استقلال كوسوفو آخر الانهيارات في قسمة مالطه
إقليم كوسوفو هو واحد من سبعة أقاليم شكلت مجتمعة، بعد الحرب العالمية الثانية جمهورية يوغوسلافيا الاتحادية بقيادة جوزيف بروز تيتو. وتحده صربيا من الشمال الشرقي، والسنجق والجبل الأسود من الشمال الغربي ومقدونيا من الجنوب الشرقي وألبانيا من الجنوب. عاصمته بريشتينا. ولا يتجاوز عدد سكانه المليونين والثلاثمائة ألف نسمة. وتبلغ مساحته 10,577 كم² ويشكل المسلمون الألبان غالبية سكانه حيث تصل نسبتهم إلى 90% والبقية من الصرب والأقليات القوميات الأخرى. وكوسوفو هو من الأقاليم الداخلية، التي لا تطل على أي ساحل بحري، وهو في غالبيته، عبارة عن سهول خضراء محاطة بالجبال والتلال. ومع ذلك فإنه يعيش أوضاعا اقتصادية مزرية، حيث تتجاوز نسبة البطالة فيه الـ 50%، ويعيش أكثر من 15% من سكانه تحت خط الفقر. ويلقي ذلك بظلال كثيفة وتساؤلات مشروعة حول مدى قدرة هذا الإقليم على النهوض، ومقابلة متطلبات مواطنيه اليومية، فضلا عن قدرته على حماية استقلاله.
الأزمة الحالية، التي يعيشها الإقليم مع صربيا، والتي ربما كان لها الدور في الإعلان عن استقلاله تعود في جذورها إلى أكثر من ستمائة عام، وتحديدا عام 1389م، حين تحول إقليم كوسوفو إلى بوابة دخول لقوات السلطنة العثمانية، ومنه انطلقت إلى الأراضى الصربية، وأخضعتها للاحتلال التركي. وكان ذلك الاحتلال قد أحدث تغييرا رئيسيا في الخارطة الديموغرافية للإقليم، تعزى إليه جملة الأسباب في التطورات والصراعات اللاحقة التي حدثت بالإقليم منذ ذلك التاريخ، وحتى يومنا هذا. فقد هاجر الألبان إلى كوسوفو، بعد الاحتلال العثماني له، وشكلوا غالبية سكانه، وحظوا بمعاملة خاصة من قبل الغزاة الأتراك، أسهمت في تعزيز الصراعات القومية بينهم وبين شركائهم الصربيين.
أتيح للصرب لاحقا، أن يثأروا لأنفسهم، بعد احتدام حروب الاستقلال البلقانية عن السيطرة العثمانية. وكان من نتائح تصفية الوجود العثمانى فى منطقة البلقان عودة أقليم كوسوفو إلى صربيا بعد الانتصار في حروب الاستقلال البلقانية التى سبقت الحرب العالمية الأولى وبالتحديد عام 1912. وقد اعتبر الصرب عودة كوسوفو لهم حدثا تاريخيا مهما، نظرا لرمزية ما يمثله الإقليم في وجدانهم وموروثهم. كونه مهد الأرثوذكسية الصربية، ورمز مقاومتها للاحتلال العثماني. وقد أسهم موقف ألبان كوسوفو، لاحقا، أثناء الحرب العالمية الثانية، واصطفافهم إلى جانب النازيين، في تسعير العداء مع الصرب، حيث تعرض زعماؤهم للتصفية بعد هزيمة النازية، وانتصار الحلفاء، وتطبيق المبادئ والاتفاقيات التي تمخضت عن المؤتمر الذي عقده الرئيس الأمريكي، روزفلت ورئيس الوزراء البريطاني، تشرشل والزعيم الروسي ستالين في مالطة، والذي رسم الخارطة السياسية والنظام الدولي الجديد لحقبة ما بعد الحرب الكونية، الذي انتهى بتدشين الأمم المتحدة، ومنح حق (الفيتو) النقض، للقرارات التي يصدرها مجلس الأمن الدولي، للمنتصرين في الحرب على النازية، واعتبارهم أعضاء دائمين بالمجلس: أمريكا والاتحاد السوفييتي وبريطانيا وفرنسا والصين.
