إيران… تصدير الأزمة
عشية انتصار الثورة الإيرانية، تظافرت جل عناصر اللوحة الفسيفسائية، بمكوناتها المتنافرة، التي جرى توصيفها في الحديثين السابقين (للرجوع للحديثين السابقين أضغط هنا 1. 2)، لتجعل منها كتلة متماسكة، تنقض على معاقل نظام الشاه، وتصنع، مع جملة أخرى من العوامل تاريخ إيران المعاصر.
لكن هذه العناصر، المتنافرة، ما كان لها أن تستمر أبدا موحدة، دون خلق أسباب ذلك، كون عنصر التجانس الوحيد بينها، هو اتفاقها على إسقاط الشاه. أما ماعدا ذلك، فليس بينها جامع، أو قواسم مشتركة. فالمشاريع السياسية، التي تبنتها القوى التي ساندت الثورة، تراوحت من أقصى اليسار، ممثلة في ما طرحه حزب توده “الشيوعي”، إلى المشاريع الليبرالية، التي طرحتها الجبهة الوطنية وحركة تحرير إيران، حتى مشاريع الطبقة الوسيطة، طبقة البازار، وهي معنية بالدرجة الأولى بسن قوانين ولوائح تؤمن مصالحها.
في أقصى اليمين، تقف المؤسسة الدينية، التي يقودها الولي الفقيه، الإمام الخميني، وكان مشروعها، مشروع الجمهورية الإسلامية، فضفاضا يحتمل كل شيء، وقابل لكل شيء. ولم يكن رجال الدين، في المؤسسة التقليدية الإيرانية، بشكل عام على وفاق مع نظرية ولاية الفقيه. فقد وجدها عدد كبير منهم غريبة على الموروث الشيعي. وفي المقدمة من هؤلاء آية الله حسين علي منتظري وأية الله علي شريعة مداري، وآية الله محمد طاهر الخاقاني. وكل واحد من هؤلاء له رأيه الخاص فيما يتعلق بشكل الدولة الجديد.
فآية الله منتظري الذي كان قاب قوسين أو أدنى من خلافة آية الله الخميني، انتقد ولاية الفقيه، ورأى فيها، مقدمة لفرض الحكم المطلق. وقد اهتم بمسألة حقوق الإنسان. كما انتقد الاتصالات السرية بين رموز المحافظين الإيرانيين، والكيان الصهيوني والولايات المتحدة الأمريكية، وكان موقفه هذا قد أدى إلى تجريده من مناصبه وعزله واضطهاد أتباعه وأقاربه وتعرض بعضهم للاغتيالات.
أما أية الله علي شريعة مداري، فكان مرجعية دينية إيرانية من نوع مختلف، تبنى إجراء تعديلات جوهرية على النظام الملكي دون اللجوء إلى الثورة المسلحة. ورأى أن الحل الأفضل هو إعلان ملكية دستورية. ورغم أنه بعد قيام الجمهورية الإسلامية أعلن عن تأييده لها، إلا أنه ظل يدعو لقيام نظام ديمقراطي، مما أدى إلى إبعاده عن دائرة الضوء رغم شعبيته الواسعة. في مراحل لاحقة طالب مداري بعودة آيات الله إلى حوزاتهم العلمية وترك شؤون السياسية والاقتصاد لأهل الاختصاص، مع حق مراقبة رجال الدين عن بعد لإدارة الحكم، للتأكد من امتثالها للمبادئ الإسلامية.
أما أية الله محمد طاهر الخاقاني، فهو من عرب المحمرة، اللواء العربي، الذي احتله الإيرانيون عام 1925. وقد ساند الثورة الإيرانية، على أمل أن ينال العرب بعض حقوقهم القومية والثقافية. وحين حدثت انتفاضة بالمناطق العربية، المعروفة بخوزستان، طالبت باعتبار اللغة العربية، لغة رسمية في الجزء الجنوبي الغربي من البلاد، الذي يضم المدن العربية: المحمرة وعبادان والأحواز والحويزة. آنذاك، حدثت مواجهات عنيفة بين الحرس الثوري وبين السكان، ذهب ضحيتها المئات من القتلى والجرحى، استنكر أية الله الخاقاني، تصرف الحرس الثوري، ووقف إلى جانب مطالب السكان العرب. فكان أن فرضت عليه الإقامة الجبرية، وبقي معزولا حتى رحيله إلى العالم الآخر.
كان الإمام الخميني واعيا للمشكلات التي ستواجه نظامه بعد انفضاض المهرجان، بسبب غياب وحدة الرؤية والهدف ضمن القوى التي تحلقت حول مشروع التغيير. كما كان واعيا بسلبيات الفراغ الناتج عن الإطاحة بمؤسسات الدولة، وانهيار المؤسسة العسكرية، الذي تسبب فيه إقصاء قياداتها، وحملات الإعدام والسجون التي تعرض لها رموزها. وكصيغة لتأجيل المواجهة مع هذه التيارات، قرر الاستعانة ببعض الشخصيات البارزة، في التيارات المدنية السياسية، كسبيل لابد منه لعبور مرحلة التأسيس.
