أمريكا والديمقراطية الموعودة

0 208

في برنامج النادي السياسي للمحطة العربية الإخبارية الـ أي إن إن، قبل أسبوعين من الآن، كان موضوع الحديث يدور عن نوايا أمريكية لتغيير الخارطة السياسية في منطقة الشرق الأوسط، وأن ذلك سيشمل إسقاط عدد من النظم العربية، وسيمثل عصرا جديدا للشعوب العربية، حيث ستسود قيم الحرية الغربية وسوف تدخل المنطقة بأسرها إلى مرحلة تحقيق الديمقراطية من أوسع أبوابها.

 

والواقع إن مثل هذا القول لم يقتصر على هذه الفضائية وحدها، بل أصبح شائعا تردده مختلف القنوات الفضائية ومجموعة من الصحف والمجلات العربية ووسائل الإعلام الأخرى المقروءة والمسموعة. ومع أنه جرى تناول هذا الموضوع في حديث سابق، لكن الإلحاح على تكرار ترديده من قبل وسائل الإعلام العربية، ووجود يقين يبدو راسخا لدى بعض النخب، أن التغيير قادم لا محالة، وأن العم سام، سوف لن يوقف حربه على الإرهاب إلا بكنس التخلف وإشاعة الحرية والديمقراطية، كل ذلك دفعنا إلى معاودة الحديث عن هذا الموضوع والتركيز على محاور أخرى لم يتضمنها حديثنا السابق الذي نشر، في هذا الموقع، تحت عنوان أمريكا وتحقيق الديمقراطية في المنطقة.

 

وابتداء، يجدر التمييز بين ممارسة الديمقراطية، من قبل الدول الغربية، في المركز الأم وبين موقف تلك الدول منها عندما يتعلق الأمر بممارستها في دول العالم الثالث، التي يشكل الوطن العربي جزءا لا يتجزأ منها.

فلقد برزت الديمقراطية في الغرب كتعبير حقيقي عن التطور الكبير والمذهل الذي حصل في تلك البلدان إثر دخولها الثورة الصناعية. وكان التوجه إلى الحكم الديمقراطي في مجمله تعبيرا عن تحولات اجتماعية فرضت نفسها، ومضت عليها حقب طويلة من الزمن، كما كان انعكاسا لتطورات تاريخية ولتوازنات القوة وحتمية التعايش السلمي بين الطبقتين الاجتماعيتين المؤثرتين في اتخاذ القرار: الطبقة الرأسمالية والطبقة المتوسطة العليا. وهكذا جاءت التطورات اللاحقة لتعكس القسمة بالتراضي، القبول بتبادل السلطة في غالب الأحيان أو التحالف حين يستعصي الأمر على إحدى هاتين القوتين في الفوز بمفردها بصناديق الاقتراع. ولذلك فلا عجب أن يكون في الولايات المتحدة الأمريكية حزبان رئيسان يمثلان الطبقتين المهيمنتين هناك، فيمثل الحزب الجمهوري الطبقة الرأسمالية ويمثل الحزب الديمقراطي الطبقة المتوسطة، كما يمثل المحافظون في بريطانيا الطبقة الأولى بينما يمثل حزب العمال الطبقة المهيمنة الأخرى. ويكاد يكون الحال متماثلا في بقية الدول الصناعية الغربية.

 

أما حين يتعلق الأمر برؤية الدول الغربية لشعوب العالم الثالث، فيمكن القول إنها رؤية مغرقة في عنصريتها. إنها باختصار، ترى أن هذه الشعوب متخلفة ولا تستطيع النهوض بذاتها، وإنها بحكم تكوينها السياسي والثقافي غير مهيأة تاريخيا لتأسيس المجتمع المدني والقبول بالنظام الديمقراطي، كما أن ظروفها وعاداتها وتقاليدها تجعل من المستعصى عليها التعايش مع منظومة القيم الغربية. وأنه والحال هذه، لا بد من نظام دكتاتوري يقود هذه المجتمعات نحو التنمية والتحديث. وقد وجد بين المفكرين الأمريكيين، مثل ألموند باول و سيدني فيربا وسيمويل هينتنجتون من نظر لذلك، حيث طرح هؤلاء في بعض دراسات لهم نشروها في الستينيات من القرن الماضي، مفهوم التنمية من الأعلى.

