اتفاقية أوسلو بعد ربع قرن من توقيعها: النتائج والتداعيات
تمهيد:
توقيع اتفاقية أوسلو المعروفة باتفاق غزة أريحا- أولا في 13 أيلول/ سبتمبر عام 1993، في حديقة البيت الأبيض بواشنطون، بين الصهاينة والفلسطينيين، بحضور الرئيس الأمريكي، بل كلينتون ورئيس الوزراء الصهيوني، إسحق رابين، ورئيس منظمة التحرير الفلسطينية، ياسر عرفات مثل انتقالا رئيسيا في الصراع العربي- الإسرائيلي بشكل عام، وفي صراع الفلسطينيين مع الصهاينة من أجل استرداد حقوقهم والعودة إلى ديارهم وتثبيت هويتهم وإقامة دولتهم المستقلة بشكل خاص. وبموجب هذا الاتفاق سلم الضحية للمحتل، بمشروعية سطوه على أرض فلسطين، وعزز ذلك بتنازل قانوني مكتوب ومصدق عليه، من قبل منظمة التحرير الفلسطينية “الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني”.
ومع التسليم بأن توقيع هذه الاتفاقية، كان حدثا دراماتيكيا، وانتقالا استراتيجيا، في موقف قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، لكن ذلك لم يشكل مفاجأة للذين تابعوا مسيرة منظمة التحرير، منذ أيلول الأسود عام 1970م. وتمثل ذلك في مشاريع استراتيجية طرحت في الدورات المتعاقبة للمجلس الوطني الفلسطيني، جرى الحديث لفترة قصيرة عن دولة ديمقراطية، تتعايش فيها كل الأديان على أرض فلسطين التاريخية، ويتمتع مواطنوها بحقوق متساوية. ما لبث هذا المشروع، أن تغير بعد وقت قصير، ليتبعه طرح إمكانية قيام سلطة فلسطينية، على أراضي الضفة الغربية والقدس الشرقية، وقطاع غزة، التي سينسحب عنها الكيان الصهيوني، تنفيذا للقرار الصادر عن مجلس الأمن الدولي رقم 242، ولاحقا القرار 338 الصادر عن المجلس نفسه.
بعد توقف المدافع، في حرب تشرين الأول/ أكتوبر عام 1973م، بدأ الحديث عن عقد مؤتمر دولي في جنيف لتسوية الصراع العربي – الصهيوني. والتقى الرئيس المصري، أنور السادات، بوفد من منظمة التحرير، برئاسة السيد فاروق قدومي، رئيس الدائرة السياسية بالمنظمة. أبلغ الرئيس السادات في ذلك الاجتماع، أن على الفلسطينيين المشاركة في مؤتمر جنيف، وإلا فإن القافلة ستفوتهم، ولن يتمكنوا من الحصول على حقوقهم. وقد تسبب ذلك في احتدام الجدل داخل اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، حول المشاركة في مؤتمر جنيف. لكن الصهاينة حسموا هذا الجدل برفضهم لأي مشاركة فلسطينية بالمؤتمر المذكور.
ومن جهة أخرى، كان هنري كيسنجر مستشار الأمن القومي للرئيس ريتشارد نيكسون، قد تعهد للكيان الصهيوني، بعدم إجراء أي اتصال أمريكي بمنظمة التحرير الفلسطينية، قبل اعترافها بالكيان الصهيوني وتعهدها بوقف مقاومتها المسلحة للاحتلال.
لكن نقطة الانتقال الاستراتيجي في سياسة منظمة التحرير الفلسطينية، باتجاه المطالبة بقيام دولتين، على أرض فلسطين التاريخية أخذت مكانها مع الدورة الثالثة عشرة للمجلس الوطني الفلسطيني، التي عقدت بالقاهرة في آذار/ مارس 1977م، حيث أقرت العمل على قيام دولة فلسطينية مستقلة، على الأراضي الفلسطينية، التي احتلها الكيان الصهيوني في حرب حزيران/ يونيو 1967م، وتحديدا الضفة الغربية والقدس الشرقية، وقطاع غزة.
وعلى قاعدة تحقيق الأهداف “المرحلية” للشعب الفلسطيني، شارك وفد فلسطيني في مؤتمر مدريد للسلام في الشرق الأوسط، الذي عقد جلسته الافتتاحية في العاصمة الاسبانية، مدريد في مطالع التسعينيات من القرن الماضي. وقد حظي هذا الوفد بدعم من منظمة التحرير الفلسطينية.
ولذلك يمكن القول، بأن توقيع اتفاقية أوسلو، هو استمرار لمسار استمر قرابة عقدين من الزمن منذ حرب تشرين/ أكتوبر عام 1973م، من التنازلات عن هدف تحرير كامل التراب الفلسطيني، واعتماد العمل السياسي، بدلا عن الكفاح المسلح. وكان من نتائج ذلك أن اللهاث نحو التسوية السلمية مع العدو، أخذ من حصة العرب، دون أن يقدم لهم شيئا مقابل ذلك. إن فكرة هذا النهج، وما تبعه من اتفاقيات، وتنازلات متواصلة، كما تصورته قيادة منظمة التحرير الفلسطينية هي ببساطة، كما يصفه الأكاديمي المصري الدكتور أحمد يوسف أحمد
أن “إسرائيل” سترد للعرب أراضيهم المحتلة (التي هي في الأصل حقوق أصيلة لهم) مقابل حصولها على مزايا اقتصادية غير اعتيادية، لن يكون أهمها التطبيع الاقتصادي بمعناه العام، وإنما محاولة امتصاص رؤوس الأموال العربية لتغذية التنمية الإسرائيلية، لو بطريق غير مباشر. (المستقبل العربي، يناير 1994: 64).
