أي عمل عربي مشترك؟!
ننطلق في هذه القراءة، من أن وحدة العمل العربي ليست غاية في ذاتها، بل هي وسيلة، لتحقيق جملة من الأهداف والاستراتيجيات. هذه الأهداف والاستراتيجيات، ينبغي أن تضيف زخما وقوة، للأمة العربية، ولا تأخذ من حصتها. وحين نتحدث عن قيادة/ زعامة للعمل العربي المشترك، فإن المقصود هو تماهي هذه القيادة مع مشروع النهوض، وتفانيها من أجل تحقيقه.
بهذا المعنى، لا يضيف العمل العربي المشترك، قوة للأمة حين يحيد عن أهداف النهوض بالعرب جميعا، ولا يحقق استقلالهم ونماءهم, وفي أقل تقدير، لا يكون العمل العربي مجديا، حين يعجز عن تحقيق الحدود الدنيا، من التضامن، والالتزام بالثوابت والمواثيق التي تسهم في حماية الأمن القومي العربي.
لن يكون العمل العربي المشترك، قوة للعرب، حين تكون من نتائجه، مصادقة القادة العرب، فرادى أو مجتمعين، على الحصار أو العدوان الخارجي، والعمل على تفتيت وحدة بلدان عربية، كما حدث، للأسف عدة مرات في الثلاثة عقود المنصرمة. إنه والحالة هذه عمل ناكص، وبالضد من المصلحة العربية، والمبادئ القومية. وعمل عربي كهذا، هو تكريس لحالة الفصام، بين الشعب العربي وقياداته السياسية.
وبالمثل، يكون العمل العربي المشترك، ناكصا حين يتسق مع ما هو حاصل الآن على أرض الواقع، تجاه القضية الفلسطينية، والمتمثل في تسارع عدد كبير من الأنظمة العربية، نحو التطبيع مع الكيان الصهيوني الغاصب، والتفريط بالحقوق، ومن بينها، حق العودة وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، بالضفة الغربية وقطاع غزة، ومدينة القدس، والذي هو في حد ذاته، تنازلا بات مقبولا من معظم الأنظمة العربية، عن الحقوق التاريخية للعرب في فلسطين. أو حين يتم التوافق على تكريس التبعية وارتهان السيادة والاستقلال والكرامة العربية لصالح قوى خارجية.
العمل العربي المشترك، الذي ننشده، هو الذي يضيف قوة وحصانة للأمة، ويسهم، في أن تأخذ مكانها في عصر كوني وواقع دولي، ليس فيه مكان إلا للأقوياء.
ليست هذه دعوة رومانسية، من قبلنا، لاستنساخ الماضي، فالتاريخ لا يعيد ذاته، ولكنها دعوة للدفاع عن الذات، وعن المصالح والثوابت والحقوق القومية، التي لن تسقط بالتقادم. ولن يكون الحديث مجديا عن الواقعية، للاستسلام وتكريس واقع الحال المتردي الراهن في الأمة. لأن ما حدث في العقود الخمسة المنصرمة، منذ وقفت مدافع معركة العبور عام 1973، لم يكن الخيار الحر للأمة. كما لم يكن خيار الشعب العربي، وهو يمسك بزمام مقاديره، بل كان نتاج جملة من الهزائم والنكسات، وفشل السياسات، وتسلل عوامل العجز والوهن، وهو حال لا يعكس إرادة الأمة، في فتوتها ووعيها، ولن يكون سوى محطة عابرة في التاريخ العربي لها ما بعدها.
وإذا سلمنا أن التاريخ هو أفضل بوصلة، لقراءة المستقبل، فإن الزعامات السياسية التي برزت في التاريخ الإنساني، هي تلك التي حملت هموم شعوبها وأوطانها، والتي جاءت في مرحلة مفصلية صعبة، من حياة شعوبها، فحشدت الجموع، وعبأت طاقات الأمة واستنهضتها، من أجل قهر المستحيل، فصنعت تاريخا ومستقبلا جديدا لأوطانها، يليق بها وبالأجيال القادمة. فاكتسبت حق القيادة، بشجاعتها وإقدامها ووعيها، وقدرتها على قهر الركود والاستسلام، وتحقيق المستقبل الأفضل لشعوبها، وأوطانها.
