اتفاق جنيف.. كامب ديفيد آخر
الاتفاق الذي أبرم مؤخرا في العاصمة السويسرية، جنيف، بين الفلسطينيين والإسرائيليين، رغم كل محاولات الدعاية والتسويق التي يقوم بها الذين وقعوا عليه، فإنه يشكل المحطة الأكثر خطورة في مسلسل التنازل العربي لصالح المشروع الصهيوني منذ وعد بلفور المشئوم في مطلع القرن المنصرم وحتى يومنا هذا.
وحتى لا نصنف من قبل البعض ضمن قائمة المتشددين والمتشائمين، في قضية لا تحتمل موقفا متذبذبا أو مسترخيا، أو تفسيرات فضفاضة ومترهلة، دعونا نقوم بمحاكمة نحاول أن تكون منطقية وهادئة في قضية مصيرية وعاصفة.
فالذين تداعوا لحضور مؤتمر جنيف ووقعوا على الاتفاق الذي نتج عنه، من الصف الفلسطيني، يقولون إن حكومة اليمين الإسرائيلي التي يترأسها مجرم الحرب أرييل شارون قد استغلت فقدان التوازن الدولي والحرب العالمية، التي أعقبت حوادث سبتمبر عام 2001، والتي تقودها الإدارة الأمريكية على “الإرهاب” لتمارس حرب الإبادة والإبعاد والتهجير والتدمير وهدم المنازل ومصادرة الأراضي والممتلكات الفلسطينية وبناء المستوطنات الإسرائيلية في مدن وقرى الضفة الغربية، وبناء الجدار العازل والذي بموجبه اقتطعت السلطات الصهيونية أجزاء كبيرة من أراضي الضفة. وأمام هذه الأوضاع المزرية، فإنه ليس أمام الفلسطينيين سوى الحفاظ على الحدود الدنيا من استحقاقاتهم، والقبول بما يمكنهم الحصول عليه في مثل هذه الظروف القاسية.
ويضيفون مزايا أخرى على هذا الإتفاق، مشيرين إلى أنه توقيع عناصر إسرائيلية مؤثرة على نصوصه من شأنه أن يحقق انقساما حادا داخل المجتمع الإسرائيلي الذي عانى خلال السنوات الثلاث المنصرمة، التي هي عمر الإنتفاضة، من ويلات القتل وانعدام الأمن وسيادة الفوضى وتعطل مجرى حياته العادية، بسبب العمليات الإستشهادية الكثيفة وتصاعد أعمال المقاومة، بحيث أصبح هذا المجتمع مستعدا الآن لتقديم بعض التنازلات للتوصل إلى حلول مقبولة تحقق الحد الأدنى من المطالب الفلسطينية،
وعلى أساس هذه القراءة فإنهم يرون أن مسلسل العنف في الأراضي المحتلة لا بد وأن يتوقف، وأن البديل عن ذلك لن يكون سوى المزيد من النهب والقتل والتشريد ضياع الحقوق بالنسبة للفلسطينيين.
لكن مثل هذه القراءة، حتى وإن بدت منطقية في بعض جوانبها، فإنها تتناسى أن الاتفاق المذكور قد غيب جملة وتفصيلا أسباب الصراع الدامي بين الصهاينة والفلسطينيين، وتنكر للمبادئ الأساسية التي أعلنت عنها، واستمدت الثورة الفلسطينية شرعيتها من خلالها، ألا وهي تحرير فلسطين وحق الشعب الفلسطيني في العودة وتقرير المصير، وإقامة دولته المستقلة فوق كامل ترابه الوطني.
لقد تأسست منظمة التحرير الفلسطينية في بداية الستينيات من القرن الماضي، كحركة تحرر وطنية، بموجب قرار من القادة العرب الذين عقدوا أول مؤتمر لهم لمناقشة محاولات الكيان الصهيوني تحويل مياه نهر الأردن، فكانت من بين حركات التحرر الوطنية القلائل التي تنشأ في المنفى. ولا شك أن ذلك قد انعكس على تركيبة المنظمة وهياكلها والجماهير التي تحلقت حول برنامجها وناضلت من أجل تحقيقه.
وحين انطلقت الثورة الفلسطينية وبدأت شن عملياتها المسلحة ضد الكيان الصهيوني في مطلع عام 1965 كان سكان المخيمات الفلسطينية هم العمود الفقري لحركة المقاومة، وكانت كوادرها جميعا تعمل من الخارج, وقد جندت معظم عناصرها المقاتلة من أبناء المخيمات الفلسطينية في سوريا والأردن ولبنان، الذين عاشوا واقع التشرد، وظلوا يحلمون بالعودة إلى وطنهم وممتلكاتهم في حيفا ويافا وصفد وبقية المدن الفلسطينية. ولم يكن لمنظمة التحرير أو حركات المقاومة الأخرى، حتى منتصف السبعينيات، أي تواجد، يستحق الذكر، في الضفة الغربية أو قطاع غزة.
ومن خلال هذا النضال، استطاعت حركة المقاومة الفلسطينية بقيادة منظمة التحرير أن تنتزع اعتراف العالم بأسره، بما في ذلك الدول الكبرى وهيئة الأمم المتحدة وهيئات مكافحة الإستعمار، بشرعية كفاحها. وأصبحت بموجب قرار من القادة العرب الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، في الداخل والخارج, وكان من حصيلة ذلك أن بقيت القضية الفلسطينية حية ومستمرة في الضمير العالمي. وجرى التأكيد على حق الشعب الفلسطيني، وفي مقدمتهم اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى ديارهم. وثبت ذلك في مجموعة من القرارات الصادرة عن مجلس الأمن الدولي والجمعية العامة للأمم المتحدة، ومنظمات وهيئات حقوقية وإنسانية أخرى. وتم فتح سفارات ومكاتب لمنظمة التحرير في معظم بلدان العالم.