أما وأن هدف استعادة الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967م، من خلال التنازلات والتفريط بالحقوق التاريخية قد بات من الماضي، رغم استمرار القيادة الفلسطينية، في اعتماد نهج التسوية، كخط استراتيجي لا يمكن التراجع عنه، فإن خطورة اتفاقية أوسلو هي أكثر بكثير مما كشفت عنها نصوص الاتفاقية.
أوسلو انتقال استراتيجي آخر باتجاه التفريط بالحقوق الفلسطينية:
أكدت نصوص ونتائج وتداعيات هذه الاتفاقية، فشل سياسات قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، في التعويل على الوهم، وفي عدم استيعابها أن المشروع الصهيوني منذ بدايته، كان ولا يزال مشروع حرب. وأنه مشروع توسعي استيطاني، متنكر بطبيعته لمجمل الحقوق الفلسطينية، ولا يملك قابلية التراجع ذرة واحدة عن نهجه العنصري التوسعي.
لقد مثل اتفاق أوسلو، قمة تنازل الضحية، عن كامل حقوقه للمحتل. ولعل أدق توصيف لهذا الحدث، هو ما أشار له ممدوح نوفل، في كتابه قصة اتفاق أوسلو: الرواية الحقيقية الكاملة من “أن التباين والاختلاف حول هذا الاتفاق لا يلغي حقيقة أنه يوازي من حيث آثاره ونتائجه المباشرة واللاحقة على الصراع الفلسطيني والعربي- الإسرائيلي تلك التي تركها وعد بلفور عام 1917 وحرب 1947- 1948، وإعلان قيام دولة إسرائيل أو حرب 1967. (نوفل، 1995: 132).
أحدث توقيع اتفاق أوسلو هزة عنيفة في صفوف الفلسطينيين ولدى العرب جميعا. واعتبر من قبل كثيرين انقلابا حادا ومفاجئا في المفاهيم التي سادت أكثر من نصف قرن، حين توقيع الاتفاق، ناضل خلالها الشعب العربي من أجل إلحاق الهزيمة بالمشروع الصهيوني.
ترتب على الاتفاق نتائج مباشرة، مست حقوق الشرعية المقرة للشعب الفلسطيني. وكان للاتفاق تأثير آخر، ليس فقط على مسار الكفاح الفلسطيني، بل أيضا على الموقف العربي والدولي من قضية فلسطين.
في الصفحات التالية، سنناقش ثغرات الاتفاق المباشرة، في ما سيحمل عنوان النتائج، وفي الفقرة التي تليها سوف نناقش تداعيات هذا الاتفاق على صعيد الكفاح الفلسطيني، وأيضا إسهاماته في التسريع بعملية التطبيع مع الكيان الغاصب، عربيا ودوليا.
إن التمييز بين النتائج والتداعيات ليس بالعملية السهلة، لأن الحالتين متداخلتين، ومترابطتين. ولكن هذه القراءة، ترى التمييز ضروريا، رغم إدراك هذا التداخل. لأن النتائج تتناول القصور المتعمد، في هذا الاتفاق، أما التداعيات فترمي إلى رصد ما تمخض عن تطبيق هذا الاتفاق من أحداث أضرت بالقضية الفلسطينية.
بمعنى آخر، النتائج تشير إلى الثغرات الواضحة والمتعمدة التي أغفلها الاتفاق، وعلى رأسها قضية تحرير كامل الأراضي المحتلة، ومن بينها القدس، وعودة اللاجئين الفلسطينيين، وقيام الدولة الفلسطينية. أما التداعيات فتشير إلى الكوارث التي لحقت بالنضال الفلسطيني، بشكل خاص، والقضية الفلسطينية بشكل عام، وما حققه الكيان الصهيوني من اختراقات على الصعيدين، العربي والدولي.
النتائج:
أول ثغرة في اتفاق غزة أريحا، أنه لم يتضمن، الاعتراف بحق الفلسطينيين بإقامة دولة على التراب الفلسطيني. جل ما هنالك أن الفلسطينين أعطوا حكما ذاتيا منقوصا. فقد منحوا بعض الحق في إدارة شؤونهم المحلية في قطاع غزة ومنطقة أريحا. والأهم من ذلك أنه حتى هذا الحكم المحلي المنقوص لا يطبق على جميع المقيمين في هذه المناطق، بل يطبق فقط على الفلسطينيين المقيمين في المناطق التي تضمنها الاتفاق، ولا يشمل المقيمين بتلك الأراضي، من الصهاينة. وهذا عودة إلى ما ورد في اتفاقيات كامب ديفيد، بين مصر والكيان الصهيوني، التي تشير إلى إمكانية حكم الفلسطينيين للفلسطينيين، دون سيطرة على الأرض.