بعيد الحرب العالمية الثانية وتحديدا عام 1946 ضم إقليم كوسوفو إلى يوغوسلافيا الاتحادية، وفي عهد الرئيس جوزيف بروز تيتو ووفق دستور1947 عاشت كوسوفو حكماً ذاتيا ضمن إطار اتحاد الجمهوريات اليوغوسلافية الذي ضم أقاليم صربيا، الجبل الأسود، مقدونيا، كرواتيا، سلوفينيا، والبوسنة والهرسك. لكن إقليم صربيا بقي مرجعية إدارية لكوسوفو حتى عام 1974، حين قررت إدارة الرئيس اليوغسلافي، تيتو توسيع دائرة الحكم الذاتي للإقليم، وربطته مباشرة بالاتحاد اليوغسلافي، مما جعل ألبان الإقليم يشعرون بالتكافؤ مع جمهوريات الاتحاد الست الأخرى.
استمرت أوضاع إقليم كوسوفو على حالها، كجزء من الاتحاد اليوغسلافي، حتى نهاية الثمانينات، من القرن المنصرم، حين تضعضع الدور العالمي للقطب الآخر، في السياسة الدولية، الاتحاد السوفييتي، وبدأت كياناته بالتفكك، وبالتالي تشظت منظومة حلفائه، الكتلة الأوروبية الشرقية، التي تأسست بعد الحرب العالمية الثانية. وكان تضعضع الدولة السوفييتية، وتراجع دورها، ومن ثم تفككها إيذانا ببدأ مرحلة جديدة ينتهي بها النظام الدولي الذي ساد بعد الحرب العالمية الثانية، والذي عبر عن نفسه بقيام معسكرين: رأسمالي بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية، واشتراكي، بزعامة الاتحاد السوفييتي. وكان حلفاء الأمريكان والسوفييت يحظون بحماية مظلتيهما عسكريا وسياسيا. ولأن قيام الدول الأوروبية الشرقية، لم يكن في الغالب حاصل وضع صنعه التاريخ، بل كان بسبب اجتياح القوات السوفييتة لأراضي تلك الدول، وتأسيس أنظمة موالية لها، فقد كان من الطبيعي تداعي تلك الدول وتفككها بمجرد تفكك النظام الراعي لها. وهكذا انهارت كل الأنظمة المحمية من قبل السوفييت في أوروبا الشرقية، وتفككت معها الدول التي تضم تجمعات عرقية متنافرة، والتي صنعتها بعض إفرازات النصر السوفييتي في الحرب الكونية، وفي مقدمتها يوغوسلافيا وتشيكوسلوفاكيا، وعدد من الجمهوريات السوفييتية…
في هذا السياق، يمكن فهم الظروف التي برزت فيها مطالب الانفصال عن الدولة اليوغسلافية الاتحادية التي بدأت تأخذ مكانها منذ عام 1989م، والاحتراب الدموي الذي دار بين إقليم كوسوفو من جهة ، والصرب والجبل الأسود من جهة أخرى. لقد أدت الحروب والنزاعات بين المجموعات العرقية إلى انفصال مقدونيا، كرواتيا، سلوفينيا، والبوسنة والهرسك عن الاتحاد اليوغسلافي، وإعلان أقاليمها دولا مستقلة. إن قراءة ووعي ظروف تشكل النظام العالمي بعد الحرب العالمية الثانية، وسقوط هذا النظام في مطلع التسعينيات هي التي تتيح لنا فهم خارطة الاصطفاف مع أو ضد استقلال كوسوفو الجارية الآن والتي بدأت تعبر عن نفسها بصخب، وربما بعنف في الأيام القادمة، بين مؤيد للاستقلال أو معارض له، والتي حرضت الإدارة الروسية على طلب عقد اجتماع لمجلس الأمن الدولي للتعامل مع التطورات الجديدة، ورفض إعلان الاستقلال.
