أمريكا وتركيا وأحداث شمال العراق

0 244

لم يعد سرا تورط الإدارة الأمريكية بالأحداث التي تأخذ مكانها الآن في شمال العراق. فهذه الإدارة هي التي أعطت ضوءا أخضر للحزبين الكرديين الرئيسيين المتنافسين: الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة السيد مسعود البرزاني، والإتحاد الوطني الكردستاني بزعامة السيد جلال الطالباني، لإيواء عناصر حزب العمال الكردستاني، ولتتخذ من مناطق الحدود الشمالية العراقية منطلقا لها للهجوم على القوات التركية. ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل بلغ حد تأسيس مقرات رئيسية ومعسكرات تدريب لمقاتلي حزب العمال، تحت سمع وبصر قوات الاحتلال الأمريكي. فلماذا شجعت الإدارة الأمريكية الأكراد المنشقين على التحرك من شمال العراق؟ ولماذا تغير موقفها لاحقا بعد قرار الحكومة التركية اجتياح الأراضي العراقية لمطاردة المقاتلين الأكراد؟. هذه الأسئلة، وأخرى ذات علاقة، ستكون موضوع مناقشتنا في هذا الحديث.

 

ولعل من الأهمية، أن نذكر بأن جذور العلاقة بين تركيا، والولايات المتحدة بشكل خاص، والدول الغربية بشكل عام، تمتد عميقا إلى نهاية الحرب العالمية الأولى، ونجاح حركة الإتحاد والترقي، بزعامة كمال أتاتورك في الوصول إلى السلطة عام 1923م، وإعلان إلغاء الخلافة العثمانية، وقيام جمهورية تركية على النمط الأوروبي الحديث.. ويعتبره كثير من الأتراك، أتاتورك مؤسسا لتركيا الحديثة، ورمزا للتقدم والإصلاح في تاريخها. وكان أثناء رئاسته لتركيا قد وضع كل ثقله للحيلولة دون قيام كيان كردي في جنوب شرق بلاده.

 

وبالنسبة للدول الغربية، فإن أتاتورك حقق لها، من خلال النظام السياسي الذي أشاده، ما عجزت عن تحقيقه بقوة السلاح. فخلال الخمسة عشرة عاما التي تولى السلطة فيها، تم تغيير هياكل الدولة القديمة، وجرى تبني قوانين وضعية تقوم على فصل الدين عن الدولة، وإقامة نظام علماني، شمل طريقة الحكم، والتعليم، ومنح حقوقا متساوية للمرأة، وغير الأحرف الأبجدية من العربية إلى اللاتينية. وقد مهدت هذه التغيرات الهيكلية الجذرية لقيام تحالف تركي غربي، طويل الأمد، بدأ بقوة بعد الحرب العالمية الثانية، واستمر حتى يومنا هذا.

 

حين انتهت الحرب العالمية الثانية، عام 1945م، بدا واضحا أن العالم يستعد لقيام نظام دولي جديد يستند على الثنائية القطبية. وعلى هذا الأساس انشطر العالم إلى كتلتين رئيسيتين: كتلة الدول الرأسمالية، بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، وكتلة الدول الإشتراكية بزعامة الإتحاد السوفييتي. وكانت تركيا قد اختارت اللحاق بالكتلة الغربية. وكان موقعها الإستراتيجي قد جعل منها حليفا مدللا بالنسبة للدول الغربية، خاصة بعد اندلاع الحرب الباردة. فعلى شمالها، يقع مباشرة الغريم السوفييتي. وإلى الجنوب والشرق منها تقع إيران والعراق، الدولتان النفطيتان، بأهميتهما الاستراتيجية، باعتبارهما محطتين رئيسيتين للعبور إلى الشرق.. إلى أفغانستان والهند، وباكستان والصين… وإلى الغرب يقع الجسر الموصل إلى القارة الأوروبية، عبر مضيق الدردنيل، وحيث يشكل هذا المضيق ممرا استراتجيا للأساطيل والبوارج العسكرية، والسفن المحملة بالبضائع من وإلى الإتحاد السوفييتي. وفي الجنوب الغربي تقع سوريا، بأهميتها كطريق بري تجاري، موصل إلى الأردن، والكيان الصهيوني، والجزيرة العربية، وصولا إلى اليمن.