وتنفيذا لنصوص هذا الاتفاق، واصل الاحتلال الإسرائيلي مطارته للفلسطينيين، واعتبر الكيان الصهيوني والراعي الأمريكي للاتفاق، السلطة الفلسطينية، شريكا فعليا في هذه المطارة. وقد تأكد ذلك بعد انسحاب قوات الاحتلال الإسرائيلي من المناطق التي نص عليها، اتفاق غزة أريحا، فقد تمسك الكيان الغاصب بسياسته في مطاردة المقاومين الفلسطينيين، في الأراضي التي باتت مجازا تحت سيطرة السلطة الفلسطينية. (السفير- بيروت: 1/12/1993). وقد دفع ذلك بحركة فتح بالأراضي المحتلة، لإصدار بيان دعت فيه إلى استئناف الانتفاضة ضد قوات الاحتلال التي تلاحق صقورها. إلا أن قيادة عرفات، تنصلت لاحقا من البيان المذكور. (النهار- بيروت: 2/12/1993).
لقد أكدت الأحداث اللاحقة أن رفع العلم الفلسطيني على مباني المعابر والجمارك، والتخفيف من تعامل المسافر الفلسطيني مع سلطات الاحتلال، عنى في حقيقته تخفيف الأعباء عن أجهزة الاحتلال، وإحالة تبعة ذلك للسلطة الفلسطينية، مع ضمان بقاء الاحتلال على أراضي الضفة والقطاع.
بل إن الاحتلال، هدف إلى ما هو أكثر من ذلك، فقد أراد من جهة تشجيع قادة المقاومة الفلسطينية، على العودة إلى الأراضي المحتلة ليسهل اقتناصهم، والتخلص منهم. والمستهدف في هذه الاستراتيجية، بشكل خاص هم القادة الذين تمسكوا بالكفاح المسلح، كموقف استراتيجي، لتحرير فلسطين.
ومن جهة أخرى، استخدام السلطة الفلسطينية لقمع المقاومين، وتسليم قادتهم باليد، لقوات الاحتلال. وقد حدث ذلك للمناضل أحمد سعدات، الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وللمناضل مروان البرغوثي، أحد قادة الجناح العسكري لحركة فتح، وأبرز المخططين لانتفاضة الأقصى، وقادة أخرين، سلمتهم السلطة الفلسطينية، لقوات الاحتلال، تحت ذريعة التزامها بتنفيذ ما ورد في اتفاقية أوسلو. هذا بالإضافة إلى عشرات عمليات الاغتيال، التي نفذتها أجهزة الأمن “الإسرائيلي”، أمام نظر وصمت السلطة الفلسطينية. بحق قادة في الجبهة الشعبية، وحركة حماس، وحركة الجهاد الإسلامي، وقائمة الشهداء، في هذا السياق طويلة.
وفي هذا السياق، يجدر التذكير إلى أن ياسر عرفات، رئيس منظمة التحرير الفلسطينية، تعهد في المباحثات التي جرت في واي بلانتايشن، بينه واسحق رابين، برعاية بل كلينتون وحضور الملك حسين بن طلال، الذي كان يعالج آنذاك، بالولايات المتحدة. بملاحقة المقاومين ومنع قيام عمليات للمقاومة الفلسطينية ضد السلطات “الإسرائيلية”، وذلك بالتعاون مع الاستخبارات الأمريكية (سي أي أيه) التي ستقوم بدور بارز في مراقبة تنفيذ السلطة الفلسطينية التزاماتها الأمنية التي طلبتها حكومة الاحتلال.
وفي ذلك اللقاء أيضا، تعهد عرفات، بتعديل الميثاق الوطني الفلسطيني وحذف ما يسيء إلى الكيان الغاصب، من بنوده، واعتقال منفذي الاعتداءات على قوات الاحتلال الإسرائيلي. (النهار- بيروت: 24/10/1998).
وعلاوة على ذلك، لم يعترف اتفاق غزة- أريحا للاجئين الفلسطينيين بحق العودة، أو الانتماء والإقامة في الدولة الفلسطينية المرتقبة. ولم يأت على ذكر لاجئي عام 1948 إطلاقا. وقيما يخص لاجئي عام 1967، يقول البند الثاني عشر من الإتفاقية أن إسرائيل والفلسطينيين سيدعوان الأردن ومصر لوضع ترتيبات من بينها “تكوين لجنة متابعة ستقرر من خلال اتفاقية ماهية صيغة الدخول لأشخاص شردوا من الضفة الغربية وقطاع غزة في العام 1967م. وهكذا فإن الكلام هنا لا يعدو تنظيم عودة أشخاص، وليس الألوف من اللاجئين.
