إعادة الاعتبار للفكر الاقتصادي العربي

56

انطلق الفكر الاقتصادي العربي المعاصر، في بداياته، من موقف سياسي رومانسي، وتأثر بالأحداث التي سادت في المشرق العربي، وخاصة بلاد الشام، ولازم هذا الفكر الحالة العربية، طوال حقبة صعود المشروع القومي العربي. فمشروع اليقظة لم يحمل برنامجاً للنهوض الاجتماعي والحضاري. وقد حال ذلك دون التنبه للاعتبارات الوطنية.
كان بالإمكان أن ينطلق المشروع النهضوي العربي، من الدولة الوطنية إلى الحالة الأعلى، بدلاً من القفز على الواقع. وقد أدى غياب ذلك، إلى عدم التنبه لمعالجة القضايا الوطنية، الذي هو الشرط اللازم للتفاعل والتكامل الاقتصادي والتنسيق بين البلدان العربية، كمقدمة لازمة لتحقيق التكامل الاقتصادي العربي، بين أجزاء صحيحة. وهكذا كانت النظرة السلبية للدولة الوطنية، أول معضلة واجهها الفكر العربي، وكانت من أحد أسباب أزمة الفكر الاقتصادي العربي.

وقد أدى انشغال الفكر العربي، بمواجهة المحتل، منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، وذلك أمر بديهي ولازم، إلى تغييب التراكم النظري والفكري حيال المسائل الاقتصادية الملحة في الوطن العربي.
ركز مشروع النهضة العربية، على الوحدة الاندماجية، بين الأقطار العربية، ولم تبرز بشكل جدي فكرة قيام اتحاد عربي لا مركزي، إلا في مراحل متأخرة، بعد فشل التجارب والمواثيق الوحدوية. وقد ساد تصور عام، أن الاندماج، يعني تماثل الهياكل والأنظمة واللوائح. وكان ذلك ثغرة كبيرة في ذلك الفكر، لأن التطور التاريخي، وتجارب الوحدات السياسية، قد أكد أن نجاح هذه التجارب هو رهن، بوضع الخصوصيات القطرية، في الحسبان.
فليس بالإمكان على سبيل المثال، التعامل مع الزراعة التي تعتمد على مياه الأنهار، كتلك التي تعتمد على المياه الفيضية. وبالمثل هناك الخلل السكاني، والتباين الواسع بين الوفرة والندرة في مصادر الثروة. إن ذلك يعني أن ينطلق الفكر الاقتصادي من موقف علمي وتاريخي، يرى أن قوة الأمة ليس في الاندماج الكلي؛ بل في تحقيق التكامل الاقتصادي. وأن تكرس جهود هذا الفكر، في صياغة برامج عملية وتفصيلية لتحقيق هذا التكامل، بعد أن أثبتت التجربة التاريخية، نجاح المشاريع الاقتصادية التكاملية.
ومن جهة أخرى، عانى الفكر الاقتصادي، حالة استتباع، أعاقت توطينه. وتأثر بعمق بالانقسام الدولي، بين المجتمع الرأسمالي والمجتمع الاشتراكي. وكان من معوقات تطوره.
لقد انقسمت دول العالم الثالث، ومنها الأقطار العربية، في نظمها الاقتصادية، وتحالفاتها السياسية والاجتماعية، وفقاً لتبعيتها لأحد النموذجين. وإذا كانت التجربة التاريخية خير ملهم، فإن الذي لا مراء فيه، أن التطبيقات الكاريكاتورية للنموذجين، أدت إلى مشاكل كبيرة وأعاقت تطور الفكر الاقتصادي العربي.
يضاف إلى ذلك، أن الفكر الاقتصادي العربي، عجز عن متابعة التطورات العلمية، التي برزت في العقود الثلاثة المنصرمة، وأهمها الثورة الرقمية.
لقد كانت الصناعة الثقيلة، إلى ما قبل الثورة الرقمية، غاية المطلب، وأساس الاقتصاد المنتج. وقد تطلب التوجه نحوها، رساميل كبيرة، بما يجعل تحقيق التنمية أمراً عسيراً في البلدان الفقيرة، من غير حضور اقتصاد الأبعاد الكبرى. ولم يكن بمقدور البلدان الفقيرة، توفير مستلزماته.. وقد تزامنت تلك التطورات مع طغيان نمط الاستهلاك على حساب الإنتاج.
جاءت طفرة النفط، وتزامنت مع وفرة في السيولة النقدية، فانغمس الجميع وراء ما يمكن تحقيقه. وحدثت تغيرات كبيرة وواسعة في أنماط حياتنا، وبالتالي في طريقة تعاملنا وأنماط سلوكنا.
وإذا كانت هذه التغيرات الكبيرة، قد حدثت قبل ثورة الاتصالات، وانتشار الهواتف المحمولة، ومواقع التواصل الاجتماعي، فإن ما حدث بعدها من تغير في الثقافة والسلوك هو أكثر بكثير. فكلما أصبحت وسائل الترفيه أكثر توفراً كلما ارتفعت العوازل والفواصل وترسخت الأسوار، وتراجع اكتساب المعرفة، وشيوع هذه الظواهر، تشكل معوقات رئيسية لنجاح التنمية.
وبموجب هذا التطور في نظرة الاقتصاديين العرب، فإن الرؤية التقليدية للنمو الاقتصادي، التي تقاس بالمؤشرات الاقتصادية للنمو، وتحديد حصة الفرد فيها، لم تعد تعكس التطور الحقيقي للمجتمعات.
فمنذ التسعينات من القرن الماضي، بات التأكيد على محورية الإنسان في عملية التنمية، لكن هذا التوجه جنح إلى ما يأمل تحقيقه، وليس إلى كيفية الإنجاز. فالموضوع المطروح في سياق معالجة الأزمة العربية، هو كيفية تحقيق التنمية الشاملة، بكل أبعادها الاقتصادية والاجتماعية.
إن معالجة هذه المعوقات، هي شرط لازم لإعادة الاعتبار للفكر الاقتصادي العربي، ولانطلاقه مجدداً كي يسهم في رسم خطط التنمية والبناء، ولكي يلتحق هذا الجزء من العالم بالحراك الكوني المتجه إلى أمام.

 

التعليقات مغلقة.

د.يوسف مكي