 

هذه الأهمية الاستراتيجية قد وضعت تركيا في القلب من معظم المشاريع التي تبناها الغرب في المنطقة التي عرفت بالشرق الأوسط. كان حضورها جليا في مشروع أيزنهاور لملء الفراغ في منتصف الخمسينيات، وكان واضحا في حلف بغداد، ولاحقا في حلف المعاهدة المركزية، السنتو. وأصبحت عضوا فاعلا في حلف الناتو، الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية.

 

وحتى أثناء الصراع التركي- اليوناني، حول حقوق الأتراك القبارصة، وقفت الإدارة الأمريكية، علنا على الأقل، على الحياد، رغم القيمة التاريخية والاعتبارية للحضارة اليونانية في الثقافة والمواريث الأوروبية، ورغم كون اليونان الحديثة حليفا استراتيجيا راسخا للغرب.

 

لقد انعكست العلاقات الغربية الاستراتيجية مع تركيا، على علاقة الأخيرة بالكيان الصهيوني الغاصب. حيث ارتبطت معه بعلاقات عسكرية واقتصادية متينة. وبلغت هذه العلاقات ذروتها في عهد الرئيس التركي، طورغوت أوزال الذي قدم عام 1989 مشروعا لنقل المياه من تركيا إلى إسرائيل. وكانت تركيا، في عهده، قد انفردت بتبني سياسة أحادية الجانب، دون التشاور مع حكومتي سوريا والعراق، وخلافا للقانون الدولي المتعلق باستخدام مياه الأنهر، فشيدت سدودا ضخمة على ضفاف نهر الفرات، كان سد أتاتورك هو الأضخم بينها. وأثناءها قارن أوزال بين امتلاك العرب للنفط وامتلاك بلاده للمياه، وأبلغ أن بلاده ستتحكم في الثروة المائية كما يتحكم العرب بالثروة النفطية. وحين حدثت حرب الخليج الثانية، إثر غزو العراق للكويت، دخلت تركيا الحرب إلى جانب الحلفاء. وقد أشارت مصادر تركية إلى أن أوزال كان يريد استثمار نتائج الحرب لضم مدينتي الموصل وكركوك إلى بلاده، وأنه أصدر أوامره بالفعل إلى رئيس الأركان نجيب طورومتاي بالاستعداد للتدخل العسكري من أجل تحقيق ذلك، لكن معارضة رئيس الأركان، ورفض رئيس الحكومة يلديريم قبولوت، لهذه الخطوة حال دون تحقيق طموحات أوزال، وأوقفت العملية..

 

وحين انطلق حزب العمال الكردستاني، وباشر عملياته العسكرية ضد الأتراك، كان طبيعيا أن تقف الإدارة الأمريكية منه موقفا معاديا، وأن تساند حكومة تركيا في مواجهتها لهذا الحزب. فحزب العمال، من الناحية النظرية، يتبنى الأديولوجية الماركسية اللينينية، وهي ذات العقيدة التي تتبناها الدولة السوفييتية، والصين الشعبية، والكتلة الإشتراكية، وتقف الحكومات الأمريكية المختلفة بالضد منها، ولذلك اعتبرت مواجهته عسكريا، من قبل تركيا، جزء من الحرب الباردة المستعرة بين الأمريكيين والسوفييت. وهو من جهة أخرى، يمارس الإرهاب والعنف المسلح ضد دولة حليفة، في مسعى لتأسيس دولة كردية في جنوب شرق تركيا، لم يكن مقرا وجودها آنذاك، من وجهة النظر الدولية والإقليمية. وعلى هذا الأساس، لم يكن من المستغرب أن تساهم وكالة الإستخبارات الأمريكية مع الأتراك في تعقب زعيم الحزب، عبدالله أوجلان، وأن يجري بالتعاون مع السي أي ايه إلقاء القبض عليه في نيروبي، لينقل إلى تركيا، حيث يقضي حكما بالمؤبد في أحد سجون أزمير.

 

نستطيع القول أن العلاقة بين الغرب وتركيا استمرت قوية وثابتة ومستقرة، لفترة طويلة وأن قضية فلسطين والعراق، والعلاقة التركية الإسرائيلية، التي بلغت مستوى استراتيجيا في عهد أوزال، هما الندوب التي بدأت تحدث شروخا مرئية في تلك العلاقة. لقد بدا ذلك واضحا في نمو التيارات الإسلامية، وفي وصول نجم الدين أربكان إلى رئاسة الحكومة، وفي دعم الشعب التركي لانتفاضة أطفال الحجارة، وفي المظاهرات التي عمت تركيا احتجاجا على استمرار الحصار الأمريكي المفروض على العراق.