وقد تضامن الراعي الأمريكي للاتفاق المذكور مع القرار الصهيوني، بحرمان الفلسطينيين من حق العودة إلى ديارهم. وامتنعت الولايات المتحدة الأمريكية، لأول مرة في تاريخها، وبعد توقيع الاتفاق بفترة وجيزة، عن التصويت على القرار 194 الذي تطرحه اللجنة الرابعة التابعة للجمعية العامة للأمم المتحدة على التصويت كل سنة، والذي ينص على حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى ديارهم أو تعويضهم. وقد صوتت على القرار 137 دولة وامتنعت أمريكا وإسرائيل لوحدهما عن التصويت. (الحياة- لندن: 10/12/1993).
أما المستوطنات الصهيونية، بالأراضي المحتلة، عام 1967، فلا ذكر لها، والواقع أن إسرائيل بدأت بإقامة مستوطنات جديدة في الأراضي العربية المحتلة حتى بعد توقيع اتفاق غزة- أريحا. المستقبل العربي 1/1994:129- 130.
ومرة أخرى، تضامن الراعي الأمريكي للاتفاق مع الحليف الصهيوني فقد استخدمت الإدارة الأمريكية حق النقض(الفيتو) ضد مشروع قرار تقدم به الاتحاد الأوروبي إلى مجلس الامن يطلب من إسرائيل التخلي عن قرارها بناء مستوطنة يهودية في جبل أبو غنيم في القدس الشرقية. (السفير- بيروت: 8/3/1997). وفي مرحلة لاحقة من نفس الشهر استخدمت الإدارة الأمريكية مرة أخرى حق النقض (الفيتو) ضد مشروع قرار في مجلس الأمن يطالب الإدارة الأمريكية بوقف الاستيطان في جبل أبو غنيم بالقدس الشرقية. (الأهرام- القاهرة: 23/3/1997).
وفي هذا السياق أيضا، صرح بنيامين نتنياهو، بعد فوز حزبه برئاسة الحكومة، في اجتماعها الأول، أن حكومته ستعمل على تشجيع الاستيطان اليهودي بالضفة الغربية وقطاع غزة ومرتفعات الجولان، “تعزيز السيادة الإسرائيلية على مدينة القدس الموحدة”. (النهار- بيروت: 19/6/1996). وقد رأت صحيفة الثورة السورية أن برنامج نتنياهو عبارة عن “إعلان حرب وتدمير لعملية السلام والأسس التي قامت عليها في مؤتمر مدريد. (الثورة- دمشق: 1996). وكانت صحيفة هارتس الإسرائيلية قد أكدت أن الحكومة الإسرائيلية تبني 10500 وحدة سكنية في الأراضي الفلسطينية. (النهار- بيروت: 19/1/1998).
وحين تسلم أيهود باراك رئاسة الحكومة الإسرائيلية، وألقى أول خطاب له في أعقاب فوزه، أكد أن لا عودة إلى حدود عام 1967، وأن القدس سوف تبقى عاصمة أبدية لإسرائيل وتحت سيادتها، وستتم المحافظة على الكتل الاستيطانية الكبرى في أية تسوية. وستصر إسرائيل على تقييد الاستقلال الفلسطيني، على حظر تواجد أي جيش “غريب” غربي نهر الأردن، كما سيتم عرض أي اتفاق على الاستفتاء الشعبي. (السفير- بيروت: 19/5/1999).
فيما يتعلق بمستقبل القدس الشرقية، فإن الاتفاقية لم تشر مطلقا لحق الفلسطينيين، بالسيادة عليها، أو على أي جزء منها. بل على العكس، فإن المسؤولين الإسرائيليين ما انفكوا يصرحون بمناسبة وبغير مناسبة أن القدس ستبقى موحدة، وستبقى العاصمة الأبدية لدولة “إسرائيل”.
وبالمثل، اتخذ الراعي الأمريكي لاتفاق أوسلو، وعلى لسان الرئيس الأمريكي، بيل كلينتون موقفا متحيزا للكيان الصهيوني، من مسألة القدس مغايرا للسياسة الأمريكية الرسمية المعتادة، التي تعتبر القدس الشرقية، أرضا محتلة. فأعلن أمام ممثلي المنظمات اليهودية- الأمريكية أنه “يؤمن بالقدس الموحدة عاصمة لإسرائيل”.
وقد تسببت هذه التصريحات، في بعض الإحراج لوزارة الخارجية الأمريكية التي رججت أن يكون كلينتون قد عبر عن رأيه الشخصي في موضوع القدس. وصرح الناطق باسم الخارجية، مايكل ماك أن الحكومة الأمريكية لم تغير موقفها “بأن وضع القدس يقرره الأطراف المعنيون في المفاوضات، ولكن ربما عبر كلينتون عن رأيه الشخصي”. (النهار- بيروت: 25/3/1994).
لكن مجلس النواب الأمريكي، ساند موقف الرئيس بل كلينتون، وصوت على مشروع قرار يعتبر القدس عاصمة موحدة لإسرائيل وتوافق على تخصيص مئة مليون دولار، لعملية نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس. وقد نددت العواصم العربية بهذا القرار. (السفير- بيروت: 12/6/1997).
ورغم عدم التزام الكيان الصهيوني، بنصوص هذا الاتفاق، وقدرته على استخدام ثغراته، بكفاءة، فإن قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، التزمت حرفيا بنصوصه. ونفذت ما عليها من التزامات واتفاقيات ملحقة وتفاهمات حياله.
