إيران: صراع الترييف والتمدين

0 182

 

 

آن لنا في هذا الحديث أن ننتقل مباشرة إلى تناول أسباب الأزمة الإيرانية، وهي في اعتقادنا أسباب كثيرة ومركبة، لا تمثل تطورات ما بعد إعلان فوز نجاد بكرسي الرئاسة، سوى جزء ضئيل من قمة جبل جليدي كامن، ينبغي للكشف عنها الغوص إلى قاعدته.

 

إن الأزمة الحالية، هي تعبير عن اختلال في موازين القوة، وصراع محتم بين البنيات القديمة والعصرنة، بين الجمود والحداثة، بين العقل المحافظ، المتمسك بمقولة أن ليس بالإمكان أفضل مما كان، وبين نخب تؤمن أن قانون الحياة هو التطور، وأن الجديد يأتي دائما تحت الشمس. وصراع أيضا بين الحكم المطلق وبين حق الناس في تقرير مصائرهم وأقدارهم.

 

والصراع هذا في طبيعته أزلي، شمل مختلف بقاع الكرة الأرضية، وأدت نتائجه إلى انتقال حاسم في شكل النظم السياسية التي سادت بأوروبا القرون الوسطى، وانتهى بها إلى ما هي عليه الآن. وكما كانت الصراعات الاجتماعية دائما وأبدا تتلفع بتشكيلات اجتماعية وأيديولوجية متزمتة، تمثل السياج الذي يحافظ على شبكة العلاقات القديمة، ويحميها من السقوط، فإنها هنا أيضا، في الأزمة الإيرانية، تأخذ شكل صراع بين مؤسسة كهنوتية، قذف بها من مجاهل التاريخ، تحاول بانتهاج هيمنة “الولي الفقيه”، أن تحكم قبضتها على كافة الأنشطة الاجتماعية، ولتسهم، من خلال الفرمانات التي تسُنها، وأيضا من خلال أجهزة قمعها، في الحفاظ على التشكيلات البطركية القديمة، ولتستمر الماكنة بالحوصان دون تغيير، وبين قوى اجتماعية حية، تسعى للخروج إلى هذا العصر، والتماهي مع حركته وتطوره.

 

وكان الصراع في وجهه الآخر، تعبيرا عن اختلاف في الموقف من تسييس الدين. فكثير من الإصلاحيين الإيرانيين، يشاركهم في ذلك شرائح واسعة من المفكرين يرون أن الدين الحنيف لم يترك نظرية واضحة التفاصيل في الحكم السياسي. وأنه لم يكن للرسالة السماوية، أن تفعل ذلك. لأنه يعني إلغاء للتاريخ وصيرورته. لقد بشر الإسلام بمبادئ تربوية ملهمة للسلوك الإنساني، وترك للناس أن يقرروا في شؤونهم الخاصة، بما في ذلك نظمهم التاريخية العقلية، بما يتسق مع مبادئه العظيمة. وعلى هذا الأساس، ذهب كثير من العلماء إلى أن الأخذ بالنظام السياسي والقانوني للدولة الحديثة لا يتفق مع الإسلام فحسب، ولكنه يحقق المثل العليا التي نادي بها في العدالة الاجتماعية، وتحقيق الحرية والمساواة.

 

حتمت الظروف التاريخية، التي مرت بها إيران قبيل سقوط الشاه، التفاف مختلف مكونات المجتمع الإيراني، حول النظام الجديد. وكانت مؤشرات تهاوي تحالف القوى المتنافرة، قد بدت واضحة وجلية منذ الأيام الأولى لقيام الجمهورية. لكن النظام تمكن من تأجيل مواجهته مع المجتمع الإيراني، بآليات تصدير الثورة، أو الأزمة. لكن المجتمع الإيراني، شأنه في ذلك شأن المجتمعات الإنسانية الأخرى، كان قد تغير. ومع تغيره، تغيرت خرائط وموازين. وكان تراكم التطور، والتغيرات التي تجري في داخل إيران ومن حولها، قد أفرزت حقائق ومصالح ونخب جديدة، بقيت كامنة طيلة العقدين المنصرمين، منتظرة فرصتها التاريخية، مخترقة مؤسسات النظام، وروافده، مستثمرة لحظة توتر الأزمة، وعدم قدرة النظام على احتوائها، كما درج عليه في السابق، لتبدأ الانقضاض على معاقله.