 

وتجسد الالتزام الغربي بهذه الرؤية، في قيام علاقات حميمية وقوية بين الأنظمة الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، وبين أنظمة ضالعة في التفرد والدكتاتورية والاستبداد. والأمثلة على ذلك كثيرة، يمكن الإشارة إلى العلاقة مع نظام فان ثيو في فيتنام، والحرب الأمريكية في تلك البلاد التي أدت إلى إلحاق هزيمة عسكرية بالجيش الأمريكي نتج عنها مقتل أكثر من خمسين ألفاً وجرح ما يزيد على ربع مليون من الجنود الأمريكيين. وليس ببعيد عن الذاكرة انقلاب سوهارتو في إندونيسيا على النظام الديمقراطي الذي كان يقوده الرئيس أحمد سوكارنو أحد أقطاب كتلة عدم الانحياز، الذي رتبت وتعاونت معه وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية وتسبب في مقتل خمسمئة ألف من المواطنين الإندونيسيين واعتقال ما يربو على خمسة ملايين. وقد تكرر هذا الحادث في تشيلي، حين أطاحت وكالة الاستخبارات الأمريكية بالتعاون مع الجنرال العسكري، بيونوشية بالحكم الديمقراطي الذي كان يقوده الرئيس سيلفادورالليندي، وتسبب الحادث في اغتيال الرئيس المنتخب وحدوث إعدامات واسعة واعتقال ما يزيد على خمسين ألفاً. وقائمة التدخل الأمريكي في الشؤون الداخلية لبلدان العالم الثالث والإطاحة بأنظمتها المنتخبة ديمقراطيا طويلة، وحدثت في بلدان كثيرة مثل جواتيمالا والدومينيك وبوليفيا وبنما وفنزويلا وغانا والكونجو…

 

وحين نأتي إلى التبشير الأمريكي بالديمقراطية، في الوطن العربي، فإنها تبدو غريبة ومغرقة في سذاجتها وسطحيتها، ومن السهل على أي نظام عربي اكتساب الشرعية وصفة الديمقراطية، وضمان القبول به أمريكيا في حالين. الحال الأولى: أن يقبل بالشروط والمفاهيم الإسرائيلية، فيما يتعلق بالوصول إلى حل للصراع العربي- الصهيوني، وأن يتجانس مع الرؤية الصهيونية لمشروع الشرق أوسطية الذي يجري العمل، على قدم وساق، من أجل إحلاله بديلاً عن النظام العربي الذي ساد منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. والحال الثانية: أن يقبل الحاكم العربي بالهيمنة الأمريكية على مقدرات البلاد وثرواتها، ويوافق على عمليات السطو والنهب التي تمارس، من قبل الغرب، بحق خيرات الوطن العربي وموارده.

 

إنه من الصعب على المرء أن يتصور قيام أي مشروع ديمقراطي حقيقي لا يتلازم مع فكرة التحرر الوطني ولا يضعها في سلم الأولويات، ولا يشترط خروج قوات الاحتلال الأجنبي بأشكالها كافة من أرضنا العربية كأمر سابق على تحقيق دولة المؤسسات والتعددية.