فبالإضافة، إلى التزام السلطة الدقيق بملاحقة الفلسطينيين، أقدمت على إزالة كل النصوص التي تشير إلى حق الفلسطينيين في أرضهم، وأيضا حقهم في مناهضة الاحتلال، لحين انجاز هدف التحرير. وفي هذا السياق، عقدت اللجنة التنفيذية لـ م ت ف اجتماعا برئاسة ياسر عرفات، بصفته رئيسا للسلطة، في العريش. وبحثت تعديل ميثاق م ت ف. وصدر بيان عنها، أفاد بأنه حرصا على الوحدة الوطنية الفلسطينية فقد تقرر تشكيل لجنة خاصة لوضع الترتيبات اللازمة لتأمين انعقاد المجلس الوطني الفلسطيني المخول تعديل ميثاق المنظمة، على أساس صياغة ميثاق جديد يأخذ بعين الاعتبار الحقائق السياسية الجديدة. ونددت الفصائل الفلسطينية التي تعارض اتفاق الحكم الذاتي باجتماع اللجنة التنفيذية لتعديل الميثاق، ودعت إلى التمسك بمنظمة التحرير. (القدس العربي- لندن: 7/3/1996).
لكن المجلس الوطني الفلسطيني، قرر في ختام اجتماعاته بمدينة غزة، بغالبية 504 أصوات في مقابل 24 صوتا وامتناع 14 عن التصويت تعديل الميثاق الوطني الفلسطيني، والتخلي عن الكفاح المسلح وإلغاء كل المواد التي تتناقض مع رسائل الاعتراف المتبادلة بين م ت ف و”إسرائيل”، وبما يتلاءم مع اتفاق أوسلو وتطورات المرحلة الراهنة وعملية السلام. وقد قاطعت المعارضة الفلسطينية وفي مقدمتها الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين والجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين جلسة التصويت التي اتخذ فيها قرار تعديل الميثاق. ( النهار- بيروت: 25/4/1996).
وقد صادق المجلس المركزي الفلسطيني على إلغاء بنود الميثاق الوطني الفلسطيني التي تدعو إلى إزالة “إسرائيل”، وذلك تنفيذا لاتفاق “واي ب لانتايشن”. وقد قاطعت الجبهتان الشعبية والديمقراطية لتحرير فلسطين جلسات المجلس المركزي الفلسطيني، كما قاطعها فاروق القدومي، رئيس الدائرة السياسية في م ت ف. (السفير- بيروت: 11/12/1998).
وذهبت السلطة الفلسطينية بعيدا في مسلسل التنازلات، فأعلنت موقفا غريبا، إزاء مسألة السيادة الفلسطينية على القدس، وأعلنت عن استعدادها للقبول بوضع دولي للمدينة. وقد لاقى ذلك ترحيب الكيان الصهيوني، فيما حذرت الإدارة الأمريكية أنه إذا لم يتم تحقيق تقدم في المفاوضات فإن ذلك سيقلل من احتمالات التوصل إلى اتفاق حول الوضع النهائي خلال فترة قريبة. (السفير- بيروت: 6/9/2000).
وفيما يتعلق بإعلان الدولة الفلسطينية المستقلة، تم التوقيع في 4/9/1999على مذكرة تفاهم لتنفيذ اتفاق “واي بلانتايشن” في شرم الشيخ، من قبل الرئيس الفلسطيني، ياسر عرفات ورئيس الوزراء “الإسرائيلي”، أيهود بارك بحضور وزيرة الخارجية الأمريكية، مادلين أولبرايت والعاهل الأردني، الملك عبدالله. وقد رعى حفل التوقيع الرئيس المصري، حسني مبارك. وتعهد فيه عرفات، بعدم إعلان الفلسطينيين، من جانب واحد، قيام دولة فلسطينية.
والنتيجة أن القضايا التي تعمد عدم بحثها اتفاق أوسلو، وتركها معلقة، هي القضايا الأكثر تعقيدا وأهمية: كالقدس، والمستوطنات واللاجئين، وطبيعة الكيان الفلسطيني المتوقع بروزه.
التداعيات:
أما تداعيات اتفاق أوسلو فكثيرة، ليس أقلها تفريط القيادة الفلسطينية، بحقوق الشعب الفلسطيني، غير القابلة للمس، والعبث بالذاكرة التاريخية، واندماج السلطة الفلسطينية، في التوجهات المعادية للثورة العربية، ولحركة التحرر الوطني. وقد تسببت في انهيارات كبرى، بالجدار الفلسطيني، وفي صراع على الوهم بين حركة فتح في رام الله، وحركة حماس بقطاع غزة، ومزقت وحدة الكفاح الفلسطيني.