 

إحدى الحقائق التي تسببت في الأزمة الراهنة، هي عدم قدرة النظام على تلبية الحاجات الأساسية لمواطنيه. فإيران التي كان تعداد سكانها، غداة تسلم الملالي للسلطة لا يتجاوز اﻠ 40 مليون نسمة، تخطى تعداد السكان الآن اﻠ 70 مليون نسمة، ربعهم دون سن الخامسة عشرة، وكانت سياسة تصدير الأزمة، ودعم الحركات السياسية الموالية لإيران في الخارج، والمليشيات العراقية الموالية لإيران، على حساب وحدة العراق واستقلاله، من حزب الدعوة والمجلس الأعلى للثورة الإسلامية، قد حصدت جزءً كبيرا من حصة الإيرانيين. فقد كلفت الحرب العراقية الإيرانية، المليارات، التي كان من المفترض فيها أن تصبح رصيدا في خدمة هدف التنمية، وتوفير المصحات والمستشفيات والمدارس وتعبيد الطرق، وإيجاد وظائف للعاطلين عن العمل. لكن ذلك لم يكن متسقا مع سياسة النظام في تصدير أزماته.

 

وجاء الحصار الدولي الذي تعرضت له البلاد ليضاعف من قتامة الوضع ويزيد من أزمة النظام الاقتصادية. كما أضافت النزعة العسكرية، والأطماع الإقليمية لإيران في منطقة الخليج، لتجعل النظام الجمهوري الإسلامي، يتجه إلى ضخ العشرات من مليارات الدولارات، تعزيزا لترسانته العسكرية، فضلا عن المضاعفات السلبية لمشاريع التكنولوجيا النووية، ومواقف القوى الكبرى منها، وفي المقدمة الولايات المتحدة الأمريكية، على الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدولية.

 

كانت جموع العاطلين تزحف نحو المدن، على أمل أن تجد فيها، ما يضمن عيشها، ويسد رمقها. ولم تكن المدن الإيرانية: طهران ومشهد وأصفهان وشيراز، في وضع يسمح لها بتقديم أي عون للجموع الزاحفة، فقد ناءت هي الأخرى بأثقالها، من جوع وفساد وإهمال للبنياتها التحتية. وفي ظل الوضع الجديد، وجدت هذه المدن نفسها محاصرة بأحزمة من بيوت الصفيح، بما يستتبع ذلك من ظواهر سلبية، لعل أبسطها تصاعد معدلات الجريمة، وانتشار ظاهرة المخدرات، وتزايد أعداد اللصوص بأرقام فلكية، وانهيار شامل وغير مسبوق في منظومة القيم الاجتماعية.

 

لقد انتقل الصراع التاريخي، بين الريف والمدينة، بين بقايا الإقطاع والتشكيلات التجارية الحديثة إلى القلب من المدن الكبرى. وحين حطت جموع الفقراء والمعدمين رحالها في المدن، نقلت معها تكويناتها الاجتماعية الأولية وثقافاتها اللاجمة لبناء الدولة الحديثة. وفي واقع كهذا، تفشت ظاهرة المحسوبية، والعصبيات الفئوية والمذهبية، والدينية والعشائرية. ومع هيمنة العلاقات البطركية على السلطة، وانحيازها الواضح ضد التحديث والتجديد، والترييف المتسارع للمدن الرئيسية، وتناقض مصالح الطبقة التجارية، تضاعفت الأزمة، وتفككت الجبهة الموالية للنظام، ليخرج من رحمها عناصر جديدة، من حيث ارتباطها بقيم التغيير ومنطلقاته.

