أوروبا فوق فوهة بركان
في مساء السبت الماضي، أعلنت وزارة الخارجية الروسية، وقف صفقة الحبوب، التي عقدتها مع أوكرانيا، بوساطة تركية. وقد جاء هذا القرار، بعد تعرض شبه جزيرة القرم، لأكبر هجوم أوكراني، بمسيرات مخففة، منذ بدء العملية العسكرية الروسية الخاصة، في شباط/ فبراير الماضي, ويأتي الهجوم الأوكراني، والهجمات الروسية، استمرارا للتصعيد العسكري الروسي المكثف والواسع النطاق، الذي أعلن عنه، إثر إقدام أوكرانيا على تفجير الجسر الذي يربط شبه جزيرة القرم بروسيا.
تزامن إعلان وقف روسيا لصفقة الحبوب مع أوكرانيا، باعلان روسي، عن ضلوع بريطانيا، في تفجيرات على خطوط أنابيب الغاز في بحر البلطيق، المعروفة برود ستريم. كما اتهمت لندن أيضا، بالمساعدة، من خلال خبراء بريطانيين مختصين، في التحضير لهجوم أوكراني بالمسيرات على القرم على “خليج سيفاستوبول” مقر أسطول البحر الأسود، والذي أدى إلى تضرر سفينة هي جزء من اتفاق صفقة تصدير الحبوب الأوكرانية.
تأتي هذه الأحداث وسط، فوضى سياسية وأزمة تضخم اقتصادي تعم القارة الأوروبية، نتجت عن العقوبات التي فرضتها إدراة الرئيس الأمريكي، جوزيف بايدن على روسيا، وألزمت حلفاءها الأوروبيين بالالتزام بها. وكان من نتائجها سقوط حكومتين بريطانيتين، بعد ستة أسابيع فقط، ووصول ريشي سوناك، من أصول هندية، لرئاسة الحكومة، إثر استقالة ليز تراس عن رئاسة الحكومة بعد فشلها في معالجة الأزمة الاقتصادية الحادة التي تمر بها البلاد. ولا يبدو في الأفق أن سوناك سيكون قادرا على إنقاذ بلاده من أزماتها الاقتصادية، طالما استمرت الحرب في أوكرانيا، وبقيت أزمة تصدير الطاقة والحبوب من روسيا وأوكرانيا على حالها.
في السويد تمكن اليمين المتطرف من الوصول إلى سدة السلطة، ليتبع ذلك، انفراجة كبرى لليمين، بالقارة الأوروبية، بفوز جورجيا ميلوني في الانتخابات التشريعية، وتسلمها لرئاسة الحكومة في إيطاليا. إن وصول ميلوني إلى السلطة هو انتصار للفاشية الجديدة، التي تعود لحكم البلاد، للمرة الأولى، بعد هزيمة إيطاليا في الحرب العالمية الثانية، عام 1945م.
وفي فرنسا، تتواصل الإضربات عن العمل والحركة الاحتجاجية، منذ أكثر من شهر، وتعلن حكومة إمانويل ماكرون جهارا عجزها عن إيجاد حلول عملية للأزمة الاقتصادية الحادة التي تمر بها بلاده.
يتبارى القادة الأوروبيون، ولأول مرة منذ وقت طويل، في توجيه اتهامات مباشرة للولايات المتحدة الأمريكية، في التسبب بالإزمات التي تمر بها بلدانهم. ويتفوق الرئيسان: الألماني والفرنسي، وهما قادة أقوى دولتين أوروبيتين على الصعيد الإقتصادي، في هذا المجال. ومن جهة أخرى، يشتد التلاسن والاتهامات مباشرة، بين القادة الأوروبيين أنفسهم، في وقت تتصاعد فيه النزعات والعصبيات القومية. فأين نضع هذه التطورات في خانة التحليل؟!
لقد أثبت التطور التاريخي، أن النظام الرأسمالي، يظل وفيا للحرية الاقتصادية، ومبدأ دعه يعمل، طالما كان بمنآى عن الأزمات. أما حين يصطدم هذا النظام بأزمات مستعصية، أيا كانت أسبابها، فإن الدولة التي يفترض فيها أن تكون بعيدة عن التدخل في الشؤون الاقتصادية وتوجيه حركتها، سرعان ما تقفز فوق تنظيراتها وممارساتها، وتتحول إلى ما يقترب من الأنظمة الشمولية، من حيث تدخلها المباشر في شأن السوق، والخروج على إنجيل آدم سميث الموسوم ب”ثروة الشعوب”.
إن ما يحدث الآن في القارة الأوروبية، من تحولات سياسية كبرى، لمصلحة اليمين، تعيد إلى الذاكرة، الأزمة الاقتصادية التي شهدتها هذه القارة عام 1928م، والتي تحولت لاحقا إلى أزمة عالمية. لقد أدت تلك الأزمة، إلى بروز ادولف هتلر في ألمانيا، وبينيتو موسوليني في إيطاليا، وفرانيسكو فرانكو في أسبانيا، وانطونيو سالازار في البرتغال، وجميعهم وصلوا إلى السلطة في أوقات متقاربة، والتزموا بنظام سياسي متشابه، يمكن أن تكون الفاشية قاسمه المشترك. وكان من أحد نتائج وصولهم للحكم اندلاع الحرب العالمية الثانية.
لم يكن لهذه الأنظمة الديكتاتورية، أن تصل مجتمعة إلى السلطة في بلدان أوروبا، وفي أوقات متقاربة لولا الأزمة الاقتصادية التي عصفت بالقارة منذ أواخر العشرية الثالثة من القرن العشرين. ويمكن أن نشير في هذا السياق، إلى وصول حزب العمال إلى الحكم في نهاية الستينيات من القرن الماضي، بعد أزمة اقتصادية حادة مرت بها بريطانيا، كان من نتائجها الإعلان عن الانسحاب البريطاني من شرق السويس، وتحديدا من الخليج العربي، وـتأميم الكهرباء وسكك الحديد، وصناعات كبرى أخرى.
إن ما يجري الآن، من صعود واضح، وكاسح لأحزاب اليمين في عموم القارة الأوروبية، هو استحضار لما جرى، قبيل الحرب العالمية الثانية، وكان ردة فعل لأزمات اقتصادية عاتية. فهل سيعيد التاريخ ذاته، وتفتح أبواب الجحيم مرة أخرى، انطلاقا من أوروبا في حرب مدمرة، لا تبقي ولا تذر.
د. يوسف مكي
التعليقات مغلقة.