ومن هنا فإن قيادة الأمة، من قبل قطر عربي أو أكثر، لا تحققها الرغبة، ولا الثروة أو الموارد البشرية، بل المشروع السياسي، الذي يحقق أمال الناس وطموحاتهم. وهو أيضا وليد التفاعل الإيجابي، والقدرة على الخلق والمبادرة، والتعامل بشجاعة ووعي وإرادة مع تحديات اللحظة التاريخية.
كانت تداعيات الأحداث في بداية الخمسينيات قد صنعت من الرئيس عبدالناصر، قائدا متوجا للعرب جميعا. وحين حدثت ثورة 23 يوليو، كانت مبادئها الستة بسيطة وواضحة. ولم يدر بخلد قادتها، أن تكون بداية لتحولات تاريخية كبرى في الواقع العربي. كانت التنمية بين أهداف الثاثرين الجدد. والتنمية اقتضت بناء السد العالي، وتمويل السد العالي، في ظل تلكؤ المؤسسات الدولية عن إقراض مصر، قاد إلى تأميم قناة السويس. والتأميم قاد إلى حصار مصر والعدوان عليها.
ردود فعل الشعب العربي، في كل مكان على الحصار والعدوان، هو الذي خلق الحالة الجديدة، وأعاد توجيه البوصلة المصرية، نحو جغرافيا أوسع، هي الوطن العربي، من الخليج إلى المحيط. امتنع عمال ميناء نيويورك عن تفريغ الباخرة، كيلوبترا، فتضامن عمال ميناء عدن مع مصر، وامتنعوا عن تفريغ البواخر الأمريكية. وفي أيام العدوان، هاجم السوريون المصالح الغربية في بلادهم، وقام جول جمال، الضابط السوري القادم من مدينة اللاذيقية، بعملية استشهادية، فجر فيها بارجة فرنسية. وانتفض الوطن العربي بأسره، في كل مكان من الأرض العربية، تأييدا لمصر، ومناهضة للعدوان الثلاثي عليها. وتلك كانت لحظة تتويج مصر، قيادة للنظام العربي الرسمي، وللعمل العربي المشترك.
في هذا المنعطف من التاريخ، تعاني الأمة العربية، من حروب الطوائف والقبائل والاثنيات، وتشهد بلداننا عربية عديدة، حروبا أهلية. ولم تكن هذه الحروب، في معظمها مجرد صناعة خارجية، بل أسهمت عوامل داخلية، وعربية وإقليمية في تسعيرها، والمستفيد الوحيد من تلك الحروب، هي القوى التي تستهدف تفتيت الأمة، وتمزيق وحدة أقطارها. وعلى الرغم من ذلك، ليس بالإمكان منح شهادة البراءة، في هذا السياق، لأي من الأطراف التي أشرنا إليها، بما فيها الأنظمة العربية، التي ستكون متضررة حتما، في النهاية، جراء انخراطها في التخريب والتفتيت.
وبالتأكيد، لم يكن لهذه الأحداث المريرة، والقاسية، أن تأخذ مكانها، لولا رسوخ شبكة العلاقات الاجتماعية القديمة، وهشاشة الهياكل الاجتماعية، وعجز الأنظمة العربية في البلدان التي تعرضت للخراب والدمار، عن مقابلة استحقاقات الناس.
ليس بوسع أي نظام عربي رسمي، الادعاء في هذه اللحظة بقيادة النظام العربي المشترك، فالقيادة، كما العمل العربي المشترك ذاته، كما أشرنا لها شروطهما الخاصة، ولا تصنعهما القرارات، بل هما من صنع التاريخ، والتدافع الشعبي الملحمي نحو الأهداف والاستراتيجيات.