وسنركز في السطور المتبقية، من هذه الدراسة على تداعيات ثلاثة، هي الأخطر، من وجهة نظرنا على الكفاح الفلسطيني، وحق شعب فلسطين في التحرير والعودة. وهي الصراع الفلسطيني- الفلسطيني، وتسريع عملية التطبيع بين البلدان العربية، وعدد لا يستهان به من دول العالم، وبين الكيان الصهيوني الغاصب. أما التداعي الآخر، وليس الأخير، فهو تسهيل عملية إدماج المنطقة بأسرها، في مشروع استعماري جديد، هو مشروع الشرق الأوسط، الكبير، والذي عبر عنه لاحقا، بالشرق الأوسط الجديد، الذي اعتبر القضاء على المقاومة العربية، بكل تشعباتها للاحتلال مخاض ولادته.
الصراع فتح- حماس:
أحد النتائج الكارثية لاتفاق أوسلو، هو التنافس بين حماس وفتح على السلطة. لقد نحج الكيان الصهيوني في زج أكبر حركتي مقاومة، من حيث الإمكانيات وعدد المنتمين لهما، في الصراع على الوهم. وقد أدى ذلك لاحقا إلى انفصال قطاع غزة، بقيادة حركة حماس، عن مقر السلطة الفلسطينية، في رام الله. وهكذا بات لدى الفلسطينيين سلطتين، في ظل الاحتلال.
وكان للانفصال تأثيره المباشر، على تفتيت وحدة النضال الفلسطيني، وعزل الشعب الفلسطيني، في القطاع وغزة، عن بعضه. وأيضا على الحصار المستمر لقطاع غزة، الذي استمر أكثر من عشر سنوات.
لقد بلغ الصراع بين الحركتين، مستوى غير مسبوق، حيث وجه كلاهما حرابه تجاه الأخر. وسقط عشرات القتلى في مواجهات دموية في هذا الصراع. هذا عدى عن المئات من المعتقلين في سجون هذا الفريق أو ذاك. والخاسر الوحيد في ذلك هي قضية الشعب الفلسطيني، وكفاحه في سبيل هزيمة الاحتلال.
وعلى الصعيد السياسي، أدى الانفصال، إلى محاولة الفريقين المتحاربين، استقطاب أكبر تأييد لهما في المحافل الدولية والإقليمية والعربية. وكان لذلك تبعاته على الالتزام بقضية التحرير. فمن يمنح التأييد يريد مقابلا مدفوعا، قبل الحصول على أي شيء. وهكذا رأينا التنافس بين المتصارعين، في الانخراط بمشاريع التسوية، مع فارق في الإيقاع، من غير مس بجوهر الالتحاق بمشاريع التسوية.
وكانت وثيقة حماس الأخيرة، التي تحدثت عن إدماج العمل السياسي بالعمل العسكري، والقبول بدولة فلسطينية مستقلة بالأراضي التي تم احتلالها عام 1967م، دليلا قاطعا على متواليات التردي التي نتجت عن انفصال الضفة الغربية عن القطاع، وعلى استعداد حماس، للانخراط بمشاريع التسوية، مستخدمة نفس الذرائع التي ساقتها حركة فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية، منذ منتصف السبعينيات من القرن المنصرم.
التطبيع:
منذ أعلنت وحدانية تمثيل منظمة التحرير الفلسطينية للشعب الفلسطيني في منتصف السبعينيات من القرن الماضي، سادت مقولة لدى الحكام العرب، المتخاذلين بحق قضية التحرير، عمادها أنهم يقبلون بما تقبل به القيادة الفلسطينية. ومن جهة أخرى، يدفعون بالمنظمة عن طريق العصا والجزرة، إلى الاندفاع أكثر، في طريق التسويات وتصفية القضية الفلسطينية. وجدلهم في ذلك، أن قضية فلسطين، تخص الفلسطينيين، بالدرجة الأولى، وأنهم لا يمكن أن يكونوا “ملكيين أكثر من الملك”.
وليس من شك، في أن كثيرا من الأنظمة العربية، كانت تنتظر بفارغ الصبر، توصل الفلسطينيين إلى تسوية مع الاحتلال الصهيوني، لتتمكن من غير حرج الانخراط في مشاريع تطبيع مع العدو. وقد رأينا ذلك يتجسد واقعا عمليا، بعد توقيع اتفاقية أوسلو مباشرة. نسوق هنا بعض الأمثلة، لا الحصر، للتدليل على ذلك.
في شهر نيسان، 1994م، وصل إلى مسقط وفد “إسرائيلي” برئاسة يوسي بيلين، نائب وزير الخارجية للمشاركة في الجولة الخامسة من المفاوضات المتعددة الأطراف في شأن مصادر المياه بالشرق الأوسط. ويضم الوفد 25 “إسرائيليا”. وهو الأول الذي يزور بلدا عربيا خليجيا، بشكل معلن، منذ إنشاء الكيان الصهيوني. (النهار- بيروت: 16/4/1994).
وفي نهاية العام نفسه، قام إسحق رابين بزيارة مفاجئة لسلطنة عمان هي الأولى لمسؤول “إسرائيلي” لبلد عربي خليجي تتم في العلن. وأشاد رابين بشجاعة السلطان قابوس لاستقباله له، فيما أعلن التلفزيون “الإسرائيلي” أن عمان وإسرائيل تجريان اتصالات سرية منذ 18 عاما. (النهار- بيروت: 28/12/1994). وإثر هذا الحدث أعلنت “إسرائيل” عن مشاركتها في وضع خطة لإقامة مركز إقليمي برعاية دولية لأبحاث تحلية المياه في مسقط، كخطوة أولى للتطبيع مع سلطنة عمان ودول الخليج العربية. (الحياة- لندن: 24/9/1995).