 

ومع أننا لا ندافع بأي شكل من الأشكال عن أنظمة التسلط والاستبداد، ولا نبرر مواقفها، لكنه لا مفر من الاعتراف بأن وجود هذه الأنظمة هو انعكاس لواقع موضوعي في مجتمعنا العربي. والأزمة كما نراها، هي أزمة بنى وهياكل. وعلى هذا الأساس، فإن مواجهة قضية الاستبداد لا تأتي بتغيير حاكم وإحلال آخر مكانه، بل يجب أن ترقى إلى تفكيك وجود هذه الظاهرة، كقضية بنيوية ووعي محتواها الثقافي والاجتماعي. فنحن بصراحة، أمة تفرخ طغاة، وإزاحة طاغ من هؤلاء الطغاة ليس هو الحل الجذري للمعضلة، وإنما التوصل إلى جذور هذه الظاهرة، ومعالجتها بعد تفكيكها وفهمها.

 

ويطرح السؤال بحدة عن المحتوى الزمني الذي يمكن أن تستغرقه عملية التفكيك هذه وصولا إلى حدوث تغير جوهري وجذري، لاسيما أن الأمة مضى عليها دهر طويل، وهي تعيش وضعا مزريا وكبتا غير مقبول. وجوابنا على ذلك، أن هذا الكلام جميل حقا، لو كانت جحافل التغيير واقفة تدق الأبواب، وأنها تريد فعلا نقل المجتمع العربي من حال إلى حال. لكن الحقائق، كما بدت جلية وواضحة ومؤلمة، أن القوات الأمريكية التي قامت باحتلال العراق لم تنطلق من واحات الديمقراطية، بل انطلقت من بلدان تحمل الثقافة ذاتها والمفاهيم التي نحملها جميعا، وربما من مناطق أكثر تخلفا.

 

وكان بالإمكان أيضا، التسليم بصدق النوايا الأمريكية المعلنة، لو لم يكن السجل الأمريكي زاخرا ليس فقط بدعم الطغاة، بل في استقدامهم وتنصيبهم. ولعل إسقاط حكومة الدكتور محمد مصدق الوطنية الإيرانية المنتخبة شعبيا، وإعادة الشاه محمد رضا بهلوي من العراق إلى إيران عن طريق انقلاب قادته المخابرات الأمريكية بالتعاون مع الجنرال زاهدي خير مثال على ذلك.

 

إن الديمقراطية الحقيقية لن تقوم إلا على سواعد أبناء الوطن العربي أنفسهم. والمخرج كما نراه للخروج من النفق، لن يكون حلا سحريا، أو سطوا أجنبيا على وطن، بل هو مرتبط إلى حد كبير بتقوية الهياكل الاجتماعية، وقيام نظام اقتصادي مستقل، وبناء مؤسسات إنتاجية، والدخول مباشرة في تأسيس منظمات المجتمع المدني. وهذه أمور، لم تقبل بها الدوائر الإمبريالية من قبل، وقد ووجهت محاولات الخروج من النفق بحروب عنيفة شنتها الامبراطوريات الغربية التقليدية، واستطاعت أن تعطل مشروع محمد على باشا ومشروع عبد الناصر في مصر. وفي العراق، كانت عملية الاحتلال موجهة بشكل مباشر، ضد مشروع الحداثة الذي كان من الممكن أن يتبلور من خلال التطور العلمي والتصنيع الذي حدث في ذلك القطر، الذي كان من المفترض فيه أن يؤدي إلى بروز قوى اجتماعية جديدة قادرة على تغيير النظام، وتحويله من واقعه الشمولي إلى نظام ديمقراطي تسود فيه مؤسسات المجتمع المدني، بدلا من واقع الخراب والتمزق والتشرذم وبروز النزعات الطائفية والعرقية التي تعم العراق الآن. editor@arbrenewal.com

 

 

د. يوسف مكي

تاريخ الماده:- 2003-05-28


التعليقات:

ماجد من السعودية

أعتقد ان معادلة الديمقراطية، معادلة بلا حل في بلادنا وذلك لسببين:

الأول: الديمقراطية لا تستورد بعلب جاهزة.

الثاني: لا يبدو ان في بلادنا أي تجربة ديمقراطية على مدى التاريخ، لذلك لا تشكل الديمقراطيةركيزة أو هماً اجتماعياً/ثقافياً

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

عشرين + اثنان =


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.

د.يوسف مكي