إيران.. من الدولة الوطنية إلى الدولة الدينية
في سلسلة مقالاتنا التي بدأنا بها الأسبوع الماضي، لفهم التطورات التي حدثت في إيران، إثر إعلان فوز أحمدي نجاد بدورة رئاسية ثانية، رأينا من الضروري رسم خارطة موجزة للبنيات الإثنية والدينية والمذهبية للمجتمع الإيراني، كأمر لازم لوعي طبيعة التعدد في الألوان وموازين القوة. وأشرنا إلى أن معطيات دولية ساهمت، منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، في بقاء هذه البنيات متماسكة، وعصية على التشظي.
والواقع أن إيران ما قبل الثورة، ظلت دائما عنصرا مهما وحيويا في مختلف الأحلاف والتشكيلات الجيوسياسية، الغربية، التي أريد لها أن تكون جبهة قوية ومتماسكة، في مواجهة التسلل الشيوعي إلى الجنوب. كانت جزءً فاعلا في مشروع أيزنهاور لملأ الفراغ في الشرق الأوسط، بعد انهيار الاستعمار التقليدي، في نهاية الحرب العالمية الثانية، وكانت جزءً من حلف بغداد، كما كانت جزءً فاعلا وحيويا في حلف المعاهدة المركزية “السنتو”.
هدفت السياسة الأمريكية وحلفائها في الغرب، بعد الحرب العالمية الثانية، واشتعال الحرب الباردة بين القطبين، الأمريكي والسوفييتي، إلى إيقاف التسلل الشيوعي إلى المناطق الدافئة، عن طريق إحاطته بقوس، يبدأ شرقا من باكستان، ويضم إيران والعراق وتركيا، على أمل أن تلتحق به بلدان عربية أخرى، كسوريا ولبنان. لكن الغليان الوطني في حقبة تأسيس الحلف قد حال دون استكمال بناء القوس. ومع سقوط حكومة عدنان مندريس التركية، وبروز حقائق سياسية دولية جديدة انتهى دور هذا الحلف. إلا أن الدور الإيراني، بالنسبة لصناع السياسة في الغرب ظل حيويا واستراتيجيا، خاصة بعد قرار حزب العمال البريطاني الانسحاب من شرق السويس في بداية السبعينيات من القرن المنصرم، والتصدي للقلاقل المحتملة في بعض بلدان الخليج العربي.
خلاصة القول، أنه تحقق زواج شبه كاثوليكي بين استقرار إيران، وضمان نجاح سياسة التطويق للإمبراطورية السوفييتية. وقد تم على حساب القوى السياسية المحلية، التي طمحت لبناء دولة حديثة على أسس تعاقدية، ووفقا للقيم الليبرالية السائدة في الغرب، وفي مقدمة تلك القوى الجبهة الوطنية، التي ولدت من رحم حركة الدكتور مصدق في أوائل الخمسينيات.
لقد حسم الغرب موقفه تجاه التطورات الداخلية في إيران، وقرر الوقوف إلى جانب حكم الشاه، في وجه تطلعات شعبه بإقامة نظام يعتمد التعددية وتداول السلطة، واعتماد الدستور، بدلا عن الحكم الأوتوقراطي. بمعنى آخر، قرر الغرب أن يقف ضد القوى السياسية التي تبنت نهجه في الحكم، وأدار لها ظهر المجن، وساند بقوة خصمها.
وخلال تلك العقود، استمر دور المؤسسة الدينية، مغيبا أو باهتا. وانفردت القوى المدنية بتعرضها لقمع السافاك، وقيادتها المواجهة السياسية للنظام في كبريات المدن الإيرانية.
وكان أول تصادم بين المؤسسة التقليدية الدينية وبين الشاه قد دار حول قانون الأحوال الشخصية الذي اقترحه الشاه، والذي اعتبر من وجهة نظر النخب الإيرانية الحديثة خطوة متقدمة، ولم يكن الصدام حول مطالب العدل والحرية والمساواة، التي تحلقت حولها غالبية القوى الوطنية. أما نصيب المؤسسة الدينية من التضحيات والتعرض لسجون السافاك، فهو ضئيل جدا، لا يكاد يذكر، إذا ما قورن بحجم التضحيات التي قدمها الإيرانيون، والتي تجاوزت السبعين ألفا، قضوا نحبهم إما داخل السجون أو في المواجهات التي دارت قبل موعد الحسم، بين النظام وشعب إيران. وقد شجع نظام الشاه، معارضيه، من المؤسسة الدينية التقليدية على الرحيل إلى الخارج، لكي لا يتحمل وزر دمائهم، حيث انتقل معظمهم إلى الأماكن المقدسة في العراق، منذ بداية الستينيات، ومكثوا هناك حتى قيام الثورة.