وتواصلت زيارة المسؤولين “الإسرائيليين” للسلطنة. فقد استقبل سلطان عمان، قابوس بن سعيد رئيس الوزراء “الإسرائيلي”، شيمون بيريز الذي وصل إلى مدينة صلالة العمانية. وصدر بيان عن اللقاء أفاد أن الجانبين اتفقا على تبادل التمثيل التجاري بينهما، وأن هذا اللقاء يأتي لدعم عملية السلام في المنطقة. (السياسة- الكويت: 2/4/1996).
وانتقل شيمون بيريز بعدها إلى الدوحة حيث استقبله الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، أمير قطر. واتفق الجانبان على تبادل التمثيل التجاري، وفتح مكتب لذلك في كل من البلدين. (القبس- الكويت: 2/4/1996). وكانت الدوحة قد استقبلت قبل عامين وفدا “إسرائيليا”، شارك في اجتماعات لجنة الحد من التسلح والأمن الإقليمي للمنطقة المنبثقة عن المفاوضات المتعددة الأطراف. (الحياة- لندن: 5/5/1994).
ومن جهة أخرى، غادر وفد إسرائيل القاهرة متوجها إلى البحرين للتحضير لأول زيارة لوزير إسرائيلي للمنامة. (النهار- بيروت: 29/9/1994).
وشهدت مرحلة ما بعد توقيع أوسلو، التحاق الأردن رسميا بالتطبيع مع الكيان الصهيوني. ففي 20 من يوليو 1994م، شهد البحر الميت، من جهة الأردن لقاء حضره وزير الخارجية الإسرائيلي، شيمون بيريز، ورئيس مجلس الوزراء ووزير الخارجية الأردني، عبد السلام المجالي. وفي 25 من الشهر ذاته، عقد لقاء بين الملك حسين ورئيس الوزراء الإسرائيلي، إسحق رابين برعاية الرئيس الأمريكي، بيل كلينتون وتم التوقيع على إعلان مشترك بين الأردن وإسرائيل عرف بـ “إعلان واشنطن”. وقد نص على إنهاء حالة الحرب بين البلدين، والتزام الطرفين باتخاذ خطوات من أجل إزالة الحواجز النفسية، وإلغاء سائر أنواع المقاطعة الاقتصادية بينهما. (الحياة- لندن: 26/7/1994، النهار- بيروت: 26/7/1994).
وفي 26 تشرين/ أكتوبر 1994م وقع الأردن والكيان الصهيوني، بالأحرف الأولى على مسودة معاهدة سلام بينهما بعد لقاءات عدة بين الملك حسين ورئيس الوزراء “الإسرائيلي”، إسحق رابين. وجرى التوقيع عليها في وادي عربة. (النهار- بيروت: 18/10/1994). وشارك في حفل التوقيع الرئيس الأمريكي، بيل كلينتون ووزير الخارجية الروسي، أندريه كوزيريف. ووقع المعاهدة رئيس الوزراء الأردني، عبد السلام المجالي ورئيس الوزراء “الإسرائيلي”، إسحق رابين، كما وقعها الرئيس الأمريكي ووزير الخارجية الروسي بصفتيهما شاهدين.
وعلى صعيد دول المغرب العربية، أعلنت وزارة الإعلام المغربية ووزارة الخارجية “الإسرائيلية” في آن واحد أن الحكومة المغربية قررت فتح مكتبين للاتصال في تل أبيب وقطاع غزة، وسمحت “لإسرائيل” فتح مكتب مماثل في الرباط. ( الحياة- لندن: 2/9/1994).
ووصل إلى مراكش طائرتان قادمتان من “إسرائيل” تحملان على متنهما 500 “إسرائيلي” من السياح. وعقد هؤلاء مؤتمرا للسياحة في المغرب بالتنسيق مع السلطات المغربية. (الإتحاد الإشتراكي- الدار البيضاء: 4/12/1995).
كما عقد في مدريد اجتماع بين وزير الخارجية “الإسرائيلي”، شيمون بيريز ونظيره الموريتاني، محمد سالم ولد الخال هو الأول من نوعه بين مسؤول “إسرائيلي” وآخر موريتاني. وذكرت وزارة الخارجية الاسبانية أنها رتبت لهذا الاجتماع. (النهار- بيروت: 12/6/1995). وفي وقت لاحق عقد اجتماع بين وزير الخارجية الموريتاني ونائب وزير الخارجية “الإسرائيلي”، يوسي بيلين بحضور ووزير الخارجية الأردني عبد الكريم الكباريتي الذي رتب اللقاء بناء على طلب موريتاني- “إسرائيلي”. (الحياة- لندن: 2/7/1995).
