أي طريق اقتصادي سوف تختاره مصر؟
اليوم، وعند كتابة هذا الحديث خسرت البورصة المصرية نسبة خمسة في المائة، من قيمتها. وأرجع المحللون الاقتصاديون سبب هذا التراجع إلى قرارات حكومية بفرض ضرائب تصل إلى العشرة في المائة سنويا على الأرباح، بالنسبة للمستثمرين المصريين، وعشرة في المائة على أرباح أية عملية تتم في سوق الأسهم، بالنسبة للأجانب. ويأتي صدور هذا القرار، قبل أيام قليلة على الإعلان رسميا عن فوز المشير عبد الفتاح السيسي بموقع رئاسة الجمهورية، والتحضير لحفل التنصيب الذي سوف يؤدي فيه الرئيس الجديد القسم.
يطرح التراجع في سوق المال المصري، والقرارات الحكومية التي تسببت فيه، سؤالا مهما عن الطريق الاقتصادي الذي ستختاره مصر، لمعالجة أزماتها المستعصية، وتحقيق تنمية اقتصادية حقيقية، قادرة على وضعها على السكة الصحيحة. ونطرح هذا السؤال، الذي لا يقصد منه التوجه إلى أحد الطريقين: الطريق الرأسمالي، أو الاشتراكي، ذلك أن الأخير أصبح من الماضي، ولا يتوقع أن يكون مطروحا في هذه المرحلة، على أي أجندة تنموية في منطقتنا. ولكن ذلك لا يعني إمكانية تدخل الدولة في توجيه العملية التنموية وزيادة فعالياتها، بما يخدم المعالجة الممكنة للأزمات الاقتصادية التي مضت عليها عدة عقود.
ستكون الحكومة المصرية المقبلة، التي يتوقع أن تأخذ مكانها بعد الانتخابات النيابية، أمام طريقين اقتصاديين: إما الطريق الاقتصادي الحر، وهو ما دأبت عليه الحكومات المصرية المتعاقبة، منذ عهد الرئيس الراحل أنور السادات، حين جرى تفكيك القطاع العام، وأقر مبدأ الخصخصة. وقد تواصل ذلك في عهد الرئيسين السابقين، حسني مبارك، ومحمد مرسي، بشكل أو بآخر. وهناك طريق الاقتصاد الموجه، الذي استمر قائما، طيلة هذه العقود، ليس كأفق مستقبلي، ولكن بحكم الضرورة، لحين تصفية البقية الباقية من القطاع العام.
بمعنى أخر، شهدت مصر، منذ عهد الرئيس السادات نظامين اقتصاديين، لم يسيرا جنبا إلى جنب بذات القوة والتفاعل، ولكن كان هناك خط بياني متجه إلى الأسفل، هو خط الاقتصاد الموجه، وخط بياني صاعد إلى الأعلى هو خط الاقتصاد الحر. وكانت كل القرارات والإجراءات تشير إلى الرغبة في تصفية مخلفات الاقتصاد الموجه، والتوجه حثيثا نحو الاقتصاد الحر، وأن وجود الاقتصاد الموجه مسألة وقت.
ومن جديد يطرح السؤال: أي طريق اقتصادي ستختار مصر، اهو اقتصاد حر أم اقتصاد موجه؟
ينبغي التقرير أولا أن لكل طريق اقتصادي مزاياه وسلبياته، والمسألة إذا ستكون متعلقة بهذه المرحلة، وبأيهما يكون مرجحا، بما يهدف أهداف التنمية وحل المعضلات التي تواجهها مصر، وهي كثيرة ليس أقلها الانفلات الأمني وشيوع ظاهرة الإرهاب، والانفجار السكاني، وبلوغ البطالة مستوى غير مسبوق، وتصاعد مديونية مصر، وارتفاع معدلات الجريمة، وفقدان المأوى، وانتشار العشوائيات، في المدن الكبرى. وتصاعد نسبة الأمية، واتساع الفروق بين الغنى والفقر…
الاقتصاد الحر، يعني الاقتصاد المفتوح، الذي تقيد فيه سلطة الدولة على الاقتصاد، وتفتح أبواب التنافس الاقتصادي على مصراعيها، منسجمة مع مقولة “دعه يعمل”. وإيجابياته، أن يبقى العلاقة حميمة مع الغرب، الذي يحرض على تبني هذا النوع من الاقتصادات. وسوف يفسح الطريق لاستمرار المعونة الامريكية، ويتيح لمصر الاقتراض من صندوق النقد الدولي، وربما يسهم في توفير مناخات تساعد على تلقى الدعم في صيغة منح وقروض من الاتحاد الأوروبي. وسوف يبقى الأبواب مفتوحة للمساعدات من قبل المملكة ودول الخليج العربي. وربما يسهم في تدفق بعض الاستثمارات الخليجية والآسيوية والغربية. وهو أيضا، سيجعل من مصر عضوا متقيدا، بأهم شروط ومتطلبات منظمة التجارة الدولية.