تسلم عدد كبير من هذه الشخصيات وظائف مهمة كرئاسة الجمهورية والحكومة والخارجية، من أمثال كالدكتور أبي الحسن بني صدر، والمهندس مهدي بازرقان وكريم سنجابي. وقد تم التخلص لاحقا، وبسرعة لم يتوقعها أكثر المراقبين تشاؤما من تلك الرموز. والواقع أنه لم يكن هناك من مفر، أمام قرار الخميني الاستئثار بالسلطة سوى الإقدام على تلك الخطوات، أو القبول بالصدام ونتائجه.
فعلى سبيل المثال لا الحصر، اصطدمت منذ البداية، التوجهات الليبرالية لأبي الحسن بني صدر أول/ رئيس للجمهورية الإسلامية الإيرانية بعد اندلاع ثورة 1979، مع توجهات آيات الله، رغم أنه حاول التعايش معهم لما يقرب العام ونصف العام، لكن محاولاته باءت بالفشل، وكانت الحرب العراقية الإيرانية التي اندلعت عام 1980 بداية النهاية لفترة حكمه القصيرة، حيث اتهم بالخيانة وتعطيل المجهود الحربي، وأصدر مرشد الثورة الإسلامية قرارا بعزله، وأصبحت حياته مهددة في الأيام القليلة التي تلت ذلك فاختفى عن الأنظار، إلى أن استطاع الهرب إلى منفاه الاختياري في فرنسا.
لم يكن هناك من حل، أمام تشابك المصالح والهويات والمواقف والأيديولوجيات في إيران، أمام الخميني سوى واحد من حلين: إما التنازل عن الاستئثار بالسلطة، والقبول بعلاقات تعاقدية، وبدستور مدني، والتعددية وتداول السلطة، وليس فيه موقع للولي الفقيه، أو خلق عدو خارجي تجتمع الأمة بأسرها حول معاداته. ولما كان الإمام الخميني، قد حسم أمره في موضوع الولي الفقيه، وأصبح التراجع عن ذلك بالنسبة له، تراجعا عن مشروعه برمته، فإن اختياره كان البديل الآخر: زج الأمة بأسرها في مواجهات مستمرة مع عدو خارجي، يتم تفصيله بمواصفات تجعل منه خصما، يقبل بالصدام معه معظم الإيرانيين.
ولم يكن آية الله الخميني في لجوئه لهذا الحل مبتدعا أو مخترعا. فحسب نظريات أسباب الحرب، هناك مستوى من التحليل يرى أن الدول تزج بجيوشها في الحروب عندما تواجه مشاكل داخلية مستعصية على الحل. إن قرار شن الحرب، يتخذ في الغالب من قبل حكومات تواجه مشاكل تداع وتفكك وانهيار، وترى أنه لم يعد لديها ما تخسره من إشعال الحروب. إنها تلجأ للمغامرة، وإصدار الأوامر إلى جيوشها بعبور الحدود، أملا في تحقيق الوحدة الوطنية داخل بلادها، ذلك أن مواجهة التمزق والتمرد والمشاكل الاقتصادية الحادة، والحروب الأهلية، تقتضي إيجاد عدو خارجي مشترك، يلتقي في مواجهته والتصدي لقواته، جميع أفراد الشعب، بحيث تصبح تلك المواجهة، شأنا مقدسا.
تمكن حالة الحرب هذه أيضا، المسؤولين من اتخاذ مختلف القرارات السياسية، بما في ذلك تعطيل اللوائح والقوانين الدستورية، وتأجيل بعض المطالب الملحة، كتحقيق المشاركة السياسية، والدفع بعجلة التنمية، وتأمين متطلبات الخدمات والرعاية الصحية والاجتماعية، كما تمكن الدولة من التصدي للقلاقل والاضطرابات، تحت ذريعة أن مواجهة العدو تقتضي تعليق النظام، وإعلان حالة الطوارئ، وتفرغ الدولة لمواجهة متطلبات الجبهة العسكرية، وتأمين سلامة الجبهة الداخلية.
كيف تم تصدير الأزمة، وما علاقة ذلك بالتطورات التي يشهدها المسرح الإيراني حاليا؟ هذه الأسئلة، وأسئلة أخرى ستكون موضوعا للمناقشة في الحديث القادم.
cdabcd
yousifsite2020@gmail.com
اضف تعليق
اسمك بريدك الالكتروني
تعليقك:
تعليقات
* تعليق #1 (ارسل بواسطة فائق المرهون)
توصيف مسرح الأحداث الايراني من قبل الدكتور يوسف كان رائعا , خاصة أن معظم كتابنا يفتقرون الى الموضوعية والتجرد , بل تغلب عيهم العاطفة المذهبية والدينية الجوفاء ,فهم أمامهلل لنظام ولاية الفقيه بالعمى أو مسفه لحضارة ضاربة جذورها في التاريخ كالحضارة الايرانية ويختزلها في نظام شمولي كنظام الولي الفقيه .
سلمت أبا الوليد ونحن في انتظار ال 10 حلقات القادمة عن ايران .