إيران وخيارات أمريكا

0 167

 

 

من بين الملفات المعلقة بين أمريكا وإيران، يمثل الملف النووي الإيراني قلقاً حقيقياً للإدارة الأمريكية وللكيان الصهيوني، على السواء. وفي ظل العجز وافتقار العرب ليس فقط للقدرات النووية، بل أيضاً لإرادة الدفاع عن أنفسهم، فإن نجاح إيران في حيازة القدرات النووية هو تهديد إضافي للأمن القومي العربي، يضاف إلى التهديد الذي تمثله الترسانة النووية “الإسرائيلية”.

 

لقد تأكد في العقود الأربعة التي مضت، عجز النظام العربي الرسمي عن الاضطلاع بمسؤولياته في حماية الأمن الوطني، والدفاع عن الاستقلال. وخلال العربدة الصهيونية التي استمرت بشكل شرس منذ توقيع اتفاقية كامب ديفيد غاب دور الجيوش العربية، وبقيت المقاومة الشعبية هي الحصن الأخير للدفاع عن الأراضي العربية. وليس من المتوقع أن يواجه هذا النظام التهديدات الإيرانية بعمل جماعي.

 

والنتيجة التي لا مفر من الاعتراف بها، هي أن الإدارة الأمريكية، والنظام الإقليمي الخليجي عاجزان عملياً عن عمل أي شيء لوضع حد للتحديات الإيرانية. والمنطقي أن الإدارة الأمريكية لن تلجأ لشن حرب تعلم مقدماً أنها ستكون خاسرة، ولن تمكنها من تحقيق أهدافها. فالحروب نظرياً على الأقل، تشن في العادة لتحقيق أهداف واضحة، يستحيل إنجازها عن طريق المفاوضات ومن دون اللجوء إلى السلاح. وما دام السلاح سيعجز عن تحقيق الأهداف، فلن يكون هناك أي معنى للحرب.

 

في ما يتعلق بالخليج العربي، لا تجد الإدارة الأمريكية غضاضة في استمرار التهديدات الإيرانية لأمنه طالما لن يؤدي ذلك إلى تعريض وجودها في الخليج للخطر. أما موضوع الملف الإيراني، فليس من المستبعد أن تقبل الإدارة الأمريكية بتقديم حوافز اقتصادية وعملية لإيران، تتمكن الأخيرة من خلالها من مواصلة طموحاتها النووية، مع ضمان اقتصار استخدام المفاعلات للأغراض السلمية. وبالنسبة للكيان الصهيوني، فلن يتصرف خارج إطار السياسة المعلنة للإدارة الأمريكية، وسوف يلتزم بأي تسوية يقبل بها الأمريكيون.

 

وإذا أصبح متعذراً على الإدارة الأمريكية، التوصل إلى تسوية سلمية في هذا السياق مع إيران من خلال الحوار وتقديم الحوافر، فربما يطرح الخيار العسكري بجدية. لكن طرح خيار الحرب شيء، وخوض الحرب شيء آخر.

 

إن مناقشة خيار الحرب يعني أن هذا الخيار، أصبح فرضية مفتوحة وقابلة للنقاش والأخذ والرد، لكن الأخذ بهذه الفرضية لن يتم إلا بعد توفر مختلف المعطيات التي تدعم الاحتكام لهذا الخيار، وفي المقدمة من ذلك ضمان تحقيق الهدف الرئيسي من الحرب. وفي هذا السياق، ليس المهم النجاح في تنفيذ الضربة الأولى، بل لا بد من الأخذ في الاعتبار قدرة الطرف المعتدى عليه على استيعاب الضربة، وأكثر من ذلك التحسب لردود الفعل، بعد تلقي الضربة، وللأوراق التي يمتلكها الخصم، والتي تعرضنا لها في حديثنا السابق.

 

ومع الإقرار بعدم وجود ما يضاهي قوة النيران الأمريكية في عموم الكرة الأرضية، فإن ذلك لا ينبغي التسليم به بشكل مطلق. فنحن هنا لسنا إزاء حرب عالمية. والقوى الصغرى لا تستطيع في الغالب حسم الحروب عسكرياً لصالحها، ولكن مقاومتها ورود أفعالها قد تكفلت فيما مضى، وربما تتكفل في المستقبل، بإلحاق الهزائم السياسية. وإذا ما جرت المعارك بالقرب من مناطق النفط عصب الحياة في عصرنا، فإن الحرب لن تكون سهلة أبداً.