عاملان رئيسيان يتدخلان في تحديد المواقف من إعلان الاستقلال، هما الموروث التاريخي، والعلاقات الجيوسياسية من جهة، والمحاولة الأمريكية المستعرة لفرض نظام عالمي جديد يتسق مع هستيريا القوة، والموقف الروسي الذي يقوده فلاديمير بوتين، وتتعاطف معه الصين من جهة أخرى. في هذا الاتجاه نلاحظ أن الدعوة لانفصال إقليم كوسوفو قد بدأت إثر سقوط الاتحاد السوفييتي مباشرة. ففي سبتمبر عام 1991م، صوت سكان الإقليم في استفتاء عام على الاستقلال. وفي مايو عام 1992 انتخب ابراهيم روجوفا رئيسا لما دعي بـ جمهورية كوسوفو، لكن هذه “الجمهورية” لم يجر الاعتراف بها دوليا.
لكن عدم الاعتراف الدولي بكوسوفو، لم يحل دون مراهنة ألبان كوسوفو على تدويل قضيتهم، من خلال تدخل أمريكى أوروبي يرعى مفاوضاتهم مع الصرب، وهو ما رفض من قبل الصرب معتبرين أن النزاع بينهم وبين الألبان هو شأن داخلي لاعلاقة للخارج به. وفي هذا الشأن تم الانقسام بين الدول الأوروبية على أساس العلاقات الجيوسياسية، والتاريخية والتداخل العرقي، بين هذه الدول وبين الألبان أو الصرب.
إن ذلك بالدقة هو الذي يوضح لنا أسباب تفهم اليونان وبلغاريا للموقف الصربي المعارض لاستقلال كوسوفو، كما يوضح أسباب تعاطف تركيا وألبانيا مع رغبات ألبان كوسوفو. في حين بدا وكأن الدول الأوروبية الغربية الأخرى تقف على الحياد. لكن تدخل الولايات المتحدة الأمريكية لصالح استقلال كوسوفو، والذي يأتي في سياق تصفية تركة الإمبراطورية السوفييتية قد جر معه معظم الدول الأوروبية.
فتحت ذريعة حماية المدنيين الألبان، لجأت الإدارة الأمريكية منذ اندلاع الصراع الى تهديد صربيا بمواجهة عقوبات جديدة ورد فعل دولي يصل حد استخدام القوة العسكرية ضدها، وجرت معها فرنسا وبريطانيا وبقية الدول الأوروبية الغربية. وكان من الطبيعي أن تتبنى روسيا الاتحادية موقفا مناوئا للسياسة الأمريكية لكونها تعتبرها تعديا واضحا وصارخا ضد مناطق نفوذها الحيوية، وباعتبارها جزءا من امتدادها الجيوسياسي، لكنها لم تستطع أن تفعل شيئا بسبب انشغالها بنتائج انهيار الامبراطورية الروسية وتداعيات اللحظة.
ومع ذلك فإن الروس قد لعبوا دورا دبلوماسيا هادئا وجادا أثمر في اتفاق العواصم الأوروبية، والولايات المتحدة إلى حين، على الاقرار بوحدة الأراضي الصربية أى رفض فكرة انفصال إقليم كوسوفو، والبحث عن صيغة جديدة للعلاقة بين الإقليمين. لكن هذه الدول لم تتوقف في الخفاء عن مواصلة سعيها لتفتيت البقية الباقية في أوروبا من تركة العهد السوفييتي.
إن وعي الإدارة الروسية، بأن ما يجري على الأرض في كوسوفو برعاية أمريكية وأوروبية هو تحقيق تراكم في انهيار القوة الروسية، بالتآكل المستمر لجرفها، في وقت تستعد فيه للانبعاث من جديد، ولعب دورها التاريخي، هو الذي يبرر الموقف الغاضب لإدارة بوتين، ولجوئها مرحليا لمجلس الأمن لإبطال قرار الاستقلال، من جهة، وتقديم كافة أشكال الدعم للحكومة الصربية من جهة أخرى.
استقلال كوسوفو على هذا الأساس، يشكل نقطة مفصلية في الصراع على التركة السوفييتية، وهو في كل الأحوال، آخر الانهيارات في قسمة مالطة التي شكلت خارطة العالم خلال الستين عام المنصرمة… فأما هيمنة أمريكية وأوروبية تندفع إلى الأمام بتحقيق استقلال كوسوفو، أو عودة جديدة، بشكل آخر، وصياغة أخرى للحرب الباردة وهو ما سوف تحدده تداعيات الأحداث في الأيام القليلة القادمة.