ارتباك المشروع الأمريكي في العراق: الهجمة على المالكي نموذجا
كانت جريمة الاحتلال، من نمط مختلف، لم تشهده الاحتلالات الاستعمارية الأخرى، من حيث قوة التخريب والتدمير، وإلحاق الأذى بالشعب المراد إخضاعه، ومصادرة بلده كيانا وتاريخا وهوية، وكانت ردة الفعل قد جاءت منسجمة مع قانون نيوتن الفيزيائي: “لكل فعل ردة فعل مساوية له في المقدار، ومعاكسة له في الاتجاه”.
لم يكن الصمود الأسطوري، طيلة الأربع سنوات المنصرمة، مفاجئا لمن يقرأ تاريخ المقاومات الوطنية، وبالمثل لم يكن سلوك وردة فعل إدارة الاحتلال مفاجأة. هنالك دائما أسباب “وجيهة” من وجهة نظر المحتل، تقف خلف فشله في القضاء على مقاومة السكان المحليين.. والأسباب ذاتها تتكرر، بنفس اللكنة وذات الإيقاع. فشل الفرنسيون في إخضاع شعب الجزائر، فوجهوا أصابع الاتهام لتونس والمغرب ومصر، بأنهم يمنحون المقاومين المأوى ويسهلون عمليات تسللهم إلى الداخل. وفي حرب فيتنام، أقدمت الإدارة الأمريكية على احتلال لاوس وكمبوديا، تحت ذريعة أنهما تؤويان الثوار، وتسهلان تسللهم إلى سايجون. وقد جاء الاحتلال الإسرائيلي لبيروت في صيف عام 1981 تحت ذريعة منع الفلسطينيين من شن الهجمات ضد الكيان الغاصب من جنوب لبنان.
في هذا السياق أيضا، تقوم الإدارة الاستعمارية بتغيير طواقم عملها، من ضباط منتدبين، ومندوبين سامين، وعملاء محليين. وليس هناك بلد محتل، يمكن اعتباره مستثنى من هذا القانون. حدث تغيير حكومات من قبل البريطانيين، تحت ضغط الأزمة في جنوب اليمن، وحدث تغيير لإدارات الاحتلال الفرنسية بالجزائر، وغير الأمريكيون فان ديام في فيتنام، وعينوا فان ثيو مكانه.. وهكذا.
في الحالة العراقية، وجهت اتهامات لمعظم الدول المجاورة، بأنها تسهل عملية انتقال “المخربين” والمقاومين من وإلى الأراضي العراقية. ووجهت اتهامات أيضا للقوى التي جاء بها الاحتلال مردوفة على ظهور دباباته بالفشل في إنجاح العملية السياسية. وكلما تضاعف الفشل، وتصاعدت أزمة الاحتلال، ارتفعت وتيرة الشكوى من فشل القادة المحليين المعينين من إدارة الاحتلال، في أداء المهام التي أنيطت لهم من قبله.
ضمن هذه الرؤية، يمكن فهم ما جرى خلال الأسبوعين المنصرمين، من تصاعد وتيرة المطالبة بإقالة رئيس الوزراء المعين من قبل الأمريكيين، السيد نوري المالكي. الغريب في هذه القضية هو قوة الضجيج الذي أثير من حولها، وقد شارك فيها عدد كبير من صناع القرار والمقربين لهم في الإدارة الأمريكية.
كان في مقدمة الذين هاجموا المالكي الرئيس جورج بوش نفسه، الذي أعرب عن خيبة أمله في أداء حكومة المالكي تاركا للعراقيين أمر تغييره. وكان سفيره ريان كروكر، الذي كان في رحلة داخل العراق برفقة القائد العسكري الأمريكي ديفيد بيتريوس قد قال بما يشبه الاعتراف “إنّ إحباط العراقيين من حكومة المالكي مسألة تلفت الانتباه جدا”. وقال بوجوب “إزالة” رئيس الحكومة من موقعه. إن ذلك، من وجهة نظره، قرار عراقي، لكن على العراقيين أن يتخذوه.
