إيران: صراع الأجيال
ولم تكن إيران، رغم محاولات فرض العزلة عليها، بمنأى عن هذه التحولات. فموقعها كمركز تقاطع طرق بين غرب آسيا وشرقها، وقربها من القارة الأوروبية، وتعدد قومياتها وأديانها ومذاهبها، وأيضا كونها بلد نفطي رئيس، تستهلك معظم حاجياتها من الخارج، وتعيش في القلب من العالم، جعلها عرضة لتيارات عاتية، محلية ومحيطة ووافدة.
ولأن ثورات العصر، العلمية التي اختزلت قمتها في الأقراص الناعمة، “السوفت وير” والهواتف المحمولة، والإنترنيت، تمتلك في معظمها، بحكم قوانين التطور، قوة جذب مغناطيسي خاص، بالنسبة للجيل الجديد، جيل الشباب، الذي يشكل الجزء الأكبر من المجتمع الإيراني، فإنها غدت وجها آخر، لناموس الكون.. الصراع الأزلي المحتدم بين الماضوية والمعاصرة، بين التقليد والحداثة، وبين السكون والانطلاق.
وكلما تباعدت المسافات بين العقل المحافظ، ممثلا في الجيل المؤسس للجمهورية الإسلامية، وبين الجيل الجديد، كلما صار الإفصاح جليا أكثر فأكثر، عن مفردات الصراع وعناوينه، بحيث يصبح الصدام حتميا، لا مفر من خوض غماره بين ولي فقيه، يستمد مشروعيته من إرث، تمت صياغته، وفقا لسياقات دولية كانت سائدة، أثناء الإطاحة بالشاه، وبين قوى إصلاحية، تتوق للإسهام، من خلال التعددية وتداول السلطة، في صناعة القرار.
لقد تكشف منذ البداية، أن ثورة إيران استندت على شرعية مزدوجة، دينية وسياسية، عبرت عنها هيمنة الإمام الخميني، على السلطة واستبعاد آيات الله المعروفين الآخرين، من ممارسة أي دور حقيقي في إدارة شؤون البلاد. كان الخميني يستمد مشروعيته ليس من كونه رجل دين فحسب، بل باعتباره قائدا للجمهورية الوليدة. إن هذه المشروعية، حتى وإن بقيت مكفولة دستوريا لورثته، لكنها ليست بذات الثقل الذي حظيت به مشروعية الزعيم الراحل. فخامنئي الذي ورث ولاية الفقيه، كان واحدا ضمن فريق لا يتميز عليه بكفاءة أو بمقدرة. ومشروعيته، التي كفلها الدستور الإيراني، أصبحت موضوعا خلافيا بعد تآكل تركة الإمام الخميني. إن تآكل إرث الخميني، بين الإيرانيين وداخل المؤسسة الدينية، يعني بداهة، تراجع قوة ثقل “الولي الفقيه” لصالح مشروع سياسي يقبل به الجميع. وبالقدر الذي يتراجع فيه دور “الولي الفقيه” يتجه المجتمع أكثر فأكثر نحو المطالبة بإتاحة فرص أكبر للمشاركة السياسية، بما ينسف الأساس التقليدي الذي بني عليه نظام الجمهورية الإسلامية.
إن الأزمة الحالية، في أحد تعبيراتها، هي تمثل لمستوى ولطبيعة الاصطفاف والاستقطاب، بين المؤسسة السياسية والدينية التقليدية، وبين النخب التحديثية، سواء تلك التي خرجت من رحم النظام، أو تلك التي تمثل قوى جديدة وحية من خارجه.
في هذا السياق، يمكننا القول، بقليل من الحذر أن صراع الأجيال “أحد مظاهر الأزمة الحالية”، يتمحور بين ثلاث مجموعات: مجموعة تمزج بين الدين والسياسة، وتتمسك بولاية الفقيه, وتعرف بمجموعة المحافظين، ويقودها خامنئي. وتقف هذه المجموعة خلف نجاد، وتمنحه دعمها وتأييدها، في مواجهة اتهامه من قبل خصومه بتزوير الانتخابات. وتحاول هذه المجموعة استثمار الأحداث الأخيرة، لنيل المزيد من الصلاحيات والسلطات، ومضاعفة سطوتها على الشعب الإيراني.
