها أخذت مكانها في النهاية بجدارة واستحقاق. وكان ما ينفع الناس، هو قاطرة حركتها، منذ بدأت بعد نهاية الحرب العالمية الثانية مباشرة، حتى إعلان تأسيس الإتحاد، بوضعه الحالي. وهي تجربة ثرية تستحق أن نقف عندها وأن نقرأها بوعي، ضمن عمل دءوب ومثابر، لإعادة الاعتبار لمشاريع النهضة العربية.
عانى الفكر القومي أيضا، مما يمكن أن نطلق عليه مجازا بـ “معضلة المتقابلات” تغليب أحد عوامل النهوض، على ما عداه، ووضعه في حالة تقابل، تصل حد العداء مع عناصر النهضة الأخرى. فأثناء الصراع مع الاستعمار طرحنا بقوة شعار الحرية والاستقلال. وغُيب في الكفاح القومي التطرق إلى مشاريع أخرى، كالتنوير والحداثة والعدل الاجتماعي. وكان شعار الحرية والاستقلال رهنا لطبيعة اللحظة التاريخية، لحظة المواجهة الملحمية مع الاستعمار التقليدي.
انتهت الحرب الكونية الأولى، باستهداف شعاري الاستقلال والحرية. وهزت نتائج الحرب، الوجدان العربي. وكان المؤمل أن تُنقيه من أدران الجمود والتكلس، وتفتح الأبواب مشرعة أمام مشاريع نهضوية جديدة. لكن طبيعة الصراع، لم تترك فسحة للمراجعة. توالت مشاريع الهجرة اليهودية إلى فلسطين، وتقسيم المشرق العربي، بمسطرة وإرادات من خارج المكان. وحدثت النكبة، في ظل توجس وغفلة، ما كان لهما أن يكونا غير ذلك.
لكن الأزمة الضميرية، والمناخات الدولية الجديدة، التي أعقبت الحرب الكونية الثانية، ووجود نظامين عالميين، أحدهما رأسمالي والآخر اشتراكي، نقلا موقع التقابل في الصراع من أجل تحقيق الذات، أو وعيها، من الحرية والاستقلال إلى العدل الاجتماعي. أصبح شعار الحرية مسكونا بهواجس الانتماء إلى المشروع الامبريالي، وتصدر عنوان العدل كل العناوين الأخرى. ومن جديد أصبح الصراع داخل مشروع النهضة، وبين عناصرها، وليس بين المشروع وبين عناصر التوتر المستهدفة لوجوده.
وهكذا، قام النظام العربي الرسمي، بعد الحرب العالمية الثانية، على قاعدة الصراع بين المتقابلات، التي تمثل عناصر لازمة للنهضة، بدلا من التفاعل الخلاق بينها. وكان الصراع في الخمسينيات والستينيات، داخل المجتمع العربي، وحتى ضمن بعض القيادات العربية الرسمية، هو صراع بين عناوين النهضة: بين الحرية وبين العدل.
فشل المشروعان، وكانت معضلة المتقابلات من أسباب الفشل. وكان طبيعيا، وبديهيا، أيضا، رغم أن الاكتشاف هذا، من قبل النخب العربية جاء متأخرا للأسف – أن يحدث الفشل، وأن تكون نكسة الخامس من يونيو عام 1967م، أحد تجلياته.
لماذا حدث ذلك؟ وما السبيل لتجاوز هذه المعضلة؟.
الواقع أن انقسام العالم إلى معسكرين، قد ترك بصماته واضحة على مجرى الحراك السياسي والاجتماعي في البلدان العربية. ولأننا لم نكن صناع أفكار أو مشاريع، فقد مثل تلقينا للمشاريع الوافدة من الغرب والشرق على السواء، صدى واهنا وعاجزا عن الارتقاء إلى مستوى اللحظة، وصياغة مشروع، يستوعب المحركات الذاتية، وينطلق من تربة الوطن الكبير. لم يكن المشروع نتاج سيرورة تاريخية، بل كان نقلا مشوها وزائفا، غيبت فيه مهام التوطين، وكان التغييب وجها آخر، للعجز عن المبادرة والإبداع، وتعبيرا عن ضحالة الفكر، وهشاشة الهياكل الثقافية والفكرية والاجتماعية السائدة.