 

لقد انقسمت الطبقات الاجتماعية المتنفذة في السلطة إلى شريحتين رئيسيتين: شريحة بقيت على ولائها “للولي الفقيه”، مستمدة قوتها الاقتصادية وثرواتها من حق الإمام. وهذه الشريحة ترى في أي تغيير تهديدا مباشرا لموقعها ولمصالحها، وشريحة أخرى، نمت في ظل النظام، ولكنها استغلت وجودها قريبا من قمة هرم السلطة، لتؤسس علاقات تجارية دولية واسعة، خارج إيران. رأت الأولى في نفسها وريثا شرعيا، للثقافة الدينية التقليدية، وأقامت تحالفاتها بقوة في الأرياف، حيث التخلف والسحر والشعوذة والعداء للعلم، وحيث الولاء لرأس الجماعة، بينما ركزت الشريحة الجديدة على التحديث والتمدين، وأقامت علاقتها مع النخب الاجتماعية الجديدة المتطلعة نحو التغيير. وكان الصراع بين هاتين الشريحتين، هو الوجه الآخر للصراع بين التمدين والترييف، المشتعل الآن في القلب من مدن إيران الكبرى، وهو صراع محسوم في النهاية، بحكم التطور التاريخي، لصالح قوى المستقبل.

 

لم يكن تزوير الإنتخابات وحده الذي أدى للانتفاضة الشعبية، بل كان القشة التي قصمت ظهر الجمل، فقد ضاق الإيرانيون بوعود رجال السياسة، وفقدوا الأمل بتحسن أوضاعهم المعيشية. وقد أدت أوضاعهم المزرية، إلى تآكل شعبية نظام “الولي الفقيه”، فخرجوا إلى الشارع معبرين عن غضبهم وسخطهم، واحتجاجهم على الفقر والبطالة، وأوهام الحكم العادل. هي إذاً، وجه لأزمات تتداخل فيها صراعات عدة: صراع بين الترييف والتمدين، وصراع مصالح، وصراع أجيال، وصراع محافظة وعصرنة، وهي صراعات جديرة بأن نقف عندها في محطات قادمة.

 

yousifsite2020@gmail.com

 

اضف تعليق

اسمك بريدك الالكتروني

 

تعليقك:

تعليقات

 

* تعليق #1 (ارسل بواسطة محمد)

 

لم يكن تحليلك بهذه الدقة فان ايران وفرت الدعم للمجلس الاعلى الا انها كانت تحارب حزب الدعوة وهي التي مزقت حزب الدعوة اما مسالة الصراع ليس هذا السبب بل السبب هو عدم اتساع دائرة الحريات والحقوق في ايران فلو سمحت ايران بمساحة اوسع من الحقوق والحريات لما حصل ما حصل

 

* تعليق #2 (ارسل بواسطة عادل شرف المحامى)

 

لاشك ان الوضع الاجتماعى للمجتمع الايرانى له دخل كبير بما يحدث فى ايران الان ولاشك ان الصراع الطبقى له دور فىذلك ولاشك ان ولايه الفقيه تحتاج الى مراجعه لكن مازالت التجربه الديمقراطيه الايرانيه من التجارب التى يجب ان يتعلم منها العرب وكذلك التجربه اللبنانيه درس التداول السلمى للسطه

 

* تعليق #3 (ارسل بواسطة ابن الاحواز)

 

سيدي الكاتب تحية لك اكتب لك هذا التعليق لاقول لك نعم كل ما كتبت عن ايران هو صح ولكن لن تذكر عن دور الشعوب في هذه الجغرافية بما تسمى ايران و الاحداث التي حصلت في السنين الاخيرة و الجرائم التي ارتكبتها ايران فيها لتتفاقهم ايضا هذه الاحداث على بعضها البعض و لتكن بركان غضب لتنزل على الفرس المحتلين و بان هذه الشعوب تبحث عن حق تقرير مصيرها للخلاص من الاحتلال الفارسي حيث ان الاحوازيين و في عام 2005 في الانتفاضة النيسانية قدموا المئات من الشهداء غير المفقودين و الحجرحى و الاسرى نتمنى من كتابنا العرب بان عندما يتطرقون الى الوضع الايراني يذكرون كل مكونات هذه الجغرافية و حذف وجود ا لشعوب و دورهم الهام انه اجحاف في حقهم مع تحياتي لك مرة اخرى سيدي الكاتب

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

اثنا عشر − 3 =


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.

د.يوسف مكي