 

كان احتلال العراق، عام 2003م، نقطة انتقال فاصلة في العلاقة الأمريكية- التركية. فقد صوت البرلمان التركي، ضد مشاركة تركيا بالحرب، وعمت المظاهرات المدن التركية الرئيسية احتجاجا على العدوان الأمريكي على العراق، وكانت المواقف التركية سلبية من العملية السياسية التي نفذتها الإدارة الأمريكية في العراق بعد احتلاله، وبخاصة ما ورد في لائحتي الدستور والفيدرالية. وكان طبيعيا أن لا تمر مواقف تركيا، تجاه السياسات الأمريكية، في العراق والمنطقة، دون عقاب.. وكان إعطاء حزب العمال الكردستاني قواعد ومقرات في شمال العراق، في أربيل ودهوك هو أول الغيث في العقوبات الأمريكية لتركيا.

 

وردت تركيا على تلك الخطوة بالإعلان صراحة بأنها لن تسمح بإقامة دولة كردية في شمال العراق، وبأن ضم كركوك إلى “إقليم كردستان” هو خط أحمر. ورد الأمريكيون بالمضي قدما بالعملية السياسية. في هذه الأثناء، كان الاحتقان الشعبي التركي، تجاه السياسات الأمريكية المتحيزة للكيان الصهيوني يتزايد يوميا، وكانت معالم التعاطف مع حقوق الشعب الفلسطيني، تبرز في صور وأشكال مختلفة، آخرها تخطيط عدد من الجمعيات الأهلية التركية لاحتضان مؤتمر عالمي يعقد في العاصمة التركية، بمنتصف الشهر القادم، نوفمبر عام 2007 لنصرة القدس.

 

واستمر صراع الديكة، غير المعلن بين تركيا وأمريكا لاحقا، حيث صدر قرار الكونجرس الأمريكي، غير الملزم، بتقسيم العراق الذي رأى فيه بعض المراقبين معاقبة أخرى لتركيا، وتهديدا لمصالحها القومية وأمنها الوطني. وجاء القرار الأخير، بتحميل تركيا مسؤولية ارتكاب جرائم إبادة إنسانية بحق الأرمن، وتصاعد عمليات جيش حزب العمال الكردي، لتصب الزيت في النار، ولتجعل الحكومة التركية تتخذ قراراتها الأخيرة، باجتياح الشمال العراقي، وملاحقة المتمردين الانفصاليين الأكراد.

 

ولا شك أن الحكومة التركية قد اتخذت حساباتها بدقة متناهية، ونفذت مشروعها في وقت تجد الإدارة الأمريكية فيه نفسها مشلولة، تنوء بحمل قضايا كثيرة، تجعلها غير قادرة على فعل أي شيء. وقد جاءت تصريحات المسئولين في الإدارة الأمريكية الأخيرة، بأن قواتهم المتواجدة في العراق، قد سلمت الملف الأمني للحكومة الكردية، وأنها ليست مسئولة عن صيانة أمن شمال العراق لتؤكد دقة حسابات الحكومة التركية وصواب قرارها من الناحية العسكرية واللوجستية.

 

ما هي أسباب الموقف الأمريكي الأخير الممالئ للأتراك؟ وكيف ستكون الأوضاع قريبا في المسرحين السياسي والعسكري بمنطقة الصراع؟ ذلك ما سوف نركز عليه في مناقشتنا بالحديث القادم بإذن الله

 

cdabcd

 

yousifsite2020@gmail.com

 

اضف تعليق

اسمك بريدك الالكتروني

 

تعليقك:

تعليقات

 

* تعليق #1 (ارسل بواسطة المحامي وليد البياتي)

 

ان هتاك لعبه كبيره لا يعلمها الا الامريكان حيث يستخمون حزب العمال ورقه ضغط على تركيا ويستخدمون الاترك ورقه ضغط على الاكراد في شمال العراق واني ارى وهذه وجهه نضري ان الاوضاع ستحل بالطرق الدبلوماسيه بتسليم قيادات حزب العمال وسيقى خيار الحرب قائما فيما اذا لم يقوم الاكراد بتسليم قيادات حز العمال

 

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

واحد × 1 =


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.

د.يوسف مكي