ومن نافلة القول، التأكيد هنا على أن هذه المتكسبات قد استمدت جميعا مشروعيتها من المبادئ الأساسية التي انطلقت منها منظمة التحرير، والتي يأتي على رأسها حق العودة. وهذا يعني أن التخلي عن الثوابت التي عبر عنها الميثاق الوطني الفلسطيني، وفي المقدمة منها حقوق اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى ديارهم سيكون من شأنه فقدان الذين وقعوا على وثيقة جنيف لمصداقيتهم، وسوف لن يشكل ذلك طعنة وغدرا لشعب المخيمات فقط، ولكنه سيخلق انقساما حادا ومرا في صفوف الشعب الفلسطيني وينسف المكتسبات الوطنية التي حققها هذا الشعب بشلال غزير من دمائه، وهو إضافة إلى ذلك، تنكر للتاريخ والمبادئ ولدماء الشهداء الذين سقطوا في مختلف بقاع الأرض دفاعا عن هوية وكرامة فلسطين، وخروج واضح وفاضح على التفويض الشعبي الممنوح لقيادة المنظمة.
ونكاد نجادل في هذا الصدد، أن استمرار الأوضاع على ما كانت عليه، قبل توقيع اتفاق جنيف، حتى في ظل انعدام تحقيق أي مكتسب على طريق تحقيق أهداف الثورة الفلسطينية وغياب التوازن الدولي وانحياز الولايات المتحدة الأمريكية بالمطلق لصالح الصهاينة، هو أفضل بكثير من التضحية بالحقوق والمبادئ. ذلك أنه طيلة النصف قرن المنصرم بقية الشرعية الدولية تربط بين الإعتراف بالكيان الصهيوني، كدولة قائمة على أرض فلسطين، وبين حق الشعب الفلسطيني في العودة، وقد تم التأكيد على ذلك في مجموعة من القرارات. أما وأن القيادة الرسمية للفلسطينيين قد تخلت عن هذا الحق، فلا أحد يتوقع أن تكون الهيئات الدولية ملزمة بالتأكيد على القرارات التي تبنتها في السابق، وأن تكون هذه الهيئات فلسطينية في مواقفها أكثر من الفلسطينيين أنفسهم. وسوف تتراجع الدول الصديقة التي ساندت النضال الفلسطيني طيلة السنوات الماضية عن مواقفها المؤيدة. والكاسب الوحيد من الإتفاق، في هذه الحالة، لن يكون سوى الصهاينة.
إن التسليم بحرمان اللاجئين الفلسطينيين من العودة إلى ديارهم، تحت ذريعة احتفاظ الكيان الصهيوني بهويته كحاضنة لليهود في جميع أنحاء العالم، والقول بأن عودة اللاجئين ستحدث خللا في المعادلة الديموغرافية للكيان العبري من شأنه أن يؤدى إلى تسليم خطير آخر، هو طرد الفلسطينيين المقيمين تحت الإحتلال منذ عام 1948، والذين يشكلون الآن نسبة تزيد على الـ 20% من سكان الكيان الصهيوني تحت ذات الذريعة التي تم بموجبها التنازل عن حق العودة للفلسطينيين المقيمين في المخيمات، بالشتات، الحفاظ على يهودية إسرائيل. وهكذا تستمر التنازلات في متتاليات لا نهاية لها.
الجانب السلبي الآخر والمهم أيضا، هو أن ما تم الإتفاق عليه، كما أعلن عنه، ليس سوى خطوط عامة، لمستقبل باهت وحزين وكارثي بالنسبة للشعب الفلسطيني، يفترض أنه تم بعد حوار مكثف بين ممثلين عن الشعب الفلسطيني وبين معارضين إسرائيليين لسياسات حكومتهم، غالبيتهم من اليسار، يدعون أنهم يؤيدون حقوق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة، ترى، بعذ هذا، أي تنازل سيجرى تقديمه من قبل المفاوضين الفلسطينيين لحكومة اليمين من صقور الليكود، حين تأخذ المفاوضات مع الصهاينة شكلا جديا وتفصيليا؟!!
إن الذي يحدث الآن يعيد إلى الذاكرة ذلك الإنقسام الكبير والشرخ النازف الذي حدث في العلاقات العربية العربية إثر توقيع الرئيس المصري الراحل أنور السادات لاتفاقيات كامب ديفيد، التي خرجت مصر بموجبها عن دائرة النضال العربي والمواجهة مع الصهيونية. لقد عزل توقيع معاهدة كامب ديفيد مصر عن بقية الأقطار العربية، وكان ذلك المقدمة لغزو بيروت ولانهيارات كبيرة وواسعة في النظام العربي. ومن المؤكد أن ما جرى في جنيف سيكون مقدمة أخرى لصراعات فلسطينية فلسطينية، تصادر كل مكتسبات النضال الفلسطيني، وفي المقدمة منها إنجازات الإنتفاضة الباسلة. فمن غير الممكن، بل من المستحيل أن يقبل الفلسطينيون في المخيمات التخلي عن أرضهم ومنازلهم وممتلكاتهم، وسوف يجدون أنفسهم مضطرين لايجاد بديل شرعي يناضل معهم من أجل تحقيق ثوابتهم.. ولن يكون أمام العرب والفلسطينيين على السواء إذا لم يجر تعطيل اتفاق جنيف سوى مواجهة الطوفان.
د. يوسف مكي
تاريخ الماده:- 2003-12-09