 

وإذا افترضنا أن هجوماً أمريكياً على إيران أصبح محتماً، فليس من السهل التنبؤ بنتائجه، وربما يدفع استمرار الحرب إلى التهديد الحقيقي لشحنات النفط، خصوصاً وأن مراكز الدراسات الاستراتيجية تؤكد امتلاك إيران للصواريخ المضادة للسفن، بل وقدرتها على التعرض لحاملات الطائرات، مستثمرة طول خطوط الملاحة في الخليج في شن ضربات بحرية أو جوية من مواقع على طول الخليج العربي وخليج عمان. هذا عدا عن الأنواع الأخرى التي تمتلكها إيران من الأسلحة التقليدية، وغير التقليدية، ومن ضمنها الأسلحة البالستية بعيدة المدى من نوع “سكود”، والتي يصل مداها إلى الكيان الصهيوني، والمزودة برؤوس قادرة على حمل أسلحة كيماوية وبيولوجية.

 

إن السيناريو الأقرب إلى التحقق، في حال فشل الحوار الأمريكي وتقديم الحوافز لإيران، هو اللجوء لحرب تحريك تشنها “إسرائيل” ضد إيران. وحرب التحريك هو مفهوم دخل في القاموس العربي، كمصطلح سياسي إثر حرب تشرين/ أكتوبر عام ،1973 التي شنتها مصر وسوريا ضد الكيان الصهيوني. ففي تلك الحرب عبرت القوات المصرية عدة كيلومترات شرق القناة، وتوقفت بعد ذلك مباشرة، فيما أطلق عليها بالوقفة التعبوية، وكان من نتيجة تلك الوقفة التعبوية، وحالة الاسترخاء التي ارتبطت بها، أن تمكن أرييل شارون من إحداث ثغرة الدفرسوار، والتوجه بكتيبة دبابات “إسرائيلية” إلى غرب القناة، ومحاصرة الجيش المصري الثالث، شرق القناة.

 

لقد تكشف لاحقاً أن الحرب برمتها هدفت إلى كسر جمود اللاسلم واللاحرب، وقد أريد لها أن تمثل انتقالاً استراتيجياً، ليس فقط في التوجه للتفاوض السلمي مع الصهاينة، ولكن أيضاً في تغيير خريطة التحالفات الدولية والإقليمية، حيث أصبحت بعدها مجمل “أوراق اللعبة” بيد إدارة الرئيس الأمريكي، ريتشارد نيكسون، ومستشاره لشؤون الأمن القومي هنري كيسنجر.

 

حرب التحريك إذن، هي عملية عسكرية محدودة تتيح الفرصة للأطراف الدولية الكبرى للدخول على الخط، وتوجيه المفاوضات بدرجات متفاوتة، تبعاً لأوراق الضغط المتاحة لدى الأطراف المعنية بالصراع. ومن المفترض أن يؤدي تدخل الأطراف الدولية إلى تحقيق انفراج في الموقف، بما يسهم في تغيير خارطة التحالفات، وخلق معادلات جديدة سياسية مغايرة لتلك التي كانت سائدة قبل إطلاق شرارة الحرب.

 

والواضح أن الإدارة الأمريكية السابقة بقيادة جورج بوش قد بدأت صياغة سيناريو المواجهة مع إيران ضمن السياق الذي أشرنا إليه، اعتماداً على تقديم الجزرة من جهة، ومحاولة تحييد القوى المساندة لإيران من جهة أخرى، وبشكل خاص سوريا وحزب الله، قبل الإقدام على أية مواجهة حقيقية مع القيادة الإيرانية.

