أهمية ملء الفراغ الفكري لهزيمة التطرف
يكاد يمضي يوا، إلا ونسمع ردود أفعال دولية، تطالب بضرورة صياغة تحالف عسكري دولي لمناهضة الإرهاب. وبالنسبة للبلدان العربية، فإن نصيبنا من الإرهاب، هو حصة الأسد، حيث تعاني معظم البلدان العربية، من نتائجه. فقد كان من حصاده الباهر، فقدان أربعة أقطار عربية
عربية، استقلالها وكياناتها الوطنية، افتقدت شعوبها أمنها واستقرارها، وأصيبت في أملاكها وأعراضها. وقد تسببت حالة الفوضى والخراب، في هروب أكثر من عشرين مليون عربيا، من محارق الموت، وباتوا بحكم المشردين، خارج أوطانهم.
ومنذ بداية انتشار الإرهاب في منطقتنا العربية، بعد عودة المجاهدين” من أفغانستان، وبشكل خاص بعد حوادث 11 سبتمبر 2001م، بالولايات المتحدة الأمريكيةة، وما تبعها من احتلال لأفغانستان والعراق، صدرت مئات الدراسات التي تحاول تفسير هذه الظاهرة. وقبل الكثير عن أسبابها. وما قيل في هذا السياق معروف، لا حاجة لنا في هذا الحديث القصير بتكراره.
لكن المؤكد، وأيا تكون أسباب انتشار ظاهرتي التطرف والإرهاب، أن من يستقطب الشباب اليافعين لهذه المحرقة، وبغض النظر عن موقفنا من سلوكه، هو فرد يملك من المؤهلات الفكرية والنفسية، ما يجعله قادرا على استقطاب الآخرين، بمنهجه وطريقته، إقناعهم بأن يكونوا جنودا أو وقودا للمحرقة. وهو هنا بطريقته، يبرز في مخيال الشباب اليافعين، الذين يدفع بهم لمحرقة الموت، قائدا كارزميا ومثلا أعلى، يحتدا به. وما كان بالإمكان تحقق ذلك، وانتشار هذه الظاهرة المحزنة، لولا غياب المثل الأعلى للفكر التنويري، الذي ينافح من أجل شيوع للسلم الاجتماعي وللحفاظ على أمن الأوطان واستقرارها.
هناك فراغ كبير، في عموم الساحة العربية، على كل الأصعدة، تسبب فيه ما يمكن أن نطلق عليه مجازا بنهاية عصر النجوم. فالفترة التي أعقبت نهاية الحرب العالمية الأولى كانت زاخرة، على امتداد الساحة الدولية، التي نحن جزء منها، بنجوم سياسة، ونجوم حرب، ونجوم فكر، ونجوم فن، تمثيلا وإبداعا وأدبا وغناء، وفنون تشكيلية، ونجوم الرياضة.
على الصعيد السياسي، والعسكري والفكري، والفنون برزت أسماء لامعة. وفي الفنون، دخلت هوليود بقوة، في صناعة الأفكار وتوجيه الذوق. وبرز فنانون مبدعون، شعراء وروائيون وكتاب ورسامون على مستوى عالمي. في الوطن العربي، كان التنافس محتدما بين الفنانين في المشرق، من مصر وبلاد الشام. وبرزت أسماء لامعة في الطرب والمسرح ودور العرض. والقائمة في هذا السياق طويلة.
لقد كانت المرحلة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، مرحلة نجوم بامتياز. وكان لكل فرد من هؤلاء مريدين ومؤيدين وأتباع ومشجعين، كل حسب أنشطته. وكان الصراع بين الشباب، لا يحتدم حول الأفكار بين المثقفين، أما البقية فينقسمون في مواقفهم وراؤهم، حول بقية الأنشطة الإنسانية، التي بزغت في العقود الماضية، وبمن يجسدها.
في المدارس المتوسطة، كما في المدارس الثانوية والجامعات، انقسم الشباب، على قاعدة انحيازهم وتشجيعهم، لهذا المبدع أو ذاك. وبين المثقفين العرب، حضرت بقوة أفكار سارتر وكامو ودوفوار. لم يكن هناك فراغ بين الشباب. فالكل محكوم بموقفه وهواه. والحال هذا ينسحب على تأييد القادة والسياسيين. وكان تأثير الحرب الباردة بارزا في تلك الانقسامات، وأيضا على كل الأصعدة.
في الأربعة عقود، بهت عصر النجوم، وتزامن ذلك مع تنامي ما عرف بالصحوة الإسلامية من جهة، وقيام الثورة الإسلامية في إيران. وتزامن هذا البهوت بثورات علمية واسعة في مجال الاتصالات والبيولوجيا، والتكنولوجيا الرقمية. غاب الكاريزما والمثل الأعلى، والمبدع النموذج، وانتهى ما عبرنا عنه “بعصر النجوم”. ومع الغياب تراجع اليقين. وسادت في أوساط الشباب حالة من الضياع. وبدأ الشباب رحلة البحث عن يقين، يقيهم من حالة الفراغ والاغتراب. ولم يعد بد، من العودة إلى الموروث، فالأمة حين تواجه بحالة انهيار، كما يقول المؤرخ البريطاني، أرنولد توينبي، تستمد مقاومتها من إرثها. فهو الحائط المنيع في مواجهة الغربة. وساهم في التوجه، احتلال الشيوعيين لأفغانستان، مما أطلق جذوة الإيمان بضرورة مواجهة الكفر، في دار الإسلام.
ولأن الاندفاع كان عاطفيا وقويا نحو التطرف، حيث ساد اعتقاد لدى هؤلاء الشباب، بأنه الدواء العليل، للقضاء على حالة الضياع والغربة، لم يعد هناك مجال للتأمل والتفكير، وقراءة التاريخ، وإدراك استحالة استنساخ الماضي، لأن لكل زمن شروطه وأدواته الخاصة. والنتيجة هي ما شهدناه من تعول تنظيمات التطرف والإرهاب، الموجهة أساسا، ضد السلم الاجتماعي، وعموم المنطقة من تكفير المجتمع، وفقا لتنظيرات سيد قطب في “معالم على الطريق”.
الوطن العربي، بأسره يعيش حالة ضياع وغربة، بلغت سلبياتها حد مصادرة الأوطان، والقضاء على الهويات الوطنية. وضحاياها في أقل تقدير أكثر من عشرين مليون مهجر عن أوطانهم، عدى ألاف الضحايا، ممن سقطوا بفعل محارق الموت.
إن ذلك يلقى على المثقفين المستنيرين مسؤولية التصدي للفراغ، وإيجاد مخارج عملية، تضيف طاقات هائلة جديدة، وسط الشباب. وتشع على عموم بلادنا العربية، بحيث تسهم في عملية ملء الفراغ، الذي تعيشه البلدان العربية، الفراغ الذي كان من نتائجه المريرة، فقدان السيادة والحرية والأمن والاستقرار في بلدان لا يستهان بدورها في مشروع النهوض العربي.