الآيديولوجيا والتحولات الكونية
ابتداء نشير إلى أن كلمة الآيديولوجيا، في أصولها غريبة على اللغة العربية. وهي بذلك كلمة وافدة. وهي في أصلها فرنسية. وحسب بول ريكور تنتمي الأيديولوجيا إلى الواقع والعلم، وهي على نقيض اليوتوبيا باعتبارها حلما أو خيالا دالا على رغبة.
في التراث السياسي العربي، تشير الآيديولوجيا، إلى منظومة فكرية أو عقيدة، أو ذهنية. وقد استخدمت في السنوات الأخيرة، وبشكل خاص بعد سقوط الحرب الباردة باعتبارها دوغما. أنها التعصب لكفرة ما، ورفض ما سواها من الأفكار. وأحيان توصف بالتعصب العقائدي، وهي بهذا المعنى رديفة للتحيز.
لكن الأمر لم يكن كذلك، أثناء حقبة انتعاش الحركات القومية واليسارية، حيث كان مريدو تلك الحركات، يفاخرون بانتماءاتهم، ويدافعون عنها، ويرون أنها وسيلة تحقيق التطور والتقدم في مجتمعاتهم. إلا أن ذلك لم يكن دائما موضع إجماع، فقد كان هناك أناس مناصرون ومعارضون.
وفي سياق تعريف المفهوم أيضا، يرى الدكتور نديم البيطار، أن هناك بنية أساسية واحدة، تعيد ذاتها في جميع الآيديولوجيات التاريخية المتكاملة الجوانب، سواء كانت دينية أو علمانية، تعيد ذاتها في فكرة المجتمع الجديد التي قالت بها المذاهب السياسية والآيديولوجيات الجديدة. عربيا أعادت إنتاج ذاتها فيما يعرف بالإسلام السياسي.
وإذا سلمنا بنظرية الدورة التاريخية، فإننا نجيز لأنفسنا تطبيق هذه النظرية على الأفكار. فتاريخيا، هناك صراع فكري مستمر، بين رؤيتين: منفتحة وأخرى منغلقة. وقد كان ذلك هو الواقع مع المذاهب السياسية الوضعية، كما هو أيضا مع العقائد والمذاهب الدينية. والأفكار هي في النهاية استجابة وتعبير عن واقع موضوعي، ترتقي في لحظات النهوض، وتتراجع في لحظات الضعف.
في التاريخ العربي المعاصر، نشأت الآيديولوجيات السياسية، كانعكاس لأفكار تلاقحت مع الفكر الإنساني العالمي، وتماهت مع شعاراته.
فقد تأثرت حركة اليقظة العربية، بشعارات الحرية والاستقلال، وطمحت في الخلاص من السيطرة العثمانية، مؤسسة لهوية عربية معاصرة، تتسق مع الأفكار الحديثة التي ارتبطت بالتحولات السياسية الكبرى، في القارة الأوروبية. وحين طعنت النخب العربية في حلمها بتشكيل دولة عربية مشرقية، بعد وضع اتفاقية سايكس- بيكو 1916 قيد التنفيذ، وبداية الهجرة اليهودية إلى فلسطين، تنفيذا لوعد بلفور، 1917، بدت الأبواب مفتوحة لتيار الإسلام السياسي، لتحل محل النخب الذي قادت حركة اليقظة العربية. فكان تأسيس حركة الإخوان المسلمين، بمدينة الإسماعيلية، بعد عقد واحد من وعد بلفور، على يد الشيخ حسن البنا، تعبيرا عن خيبات مشروع اليقظة وفشل محاولات الانعتاق عن السيطرة الأجنبية، والعجز عن بناء دولة عربية عصرية.
بعد الحرب العالمية الثانية، بدأت الانقلابات العسكرية، في عدد من البلدان العربية، احتجاجا على واقع مأزوم، وكردة فعل على نكبة فلسطين. ونتج عن الانقلابات العسكرية المتتالية في الوطن العربي، تجريف للحركة السياسية، واقتصر العمل السياسي على الأحزاب الحاكمة. وفي مثل هذه الظروف، كانت الجهة الأقدر، خارج السلطة على احتكار العمل السياسي، هي مجموعات الإسلام السياسي، التي استغلت مفهوم الدعوة، لتوسع من دائرة حركتها، انطلاقا من أرض الكنانة.
وليس من شك، في أن نكسة يونيو 1967، قد أسهمت في انهيار الفكرة العربية، التي بدأت حركة اليقظة العربية التبشير بها، منذ النصف الثاني للقرن التاسع عشر الميلادي. وتواصلت بين الحربين، واستمرت في خط بياني متصاعد، حتى النكسة.
وليس من شك في أن ضعف التشكيلات الاجتماعية العربية، والفشل في مواجهة المشروع الصهيوني، قد هيئا لبروز جديد لظاهرة الإسلام السياسي، التي جرى قمعها في الأربعينيات والخمسينيات من القرن المنصرم. فكان عقد السبعينيات مرحلة بروز واسع لحركات الإسلام السياسي، متلفعة بشعار الصحوة، وﺑ”الجهاد”، هذه المرة، وناقلة فكرتها بشكل صريح من الدعوة بالتي هي أحسن، إلى عسكرة صفوفها، وفرض أفكارها، بالقسر وقوة السلاح.
هذه الحلقة الجديدة، في سلسلة الدورة التاريخية استمرت طويلا، في التاريخ العربي، في خط صاعد منذ بداية السبعينيات حتى يومنا هذا. ماذا أخذت دورة الإسلام السياسي، حقبة أطول بكثير مما توقع لها الكثير، مع كل الضربات التي وجهت لها، منذ السبعينيات من القرن الماضي؟!
تفسير ذلك يكمن في قراءة التاريخ المعاصر، للمنطقة العربية وجوارها الإقليمي. ففي نهاية السبعينيات من القرن الماضي، حدثت الثورة الإيرانية، منطلقة من آيديولوجيا دينية. ومع بداية حقبة الثمانينات نزلت القوات الروسية بالعاصمة الأفغانية كابول. وكان من نتائج ذلك بروز مقاومة أفغانية، رفعت شعار الجهاد، وبدت موئلا للجماعات الإسلامية من كل مكان، وحظيت في حينه بدعم عربي ودولي، واعتبر أفرادها مجاهدون أبطالا في وجه الشيوعية، يستقبل قادتهم الرئيس الأمريكي، رونالد ريجان في البيت الأبيض.
وكانت نهاية العقد، قد شهدت سقوط حائط برلين. وكان نصر التحالف بقيادة الولايات المتحدة على العراق، وسقوط الاتحاد السوفييتي إعلانا بانفراط النظام الدولي، الذي دشن بعد الحرب الكونية الثانية، والذي استند على ثنائية قطبية، وبداية مرحلة الأحادية القطبية.
وكانت فترة نشاز في التاريخ البشري، إذ لم يعرف في التاريخ الإنساني المكتوب، أن تفردت قوة واحدة، مهما تكن قوتها العسكرية والسياسية بصناعة القرار الأممي. ولأنها فترة نشار، لم يكن لها أن تستمر طويلا. فكانت حوادث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001م في نيويورك والعاصمة الأمريكية واشنطن، واحتلال أفغانستان والعراق، بداية العد التنازلي، لنهاية الأحادية القطبي. وليواصل التاريخ الإنساني دوراته المتعاقبة.
ما علاقة ذلك بالأيديولوجيا وبالدورة التاريخية، والتحولات الكونية. تلك مسائل هامة ستكون لنا معها وقفة في حديث قادم بإذن الله.
***
yousifmakki@yahoo.com