 

وربما شكلت وساطة الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي لتحسين العلاقات بين سوريا ولبنان، والتي تمخضت عن اتفاق الرئيسين بشار الأسد وميشال سليمان على فتح سفارة سورية بلبنان، خطوة عملية في هذا الاتجاه. كما تجدر الإشارة إلى وساطة الرئيس الفرنسي لتحقيق مصالحة بين الرئيسين السوري والمصري، ودعوة الملك عبدالله بن عبدالعزيز في مؤتمر القمة العربي الذي عقد مؤخراً بالكويت، لتحقيق المصالحة العربية. وقد أخذت هذه التطورات مكانها في سياقات أخرى، تنبئ بتهدئة الموقف في حوض البحر الأبيض المتوسط. فقد تزامنت هذه التطورات مع تصريحات متبادلة أصدرها رئيس الوزراء الصهيوني السابق، ايهود باراك والرئيس السوري أكدت جدية موقفيهما تجاه التوصل إلى حلول سلمية للصراع حول استعادة هضبة الجولان السورية، وقبولهما بوساطة رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان لإنهاء الصراع بين سوريا والكيان الصهيوني، وتطبيع العلاقات بينهما.

 

جاءت هذه التطورات وسط انفراج آخر بين حزب الله والصهاينة، تمثل في تبادل الأسرى، ورفات القتلى من “الإسرائيليين”، والشهداء اللبنانيين والفلسطينيين إلى ذويهم. وكان التزام حزب الله أثناء هجوم القوات “الإسرائيلية” على غزة بضبط النفس، وعدم إطلاق الصورايخ على المستوطنات الصهيونية القريبة من جنوب لبنان، دليلاً آخر على أن ثمة انفراجاً يجري في حوض البحر المتوسط.

 

إن التفسير المنطقي لهذه التطورات هو أن هناك سعياً حثيثاً لتحييد الأوراق الإيرانية في حوض البحر الأبيض المتوسط. يتزامن ذلك مع تأهيل القيادة السورية للعودة للنظام العربي الرسمي، من خلال استعادة علاقاتها الطبيعية مع دول مجلس التعاون الخليجي ومصر ولبنان.

 

وإذا وضعنا نصب أعيننا التطورات الدولية المتمثلة في التهديد الروسي بمواجهة عسكرية، في حالة نصب الدروع الصاروخية في تشيكيا، واستخدام الروس والصينيين حق الفيتو باتجاه القرار الصادر عن مجلس الأمن بفرض عقوبات على زمبابوي، تأكد لنا أن الأمريكيين ليسوا في وارد مواجهة عسكرية مع إيران، من شأنها أن تجعل المنطقة الفاصلة بين روسيا ومنطقة الخليج العربي رخوة وقابلة للاختراق.

 

وإذن فالبديل الممكن هو قيام الكيان الصهيوني بضربة جوية عسكرية محدودة على غرار القصف “الإسرائيلي” لمفاعل تموز النووي العراقي في أوائل الثمانينات. والأقرب أن إيران ستحتوي الضربة ولن ترد عليها، بسبب إدراكها لمخاطر ذلك على أمنها الإقليمي، ولكنها ستؤكد احتفاظها بحق الرد وتحديد مكانه وزمانه. وربما خرج مجلس الأمن الدولي بقرار يطالب فيه الأطراف المعنية بضبط النفس والابتعاد عن العنف، ومن ثم تتدخل الولايات المتحدة، أو بعض دول الاتحاد الأوروبي كوسيط بين الطرفين، مقدمة حوافز بديلة لإيران، تضمن استمرار شراكتهما في العراق وأفغانستان، وتؤمن البنية التحتية الإيرانية، وتسمح لها ببعض الأنشطة النووية ذات الطابع السلمي، ولكن برعاية وإشراف غربي. وبذلك تحقق الإدارة الأمريكية اختراقات أخرى جديدة. أما بالنسبة لأمن الخليج والتهديدات التي يتعرض لها فسوف تبقى مؤجلة حتى إشعار آخر. وهي في النهاية رهن لشروط أخرى، في مقدمتها الوعي والتخطيط والإرادة، وتلك شروط لا تزال بعيدة المنال. والأيام أو الشهور القادمة على أية حال، هي التي ستتكفل بتأكيد أو نفي دقة السيناريو الذي رسمناه.

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

12 + 14 =


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.

د.يوسف مكي