الآيديولوجيا والمشهد السياسي العربي
الآيديولوجيا، في الأصل مفهوم وافد على اللغة العربية. وهي في أصلها فرنسية، وتعني علم الأقكار. لكنها لم تواصل احتفاظها بهذا المعنى. ذلك أن الألمان استعاروا الكلمة، وضمنوها معنى أخر، ربط المفهوم باليوتوبيا.
وحسب ريكور، هناك دائما مزاوجة بين المفهومين، رغم أن الآيديولوجيا، تنتمي إلى علم الاجتماع والسياسة، بينما تنتمي اليوتوبيا إلى التاريخ والأدب. لكن ريكور وضع مقاربة أخرى للمفهومين، ربط بها الآيديولوجيا مع الواقع والعلم، بينما نظر إلى اليوتوبيا باعتبارها حلما أو خيالا دالا على رغبة.
في التراث السياسي العربي، تشير الآيديولوجيا، إلى منظومة فكرية أو عقيدة، أو ذهنية. وقد استخدمت في السنوات الأخيرة، وبشكل خاص بعد سقوط الحرب الباردة باعتبارها دوغما. أنها التعصب لفكرة ما، ورفض ما سواها من الأفكار. وأحيانا توصف الآيديولوجيا بالتعصب العقائدي، وهي بهذا المعنى رديفة للتحيز.
لكن الأمر لم يكن كذلك، أثناء حقبة انتعاش الحركات القومية واليسارية، حيث كان مريدو تلك الحركات، يفاخرون بانتماءاتهم، ويدافعون عنها، ويرون أنها مرشدة لتحقيق التطور والتقدم في مجتمعاتهم. إلا أن ذلك لم يكن دائما موضع إجماع، فقد كان هناك أناس مناصرون للآيديولوجيا، باعتبارها نظرة شاملة للكون وموقف من الأشياء، وبين معارضين، يرونها معوقا للانطلاق نحو عالم وفكر أرحب. وفي هذا السياق، يرى الدكتور نديم البيطار، أن هناك بنية أساسية واحدة، تعيد ذاتها في جميع الآيديولوجيات التاريخية المتكاملة الجوانب، سواء كانت دينية أو علمانية.
إذا سلمنا بنظرية الدورة التاريخية، فإننا نجيز لأنفسنا تطبيق هذه الدورة على الأفكار. فتاريخيا، هناك صراع فكري مستمر، بين رؤيتين: رؤية منفتحة وأخرى منغلقة. وقد كان ذلك هو الواقع مع المذاهب السياسية الوضعية، كما هو أيضا مع العقائد والمذاهب الدينية. والأفكار هي في النهاية استجابة وتعبير عن واقع موضوعي، ترتقي في لحظات النهوض، وتتراجع في لحظات الضعف.
هكذا كان التاريخ دائما، منذ القدم. فالإبداع والمبادرة رديفان للتقدم والنهوض، والتخلف وغياب المبادرة رديفان للجهل والخرافة. وقد شهد سقوط الحضارة اليونانية، بروز الفلسفة الإبيقورية والرواقية واللا أدرية، التي لم تكن تعني سوى التشجيع على القبول بالهزيمة. كان ذلك نقيض فلسفة سقراط وأرسطو وأفلاطون، الفلسفات التي برزت وانتعشت أثناء توهج حضارة الإغريق.
في التاريخ العربي المعاصر، نشأت الآيديولوجيات السياسية، كانعكاس لأفكار تلاقحت مع الفكر الإنساني العالمي، وتماهت مع شعاراته. فقد تأثرت حركة اليقظة العربية، بشعارات الحرية والاستقلال، وطمحت في الخلاص من السيطرة العثمانية، مؤسسة لهوية عربية معاصرة، تتسق مع الأفكار الحديثة التي ارتبطت بالتحولات السياسية الكبرى، في القارة الأوروبية. وحين طعنت النخب العربية في حلمها بتشكيل دولة عربية مشرقية، بدت الأبواب مفتوحة لتيار الإسلام السياسي، لتحل محل النخب الذي قادت حركة اليقظة العربية. تعبيرا عن خيبات مشروع اليقظة وفشل محاولات الانعتاق عن السيطرة الأجنبية، والعجز عن بناء دولة عربية عصرية.
لقد مرت الأيديولوجيا ببعديها القومي والوطني، من جهة والإسلام السياسي المعاصر، من جهة أخرى، بحالات تبادل تاريخي، أفضى بأن يكون الصعود الأيديولوجي لأحدهما مدعاة لتراجع الايديولوجية الأخرى.
بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، ساد نظام الثنائية القطبية، وكانت فترة ترصين للعلاقات بين الدول. وأعقبها الهيمنة الأحادية، التي اتسمت بالغطرسة وامتهان سيادة الدول، وقد كان من أحد نتائجها الانفلات والفوضى التي تعم منطقتنا الآن.
وفي ظل تعاظم الصراع بين القوى الدولية، في هذه اللحظة، وبشكل خاص بعد انطلاق العملية الروسية الخاصة بأوكرانيا، لا يبدو أننا أمام تسويات تاريخية سريعة. فالتسويات الكبرى، تتطلب حروبا في حجم تلك التسويات بين القوى الكبرى. والقوى المرشحة دوليا لملأ الفراغ كثيرة. هناك روسيا والصين والهند، وفي القارة الأوروبية ألمانيا. وهناك من يطالب بإعادة تركيب هيكلية مجلس الأمن الدولي، على ضوء حقائق القوة الجديدة.
من غير المتوقع أن يتوصل الكبار، في وقت قريب إلى توافقات وتسويات. وحين يستمر الفراغ، تستمر الفوضى، وتواصل طحالب التطرف بدغمائها المغرقة في التعصب، ونشر الكراهية، لعب دورها التخريبي إلى أن تتغير موازين القوى الدولية، بما يجبر الكبار، للجلوس على طاولة المفاوضات، والاحتكام مجددا للقانون الدولي، المستند على احترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، وتحريم الاحتكام للسلاح في حل المنازعات الدولية. وحينها فقط لا تعود الآيديولوجيا دوغما ومخزنا للحقد والكراهية، بل رؤية محددة للكون، وموقف من الأشياء تمد بقواعد من السلوك.
د. يوسف مكي
التعليقات مغلقة.