وقد تماهى هذا التصريح، مع تصريح آخر أدلى به رئيس لجنة شؤون القوات المسلحة في مجلس الشيوخ الأمريكي كارل ليفين، الذي زار العراق مؤخرا، حيث طالب بعزل حكومة المالكي، مشيرا إلى أنها لم تتمكن من التوصل لحلول وسط لمشاكل سياسية رئيسية. وأكد ليفين والعضو الجمهوري بمجلس الشيوخ جون وارنر في بيان مشترك أنه إذا فشلت مباحثات المالكي مع القوى السياسية للخروج بنتائج في غضون أسابيع،” فعلى البرلمان العراقي أن يصوت على إقصاء حكومة المالكي ويكون على درجة من الحكمة لتعيين رئيس وزراء وحكومة يتسمان بطابع أقل طائفية وأكثر ميلا نحو المصالحة الوطنية..
وفي نفس الاتجاه، عبرت هيلاري كلينتون -المرشحة للفوز بترشيح الحزب الديموقراطي الأمريكي للانتخابات الرئاسية- عن رغبتها في أن يسحب البرلمان العراقي الثقة من حكومة نوري المالكي. وأكدت السيدة كلينتون أنها لا ترى فرصة قائمة لحل عسكري في العراق، وأشارت إلى أن النجاح لن يظهر إلا بعد حصول مصالحة سياسية وتسوية بين العراقيين أنفسهم.
وتناغمت صحيفة النيويورك تايمز مع هذا الطرح، فأشارت إلى “أن نوري المالكي دعم مختلف الأطراف بالبرلمان”. وأوضحت أن بعض المسؤولين الأمريكيين يرون في المالكي “فاشلا مذعورا” وأنه لم يتقدم بأي مساومة باتجاه تحقيق المصالحة الوطنية. إلى الوحدة”.
من جهة أخرى، حذر تقرير للاستخبارات الأمريكية من أن حكومة المالكي ستكون أكثر ضعفا في الشهور المقبلة. وقال التقرير الذي صدر عن مكتب الأمن القومي الأمريكي إن الأمن سيتحسن بصورة “متواضعة في ظل الزيادة في القوات الأمريكية التي أمر بها الرئيس بوش هذا العام، لكن معدل العنف الطائفي سيبقى مرتفعا”. وأشار التقرير إلى عدم وجود تحسن على أداء القوات العراقية إلا في حالات مساندة القوات الأمريكية لها. كما قال إنه “يرجح ألا تظهر حلول مقبولة لتحقيق أمن مستدام، ولا تقدم سياسي طويل الأمد ولا نمو اقتصادي ما لم يحدث تغير جوهري في العناصر التي تحرك التطورات السياسية والأمنية بالعراق”.
وحتى وزير الخارجية الفرنسي، كوشنير الذي قام بأول زيارة له إلى العراق، بعد تعيينه إثر فوز الرئيس ساركوزي بالوصول إلى قصر الإليزيه، أدلى بدلوه في هذا الموضوع فقال بوضوح المالكي يجب أن يغير.
ما يهمنا في هذا السياق، ليس هو المطالبة بإقالة المالكي من رئاسة الحكومة أو عدمها، وإنما أسباب الضجيج الذي أحاط بموضوعها. فالكل يعلم أن العراق الآن ليس بلدا مستقلا يملك إرادته الحرة، ويتخذ قراراته وفقا لمصالحه الوطنية والقومية العليا. لماذا إذا تلجأ الإدارة الأمريكية، وحلفاؤها إلى عملية التصعيد؟ أليس بإمكان الإدارة الأمريكية، بجرة قلم إقالة المالكي، وتعيين بديل عنه، من غير الحاجة إلى كل هذا الضجيج، خاصة أن من شارك فيه هو الرئيس الأمريكي جورج بوش نفسه، وبعض معاونيه؟.