وقع وزير الخارجية “الإسرائيلي”، ديفيد ليفي ونظيره الموريتاني، أحمد ولد سيد أحمد اتفاقا في واشنطن لتبادل السفراء بين البلدين في حضور وزيرة الخارجية الأمريكية، مادلين أولبرايت. وقد وصفت المعارضة الموريتانية التوقيع على الاتفاق بأنه: “عار ونقطة سوداء في التاريخ الموريتاني”. وقال زعيم المعارضة الموريتانية، أحمد ولد داده إن هذا التقارب يعكس ازدراء الحكومة بشعور الشعب الموريتاني وقيمه الدينية. (السفير- بيروت: 30/10/1999).
وكان الحدث المفاجئ، هو لقاء الرئيس الجزائري، عبد العزيز بوتفليقة، على هامش حضور جنازة العاهل المغربي، الملك الحسن الثاني برئيس الوزراء “الإسرائيلي”، ايهود باراك.(السفير- بيروت: 26/7/1999).
وحديث تسارع الاعتراف الدولي بالكيان الصهيوني، وتطبيع العلاقة معه يحتاج إلى وقفات أطول، ويكفى هنا الإشارة إلى تطبيع العلاقات بين الفاتيكان وإسرائيل. والنمو المضطرد في علاقة الهند، حليفة العرب التاريخية، بالكيان الصهيوني الغاصب، وكل ذلك يعود إلى حد كبير، لنتائج اتفاقية أوسلو.
مشروع الشرق الأوسط الكبير- الجديد:
أعاد توقيع اتفاق أوسلو قضية النظام العربي والنظام الذي صنف بالشرق أوسطي إلى الواجهة. وكان هذا الطرح قد بدأ على نحو جاد، وإن كان جزئيا إثر توقيع معاهدة اتفاقيات كامب ديفيد بين مصر والكيان الغاصب في آذار/ مارس 1979. فطبقا لهذه المعاهدة بات الصهاينة طرفا في علاقة أكيدة بقطر عربي لعب دورا قائدا في مسيرة الصراع مع الصهاينة. (غسان سلامة- المستقبل العربي، 1/1994: 68).
في هذا السياق، أشار أبا إيبان وزير خارجية إسرائيل الأسبق- أن الضمان الأساسي لأي اتفاق سلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، هو إنشاء شبكة كثيفة من العلاقات الاقتصادية بين “إسرائيل” والأقطار العربية، على غرار نموذج العلاقات الأوربية في أعقاب الحرب العالمية الثانية. (المستقبل العربي 0/1994: 90).
وكان شيمون بيريز قد جدد مطالبته أثناء توقيع اتفاق أوسلو ببناء شرق أوسط، من خلال إنشاء سوق شرق أوسطية مشتركة على أساس المياه والسياحة، مثلما قامت السوق الأوروبية المشتركة على الفحم والصلب. (المستقبل العربي 0/1994: 91).
وفي الوقت نفسه تقريبا، تحدث يوسف والي (الأمين العام للحزب الوطني الديمقراطي ونائب رئيس الوزراء في مصر) عن أهمية وضرورة قيام سوق شرق أوسطية، كتكتل اقتصادي كبير في منطقة الشرق الأوسط لمواجهة التكتلات الإقتصادية العالمية الأخرى. (المستقبل العربي 0/1994: 91).
وخطورة هذا الطرح لا تكمن في أنه مفروض من الخارج على العرب فقط، بل في أن بداية تسويقه تزامنت مع مرحلة ضعف وتفكك عربيين واضحين، وتوقع أن تدخل الأمة العربية هذا النظام فرادى، كما دخلت عملية التسوية مع الكيان الصهيوني.
وقد تواصل الحديث عن شرق أوسط جديد بعد احتلال العراق، عام 2003 على لسان وزير الدفاع الأمريكي رامسفيلد، ومرة أخرى أثناء حرب تموز/ يوليو على لبنان، عام 2006م، على لسان وزيرة الخارجية الأمريكي، كونداليزا رايس. وفي الحالتين، اعتبر رامسفيلد، احتلال العراق، ورايس الحرب على لبنان، مخاضا لولادة جديدة لشرق أوسط جديد، يكون فيه الكيان الصهيوني، القوة الضاربة ومركز الرحى بالمنطقة.
كلمة ختامية:
بقي أن نشير إلى أن المقاوم العربي، ظل صامدا في وجه محاولات تصفية قضية فلسطين، رغم كل التضحيات والدماء. تمكنت المقاومة اللبنانية، من إلحاق الهزيمة بالصهاينة، وفرضت على الكيان الصهيوني سحب قواته من جنوب لبنان في الشهر الخامس عام 2000. وفي العام ذاته، انطلقت انتفاضة الأقصى، لتكون من أعظم ملاحم الكفاح الفلسطيني. وصمد الشعب الفلسطيني، في عدوانين رئيسيين على قطاع غزة، وألحقت المقاومة اللبنانية الهزيمة بعدوان تموز 2006م. لتتأكد مقولة أن المقاومة هي دائما الطريق الأشرف والأنبل، والأقل كلفة، وأنها طريق الأمة للتحرر والانعتاق. وأن مألات التفريط هي المزيد من التفريط والمزيد من الضياع.