انتهت حقبة من التاريخ، بسقوط الاتحاد السوفييتي، وهيمنة اليانكي الأمريكي على العرش الأممي. وكان دورنا من جديد هامشيا وعاجزا. فقد انسقنا دون وعي لمهرجان “نهاية التاريخ”، وبلوغ المجتمع الإنساني، مرحلة “النظام العقلاني” على الطريقة الفيبرية. وعاد الحديث مجددا عن الليبرالية والنظام الغربي، والديمقراطية باعتبارها مثلاً وقيماً جديدة، رغم أنها سادت في الغرب لما يقرب من قرنين ونصف، أعقبت اندلاع الثورة الفرنسية، وكأننا نكتشف روما من جديد، مع أن رواحلنا لما تزل، منهكة وعطشى، وعاجزة عن الإمساك بناصية مقاديرها.
ولأن أريحية اليانكي وأبناء عمومته، لم تقبل لنا العجز، فقد سارعت لمواجهة أنظمة القمع والاستبداد، في هذا الجزء من العالم. وكان فرن التجربة، هو أرض السواد. وثمن العراق الجديد، هو ما يقرب من نصف مليون طفل، ماتوا تحت وطأة الحصار، وقيام نظام ديمقراطي، يفتت العراق، على أسس هويات اندثرت منذ عهود سحيقة، واقتضى مخاض الولادة الجديد، وفوضاه الخلاقة، إعادة بعث تلك الهويات، وتشريد أربعة ملايين عراقي إلى الخارج، وإعادة تشكيل عاصمة الرشيد، على أساس القسمة الطائفية والإثنية. مكمن الداء هو في وضع عناصر النهضة، في مواجهة بعضها. ووضع المواطن بين خيارين مرين، أحدهما يصادر حرية المواطن، والآخر يصادر الوطن والمواطن جميعا، ويوصل بنا إلى الفتنة والتناحر وتفتيت المفتت. والمخرج لن يكون إلا بإعادة الاعتبار، لعنصري النهضة والتقدم، الحرية والمساواة. وكلاهما يتطلب نبذا لسياسة الإقصاء، وقضاء على الفساد، وحقا في تكافؤ الفرص، وإسهام الأمة في صناعة قراراتها، ضمن علاقات تعاقدية، تؤكد على تجاوز التفرد والاستبداد، وتسلم بتداول السلطة، وتغليب لغة القانون والاحتكام إلى الدستور. وتلك مخارج رئيسية لتجاوز “معضلة المتقابلات”، وتفاعل عناصر النهضة جميعا لخلق الغد الأفضل.
خاتمة:
يبقى أن نؤكد على أهمية المراجعة النقدية والشاملة، لمشاريع النهضة العربية، ومعالجة القضايا الملحة التي تواجهها الأمة في اللحظة الراهنة. في المقدمة من هذه القضايا، القضية الفلسطينية، وضرورة تقديم رؤية حضارية جديدة للصراع مع الصهاينة، تتجاوز الفهم التقليدي للصراع، وتتمكن من خلاله من تجاوز النظرة العدمية لهذا الصراع من جهة، وحالة العجز والتفريط بالحقوق والخضوع للمشروع الاستيطاني الصهيوني من جهة أخرى. ومن المؤكد أن القوميين، أحزابا وقيادات ومؤسسات هم الأكثر قدرة على فهم طبيعة الصراع، وحضور فلسطين التاريخي في الوجدان العربي، وخلق استراتيجية كفاحية عملية لتحرير فلسطين.
وهناك أيضا قضايا التنمية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، ومواضيع الحرية والسيادة والاستقلال، وقضايا الأقليات القومية التي تصبو لتثبيت هويتها، ونتائج ارتباط الوطن العربي بالعولمة، بما في ذلك العلاقة بمنظمة التجارة الدولية، والثورة الهائلة في مجال الاتصالات والبيولوجيا. ونقطة الانطلاق في كل ذلك هي وحدة القوى القومية، ممثلة بالأحزاب والمنظمات السياسية المؤمنة بالعروبة كقدر لا مفر منه.
إن قوى عتية تحاول جاهدة العبث بالذاكرة القومية، من خلال العبث بحقائق الجغرافيا والتاريخ والأحلام والثوابت. وكل مواجهة لا تستند إلى ذاكرة، ستكون مشوهة وزائفة. يكفيها زيفا أنها لا تعرف من أين وإلى أين تسير. ونقطة البداية على صعيد الفكر هي المعالجة النقدية الشجاعة، وهي معالجة في غاية الأهمية إذا أريد لهذه الأمة أن تحافظ على وعيها وعلى ذاكرتها، وأن تواصل مسيرتها بجدارة.