الأسباب في نظرنا تعزى إلى طبيعة المشروع الأمريكي في العراق. فهذا المشروع قام استنادا على قوى بشرية مؤيدة لإيران، عمادها حزب الدعوة، الذي يقوده إبراهيم الجعفري، والمجلس الإسلامي الأعلى الذي يقوده عبد العزيز الحكيم. ومن هذين الفصيلين، تأسست الشرطة والجيش، والميليشيات التي نسقت مع قوى الاحتلال. وكان مشروعا الدستور والفدرالية، قد جرى تفصيلهما ليتطابقا مع التوجهات الطائفية للدعوة والمجلس، وأيضا مع المطالب الإثنية للفصيلين الكرديين اللذين يتزعمهما مسعود البرزاني وجلال الطالباني. وهنا تكمن حالة الارتباك بالنسبة للمشروع الأمريكي. عزل المالكي، في هذه الحالة، يعني توفر بدائل سياسية، وعناصر أخرى موالية لمشروع الاحتلال.
بالتأكيد سيبرز هناك من يجادلنا في هذا القول، مستندا على وجود قوى وكتل سياسية أخرى، موالية للاحتلال، ككتلة إياد علاوي، وكتلة التوافق، والحزب الإسلامي، وكتلة أحمد الجلبي.. وهو جدل مشروع، لكننا هنا نتحدث عن حضور نسبي حقيقي في الشارع العراقي، فرضته مواريث سحيقة، ومرجعيات دينية، وعن إسناد من دولة الجوار في الشرق، وهو ما لا تحظى به الفصائل الأخرى المؤيدة للاحتلال.
إن وعي هذه الحقيقة، من قبل الأطراف الرئيسية الأربعة المساندة للاحتلال، وخشيتها من بروز معادلات سياسية جديدة، تفرض قلب الطاولة، وإعادة صياغة خارطة التحالفات مع المحتل هي التي فرضت عليهم الالتقاء في الشمال العراقي، والخروج ببيان يعلنون فيه قيام حلف بينهم. إنها محاولة من المالكي لإنقاذ رقبته من الحبل، وهي محاولة ربما تسهم في إطالة أمد بقائه على الكرسي إلى حين، لكن كل المؤشرات، تؤكد أنها لن تكون طوق نجاته. إن الكتل الأخرى، تتحشد الآن، مقدمة يمين الولاء والطاعة للعم سام، وقد بدأت مؤشرات ذلك في انسحاب مجموعة من الكتل من الحكومة والبرلمان، تهيؤاً للحظة الانقضاض.
إن المواجهة الأمريكية مع الدعوة والمجلس الأعلى، تستوجب إعادة النظر في مشروعي الفيدرالية والدستور، وهما ما يعني فشلا ذريعا للمشروع الأمريكي في العراق، وللعملية السياسية التي تمخض عنها.
إبعاد المالكي عن الواجهة، لن يكون هو الحل، ولن يؤدي إلا إلى تفاقم أزمة بوش. فالأزمة كامنة في الاحتلال، وفي مشروعه، وأيضا في العملية السياسية التي تم فرضها على العراق، والتي هدفت إلى سلخه عن محيطه العربي والإسلامي. هل ستتراجع الإدارة الأمريكية عن العملية السياسية المتمثلة في الدستور والفدرالية، وتترك لشعب العراق الحرية في تقرير مصيره؟ وكيف ستتعامل مع تصاعد الخط البياني لعمليات المقاومة العراقية؟ وهل توصلت الإدارة الأمريكية إلى حتمية التفاوض مع القوى المناهضة للاحتلال، وفي مقدمتها المقاومة الوطنية، بالشروط التي تعيد العراق، بلدا عربيا حرا مستقلا، دون قيد أو شرط؟
لن تحسم حالة الارتباك في المشروع الأمريكي قبل الإجابة على هذه الأسئلة، وسوف تتضاعف أزمة الاحتلال مستقبلا، ولن تكون قضية المالكي سوى أحد النماذج، المرشحة للتكرار مرات ومرات، تعبيرا عن حالة الارتباك، وفشل المشروع الإمبراطوري الأمريكي للقرن الواحد والعشرين.
yousifsite2020@gmail.com