ارتباكات قانونية في محكمة الدجيل
تعقد المحكمة الخاصة التي تحاكم الرئيس العراقي السابق، صدام حسين وسبعة من رفاقه جلستها الثالثة، بالمنطقة الخضراء التي تتركز فيها إدارة الاحتلال الأمريكي، في مقر وزارة التصنيع العسكري التي كانت قائمة حتى احتلال العراق وسقوط بغداد في التاسع من أبريل عام 2003، في قضية أحداث الدجيل التي تعرض فيها الرئيس العراقي لمحاولة اغتيال أثناء زيارته لها عام 1982، ونجم عنها تنفيذ أحكام بالإعدام بحق عدد من المتهمين بالمشاركة في تلك المحاولة.
وقضية المحاكمة برمتها تثير مجموعة من الإشكاليات. فهي أولا تعبير عن إفلاس حقيقي للاحتلال الأمريكي والقوى المردوفة به. ذلك أن قضية الدجيل هذه لم تكن مطروحة أبدا كأحد الأسباب التي أدت إلى غزو العراق، ومصادرة دولته كيانا وهوية. وهي تأتي بعد فشل الإدارة الأمريكية في تثبيت أي اتهام من تلك التي روجت لها كأسباب مبررة للاحتلال.
فلم يعد هناك حديث عن أسلحة الدمار الشامل، ولا عن علاقة مفترضة بالقاعدة، ولا لجان تحقيق قانونية محايدة للتأكد من وجود مقابر جماعية اقترفها النظام الذي كان ممثلا لشرعية الدولة العراقية، بموجب القانون والمواثيق الدولية، حتى سقوط بغداد. وهكذا بقيت الإدارة الأمريكية لفترة طويلة تبحث عن تهمة لا يرقى لها الشك لكي تحاكم بها النظام ورموزه، وطال الانتظار، وتمخض أخيرا فولد فأرا.
كان لا بد، ضمن منطق إدارة الاحتلال، أن يحاكم الرئيس العراقي، ورفاقه وأن توجد تهمة يحاكمون بموجبها. وذلك معقول جدا خاصة حين تستعاد حملات التشويه والتزييف التي قادها الإعلام الأمريكي، والتي جعلت من النظام السابق ورموزه شياطين وجبابرة كبارا، وصف قائدهم بهتلر أحيانا، ونيرون حارق روما في أحيان أخر. وهكذا كان الاعتقال أولا وإنشاء المحكمة لاحقا، في ظاهرة قل أن يوجد لها مثيل، سابقين على وجود التهمة، وتحديد عناصرها.
وهنا تصدمنا الارتباكات القانونية الأولى. فالمتهم، أو المتهمون هم أسرى حرب، في القانون الدولي، ولهم بموجب هذا القانون صفات اعتبارية لا يصح تجاوزها، لكنهم يحاكمون ضمن إدارة عراقية محلية، وفي شأن خاص لا علاقة له البتة بمسوغات الاحتلال. فهم أسرى من جهة، ويقيمون في سجون الاحتلال وتحت إدارة حراسه، وهم من جهة أخرى يحاكمون من قبل هيئة يفترض فيها أن تكون مستقلة، لا تملك من أمرها شيئا، وحدود علاقتها مع هؤلاء المتهمين لا تتعدى مساءلتهم أثناء الجلسة، لينتقلوا بعدها مباشرة إلى سجون الاحتلال.
ولن يجادلنا أي قانوني في أن ذلك يشكل خرقا فاضحا لأصول المحاكمات. حيث من المتعارف عليه أن تكون إدارة المحكمة، أثناء فترة المحاكمة، هي الجهة المسؤولة مباشرة عن السجناء الذين تجري محاكمتهم من قبلها. إن فك الارتباط في هذه المسألة هو أمر غاية في الأهمية، فالمتهمون إما أن يكونوا أسرى وعند ذلك يخضعون لاتفاقيات جنيف حول حقوق الأسرى، أو يكونوا غير ذلك، وعندها سيكون مطلوبا توضيح المبررات والحيثيات التي بموجبها يتغير وضعهم من أسرى حرب إلى حالة أخرى.
إن فك الارتباط هذا من شأنه أن يحدد الجهة المسؤولة عن التعامل مع المتهمين وضمان سلامتهم الشخصية وحقوقهم… وأيضا يضمن أن تكون المحاكمة عادلة وحيادية ونزيهة، بحيث لا تكون الجهة التي تقوم بالمحاكمة خصما مباشرا للمتهمين، وطرفا في الصراع المحتدم الآن، بين إدارة الاحتلال الأمريكي ومردوفيها وبين العناصر التي تتصدى وتقود المقاومة للاحتلال.
وخير دليل على ذلك هو ما أشار إليه الرئيس صدام حسين في إحدى مداخلاته، أن قلمه وأوراقه صودرت منه من قبل الجنود الأمريكيين، وأنه لذلك لم يتمكن من إحضار دفوعه معه. مما حجب عنه حقا قانونيا صريحا. وأشار أحد مرافقيه إلى أنه جرت محاولة حقنه داخل مستشفى عسكري، بحقن سامة، في حين أشار برزان التكريتي، الأخ غير الشقيق لصدام، إلى أنه مصاب بالسرطان، وأنه تقدم بطلب لنقله إلى المستشفى قبل عدة شهور، وأنه حتى تاريخه لم تتم الاستجابة لهذا الطلب، واعتبر ذلك محاولة متعمدة لقتله.