لكن سلبياته كثيرة، وعلى رأسها أنه لا يوفر أي سقف لحماية الصناعات الوطنية. ويمكن أن نجادل أن مصر، قد جربت هذا النوع من الاقتصادات، في العقود السابقة، وفي ظل أربعة رؤساء سابقين، ولم يؤدي ذلك إلى حل أي من المعضلات الاقتصادية. بل إن نتائجه على الصعيد المحلي، هو غياب التنافس، إن من حيث النوع أو السعر، بين المنتجات الوطنية، والمنتجات الوافدة، سواء من الشرق أم الغرب.
وفيما يتعلق بالاستثمارات الأجنبية، فإن ذلك ممكن على الصعيد النظري، لكن ما جرى في العقود الماضية، لا يؤيد ذلك. فالاستثمارات الأجنبية تختار من الفرص، ما هو سهل ومريح ومربح، ولذلك تركزت أنشطتها على القطاعات الخدمية، والسياحية، ولم تسهم في حل أي من المعضلات المستعصية التي تواجه مصر، فكانت النتيجة أنها استنزفت من ثروات مصر وخيراتها، من غير أن تقدم لها شيئا يستحق الذكر. يضاف إلى ذلك أنها وضعت سيادة مصر، واستقلالية قرارها رهينة لدى القوى الدائنة، ورسخت نوعا من التبعية الاقتصادية والسياسية، بما جعل البلاد منقوصة السيادة، وانعكس ذلك بشكل مباشر، على موقفها من الصراع العربي الصهيوني، منذ توقيع معاهدة كامب ديفيد، حتى يومنا هذا.
بالنسبة للاقتصاد الموجه، له أيضا إيجابياته وسلبياته. فهو يتيح قدرا كبيرا من قيادة الدولة للعمليات الإنتاجية، والسيطرة على الفعاليات الاقتصادية. ولا شك أن ذلك هو مبعث خشية وخوف من رأس المال الأجنبي، الذي تنطبق بحقه بكل وضوح مقوله أن رأس المال جبان. كما أن سياسات الاقتصاد الموجه تتعارض في كثير من ممارساتها، مع متطلبات صندوق النقد الدولي، والسياسات الاقتصادية الغربية، بما يحرم مصر، من القروض والهبات، في وقت هي أشد ما تكون فيه للحصول عليها.
سيكون البديل في هذه الحالة، هو الاعتماد على القدرات الداخلية، وتحفيز الاقتصاد المحلي. ولن يكون بالمستطاع مقابلة حاجات الناس وتلبية استحقاقاتهم، إلا بزيادة الضرائب، بشكل تصاعدي، بما يهدد التوافق الاجتماعي، وربما يؤدي ذلك إلى هروب رؤوس الأموال الأجنبية والمحلية. لكن ذلك، ومع كل سلبياته، ربما يتيح للدولة، قيادة عملية التخطيط الاقتصادي، بما يسهم في تحديد الأولويات في خطط التنمية، ويجنب الاقتصاد مخاطر الفوضى. ولا شك أن النجاح في البناء الاقتصادي الذاتي، سيمنح مصر قدرة الاحتفاظ على قرارها السيادي، ويضمن استقلالها، ويحد من تبعية سياساتها للخارج.
أي طريق ستختار الحكومة المصرية القادمة، سؤال صعب محكوم بالقدرة على اختيار أي من الطريقين، ولعل الموازنة الدقيقة بينهما، هي الحل الأمثل، على الأقل في هذه المرحلة، التي تتهيأ فيها مصر مجددا، للدخول إلى التاريخ، من أوسع بواباته.