واللافت للنظر، أنه حتى عندما قررت الإدارة الأمريكية التخلي عن الشاه، لأسباب تعرضنا لها في الحديث الماضي، لم يكن خيارها إسناد القوى الوطنية، من خارج المؤسسة الدينية، بل اتجهت مباشرة لدعم مؤسسة لم تلعب في السابق، أي دور سياسي في مواجهة الشاه، بل إن تاريخ إيران يذكر لها خذلانها وغدر بعض رموزها للحركة الوطنية، ولعل المثل الصارخ في ذلك الغدر هو موقف آية الله الكاشاني، الذي أيد في البدء حركة الدكتور مصدق، ثم انقلب عليه، وغدا أحد شهود الضد في محاكمته.
لقد بقيت الجبهة الوطنية، أهم المعاقل الوطنية، التي قادت العمل السياسي في إيران خلال العقود التي أعقبت انقلاب الجنرال زاهدي، المدعوم بالاستخبارات الأمريكية، والذي أعاد الشاه إلى عرشه. واستمرت كذلك حتى وصول الإمام الخميني إلى إيران، وإعلان سقوط الشاه. بل إن الشاه، في أيامه الأخيرة قرر العودة لهذه الجبهة كملاذ أخير للخروج من الأزمة التي عصفت بنظامه، واختار أحد أقطابها، شاهبور باختيار ليكون رئيسا لحكومة مصالحة وطنية. لكن الوقت صار متأخرا جدا، ولم يسمح بالتقدم بخطى حقيقية في هذا الاتجاه. وقد دفع باختيار حياته ثمن قراره الوطني الشجاع، حيث تم تصنيف موقفه ذلك من قبل الإمام الخميني، باعتباره موقفا خيانيا، ومواليا للشاه، مما اضطره للهروب إلى فرنسا، والعيش هناك كلاجئ سياسي، إلى أن تمت تصفيته جسديا، من قبل أعوان النظام الثوري الجديد.
وحتى بعد الإطاحة بنظام الشاه، لم يكن بمقدور الإمام الخميني تجاهل ثقل حضور الجبهة الوطنية، ودورها في صناعة تاريخ إيران المعاصر. ووجد من الضرورة، مرحليا وتكتيكيا إشراكها في السلطة، فعين المهندس مهدي بازرقان، رئيس حركة تحرير إيران، رئيسا لأول حكومة تم تشكيلها بعد الثورة، كما عين كريم سنجابي، الأمين العام للجبهة الوطنية وزيرا لخارجية تلك الحكومة، إضافة إلى تعيين أعضاء بارزين آخرين في وظائف مهمة بالجمهورية الإسلامية. وفي مراحل لاحقة، بعد أن تعززت سلطة الملالي بإيران، جرت إزاحة تلك العناصر من مواقعها، واستأثر أتباع الإمام الخميني، بمفردهم بالسلطة.
صاغ الإمام الخميني في المنفى المقدمات النظرية للاستئثار بالسلطة، من خلال مفهوم “الولي الفقيه”، وهو مفهوم مستوحى من الأنظمة الشمولية، ومن التطبيقات السوفييتية، حيث يستأثر الأمين العام للحزب بكل الصلاحيات، ويصبح رئيس الجمهورية، والحكومة ومختلف المؤسسات التنفيذية والتشريعية والقضائية، تحت هيمنته، وتعمل وفقا لتوجيهاته وقراراته. وهو وحده المالك الأوحد لقرار استمرارها أو حلها. الفارق بين الممارستين: الممارسة الشمولية وممارسة الولي الفقيه أن الأولى لا تدعي أنها تستمد مشروعيتها من السماء، أما الأخرى، فتضفي طابع الغنوص والمقدس على نهجها في الحكم. والأولى تقول أن جذورها في باطن الأرض، والأخرى تستمد مشروعيتها، من خارج الأرض.
وبوضع مشروع الولي الفقيه قيد التنفيذ، بعد انتصار الثورة، اضطر الذين حملوا مشروع الدولة الوطنية، المستند على العلاقة التعاقدية، لعقود طويلة، للانحناء أمام العاصفة، والالتحاق بمشروع الولي الفقيه، عل في ذلك بعض العزاء، وتحقيق شيء من الأماني التي حلم بها شعب إيران وهو يناضل ضد الاستبداد. وكان ذلك في حقيقته، هروب إلى الخلف وتوجه مع سير التيار، واختيار للتيه في غياهب التاريخ.
كيف تفككت الجبهة التي صنعت الثورة، وكيف حصل الطلاق بين البازار وقم، وتطورت الأمور إلى ما هي عليه الآن؟ ذلك ما سوف نتناوله في حديث قادم بإذن الله.
cdabcd
yousifsite2020@gmail.com