والثانية، مجموعة علمانية ليبرالية وقومية، تضم حركة تحرير إيران والجبهة الوطنية، ومجاهدي خلق، ينخرط فيها الجيل الجديد من الشباب، المتأثر بتطورات عصره، والذي أثبتت الأسابيع المنصرمة، قدرته الاستثنائية على استثمار هواتف المحمول ومواقع الشبكة العنكبوتية، لاختراق الحصار الأمني والإعلامي المفروض عليه من قبل أجهزة أمن الرئيس أحمدي نجاد. ويساند هؤلاء المرشح المهندس مير موسوي والرئيس الإيراني السابق، محمد خاتمي.
بين فريقي التشدد والليبرالية، تقف قوى إصلاحية دينية، تقر بولاية الفقيه بصفتها إرثا، يجسد المشروعية الثورية الإسلامية، لكنها في نفس الوقت تدعو إلى توسيع دائرة المشاركة الشعبية عبر الانتخابات الحرة. ويتزعم هذا الفريق، رئيس مصلحة النظام، هاشمي رفسنجاني، ورئيس مجلس الشورى السابق، مهدي خروبي. ومع تصاعد المعارضة، والمواجهة الشرسة بين أنصار نجاد والمعارضة، يقترب هذا الفريق رويدا رويدا من الموقف الليبرالي.
وإذا كان استمرار الحال من المحال، بمعنى استحالة استمرار الأوضاع في إيران على ما هي عليه، فإن سقوط “تشكيلة المحافظين” عاجلا أم آجلا هو الاحتمال الأقرب. وسنكون في حالة تحقق ذلك، ما لم تحدث مفاجئات أخرى، أمام أحد احتمالين: إما انتصار التوجه الليبرالي العلماني، بما يعني نهاية الثورة الإسلامية، وقيام نظام سياسي جديد على أسس وضعية وتعاقدية. أو انتصار مجموعة الإصلاحيين الإسلاميين – رفسنجاني وخروبي، وذلك سيخلق حالة من الانفصام، أو ما يمكن أن نطلق عليه مجازا بالمأزق التاريخي، حيث يستمر بقاء النظام، كما هوالآن، في عنق الزجاجة، فلا هو بقادر على التيه مجددا في التاريخ الغابر، وليس بمقدوره الخروج إلى الفضاءات الرحبة، والنتيجة الكارثية هي قيام نظام استبدادي غير قادر على استلهام روح العصر.
المؤكد أن الانتفاضة مستمرة، رغم مرور أكثر من شهرين على تفجرها. ورغم أن حصاد المواجهات قد تعدى العشرات من القتلى ومئات الجرحى، فإن خطها البياني، يتصاعد يوما بعد يوم. وتتكشف عبقرية الجيل الجديد كل يوم عن اكتشافات جديدة لكسر حالة الحصار المفروض على حركتهم، رغم قيام السلطات الإيرانية بحجب المواقع وإغلاق الصحف. ويستخدم الشباب الإيرانيون موقع يوتيوب لنشر أشرطة الفيديو، وموقع توتير للمدونات القصيرة، و”فيسبوك”للتعارف، و”فليكر” وجوجل لنشر أخبار الانتفاضة.
ففي هذه المواقع تمت تغطية عملية الانتخابات، وكشف كثير من جوانب التزوير. وتم فضح عمليات القمع التي يتعرض لها المواطنون. ففي موقع يوتيوب تبرز صورة شابة محجبة تركل شرطيا مسلحا يضرب سيدة أخرى، ثم يستدير الشرطي إليها ويضربها بهراوته، وينضم إليه شرطيان آخران يحذوان حذوه. وتظهر صورة أخرى على نفس الموقع شابة إيرانية محجبة بحذاء رياضي، تقف مقابل فريق من رجال الشرطة المدرعين. واحتوى موقع تويتر على شهادات عن حقيقة ما يجري داخل إيران، كما شمل حوارات متلاحقة بين الإيرانيين في الداخل والخارج. كما لعب الهاتف المحمول دورا كبيرا في نقل صور الأحداث إلى الخارج.
إنها معركة تقنية وعلم، وصراع أجيال، جيل عاصر مرحلة تلاشت معالمها، وجيل لا يزال في انتظار الإمساك بناصية مقاديره، وصناعة مستقبله، وهو صراع بين السكون وإرادة الحياة، صراع يتجه حثيثا، بأمل وثقة إلى حيث تتجه حركة التاريخ… إلى أمام.
yousifsite2020@gmail.com