ويزيد الطين بلة، أن الجلسة الثانية للمحكمة قد عقدت جلساتها، في أجواء مشحونة، وبعد فترة قصيرة من اغتيال اثنين من أعضاء هيئة الدفاع عن المتهمين، على يد عناصر مجهولة وإصابة ثالث بجروح خطيرة. وقد اضطر ذلك عددا كبيرا من المحامين للغياب عن هذه الجلسة. أما الآخرون، فإنهم كانوا في وضع نفسي سيئ نتيجة لافتقارهم للأمان، وخشيتهم المستمرة من تعرضهم هم أيضا للاغتيال. وقد اضطر بعضهم للسفر إلى الخارج طلبا للسلامة وعادوا إلى العراق قبل موعد المحاكمة بأيام قليلة. وقد أثر هذا الغياب على متابعتهم لسير القضية والاتصال بموكليهم.
الارتباك القانوني الآخر له علاقة مباشرة بالتهمة ذاتها، وبالمرافعة التي قدمت بها. وأيضا بأدلة الاتهام. فهناك غموض كبير لم تتحدد أبعاده وتفاصيله حتى هذه اللحظة. فعدد الضحايا الذين أشار إليهم الاتهام، على سبيل المثال، غير معروف، وغير متفق عليه بين وثيقة الاتهام التي تجري على أساسها المحاكمة وبين المترافعين. وشاهد الإثبات الوحيد أدلى بأقوال لا تبدو أنها تخدم عريضة الاتهام ولا تثبت أي شيء، بل إن محامي الدفاع يجدون في منطوقها شهادة نفي وليس إثبات.
والشهادة ذاتها غير قانونية، نظرا لأنها أخذت أثناء احتضار الشاهد، وقبيل وفاته، وأيضا لأن الأقوال تم أخذها من جهة غير محايدة، ولم يحضر عند سماعها وتدوينها أي من محامي المتهمين.
أما المرافعة، فإنها بغض النظر عما أثارته من هرج ومرج وفوضى داخل القاعة، وبغض النظر عما كشفته عن بدائية المحاكمة وهزالها وافتقارها لأهم عناصر التوثيق، وأجهزة التسجيل، فإنها كشفت عن تناقض كبير وفاضح فيما جاء فيها بالمقارنة مع ما ورد في عريضة الاتهام المقدمة من المحكمة. إن الدليل الوحيد التي اعتدت به ووعدت بتقديمه، والذي كان أحد أسباب تأجيل جلسة المحكمة، إلى موعد آخر، وهو تقديم تسجيل وثائقي يدين الرئيس صدام حسين بإصداره أوامر بالقتل، قد تكشف هو الآخر عن خيبة أمل كبيرة بالنسبة للمحكمة، عبرت عنها تساؤلات حائرة من رئيسها، حين كرر المدعي العام إعادة جملة واحدة، عدة مرات هي “فرقوهم في غرف منفردة”. تساءل رئيس المحكمة باستغراب لماذا تكرر هذه الصورة، أهذا هو كل ما لديك؟. ليصدق فعلا ما بدأناه في صدر هذا الحديث من تمخض الجبل وولادته لفأر. حيث لم تكن تلك الصورة تثبت شيئا أو تعني شيئا، اللهم إلا خيبة الادعاء وفشله في تقديم ولو مجرد دليل إثبات واحد.
هكذا إذن، فقدت القضية برمتها تماسكها وموضوعيتها، وأصبحت التهمة مجردة من أي معنى، ولم يعد لها قيمة معنوية أو مادية، تمكنها من أن تكون دليلا على أي شيء يدين المتهمين، وجعلت الساكن في قفص الاتهام يمارس باعتزاز دور القاضي في المساءلة والمحاججة، يصدر أوامره لرئيس المحكمة بألا يلتمس شيئا من المحتلين، ولا يكتفي بتنبيههم بل عليه أن يأمرهم “فأنت عراقي صاحب وطن، أما هم فمحتلون وغزاة”.
كانت المحاكمة مستمرة في هرجها ولغطها، وكانت قذائف الهاون تصب جام غضبها على أوكار الجيش الأمريكي في المنطقة الخضراء، مؤكدة رفض العراقيين للاحتلال. وكانت التصريحات المتناقضة تتوالى من مسؤولي الحكم وقادة الأحزاب والميليشيات المتعاملة مع الاحتلال، بين من يعتبر المحكمة هزيلة وضعيفة، كما جاء في تصريحات الصدر والحكيم، وبين من يعتبرها معبرا حقيقيا عن “عصر الديمقراطية” “والعراق الجديد”، كعلاوي والربيعي. لتعكس صورة أخرى من صراع خفي شديد ومرير، لن يلبث أن يتكشف على حقيقته بجلاء ووضوح خلال الأيام القليلة القادمة.
ووسط ذلك كله مقاومة ضارية، واعتراف من قبل قوى الاحتلال بتصاعد أداء المقاومة كما وكيفا، وأعداد كبيرة من القتلى والجرحى الأمريكيين في كل يوم، وأصوات آخذة في الارتفاع والاتساع رويدا رويدا داخل مؤسسات الإدارة الأمريكية، تنبئ بالويل والثبور، وتدعو للانسحاب الفوري والمباشر من بلاد الرافدين. وطائر الفينيق العراقي لا يزال محلقا بقوة باسطا أجنحته فوق سماء دجلة والفرات، مغنيا بصوت عربي عذب شجي وفصيح، لا يخطئه السامع، فاضحا ادعاءات الشعوبية الحاقدة وساخرا من جبروت القوة: العراق العربي المسلم باق والاحتلال إلى زوال.
د. يوسف مكي
تاريخ الماده:- 2005-12-07
2020-05–1 2-:01
Baswari من Iraq
I would expect from our brothers in everywhere to support the new ongoing process, rather than protecting the x-regime.
We have reached this stage due to Saddam behavior so my question: where were Arabs since 1968? Why the blind support rather than the rational advice