أسئلة المجتمع المدني

5

 

في هذا الحديث نناقش قضايا مهمة وملحة. تتعلق بماهية المجتمع المدني، و الأدوار المنوطة به. في هذا السياق، نشير إلىى أن مفهوم المجتمع المدني قد استخدم بمدلولات سياسية واجتماعية، وإنه أيضا تعبير وافد ليس المقصود منه تقرير ما إذا كانت هناك تجمعات بشرية في بقعة ما من الكرة الأرضية، وأن هذه المجموعة اضطلعت بدور هام في صناعة الإمبراطوريات والحضارات التي سادت عبر التاريخ حتى يومنا هذا. إن المقصود على وجه الدقة هو القيمة التي يضفيها وجود هذه الكتل البشرية على صناعة القرار السياسي، وصياغة توجهات الدولة. وعلى هذا الأساس، يتحدد عمق أداء المجتمع المدني من خلال إسهاماته المباشرة وغير المباشرة في العملية السياسية برمتها.

 

ولعل من الجدير ذكره أن الفلاسفة اليونان، وفي مقدمتهم أرسطو هم أول من استخدم تعبير المجتمع المدني في أدبياتهم. ففي كتابه (السياسة) ناقش أرسطو دور المجتمع الأثيني في صناعة القرار. لكن أرسطو، على أية حال، كان ينطلق من واقع موضوعي وموقف تاريخي، جعله يقسم المجتمع الأثيني إلى عدة شرائح، يقصر تعريف المجتمع المدني على شريحة واحد فقط من ذلك المجتمع، هي طبقة الأشراف والنبلاء.

 

في الثورات الاجتماعية الحديثة الكبرى، وبخاصة الثورتين الفرنسية والإنجليزية تطور مفهوم المجتمع المدني ليشمل شرائح أوسع، ولكنه أبقى على نظام العبودية، ولم يتم تجاوزه إلا مؤخرا، بعد معركة تحرير العبيد التي قادها أبراهام لينكولن في أمريكا الشمالية، والتي كانت في أحد أوجهها تعبيرا عن أفول مرحلة الإقطاع، وانطلاق مرحلة التصنيع في أوروبا وأمريكا. وخلال هذه المرحلة أنيط بمؤسسات المجتمع المدني تقاسم السلطة، على أسس طبقية ومهنية ودينية وحرفية. وأعلن الدستور الفرنسي لأول مرة أن الناس يولدون أحرارا، وأنهم أمام القانون متساوون في الحقوق والواجبات.

 

في الثورات الاشتراكية، بهت دور مؤسسات المجتمع المدني، بالمفهوم الليبرالي طبعا، وأصبح الحزب الطليعي هو الذي يضطلع بمهام قيادة المجتمع والدولة. واقتصر دور الاتحادات المهنية والنقابية والطلابية وبقية المؤسسات على أن تكون تابعة للحزب، وبالتالي للدولة. ومن خلال تغييب دور هذه المؤسسات، وتحويلها إلى أنساخ كاريكاتورية مشوهة، وغيبت الحريات السياسية.

 

هكذا فحين نتحدث عن مجتمع مدني، لا نتحدث عن مفهوم ساكن غير خاضع لقوانين التطور والحركة، بل عن تشكلات اجتماعية فرض وجودها التطور التاريخي، وأصبح من غير الممكن على صانع القرار تخطي أدوارها.

 

لكن هناك سؤالاً آخر لا يقل أهمية، يلح على جواب، هل إن دور مؤسسات المجتمع المدني هو دائما إيجابي، ويصب في خدمة التطور والتنمية؟ أم إن الأمر يحتمل غير ذلك؟والجواب يحتمل كثيراً من التفسير والتأويل، وهو أيضا رهن لشروط موضوعية، ومنوط أيضا بطبيعة الدور الذي تمارسه هذه المؤسسات.

 

ولكيلا نذهب بعيدا في التنظير، سنأخذ على سبيل الأمثلة لا الحصر، دور بعض مؤسسات المجتمع المدني في الولايات المتحدة الأمريكية. ويمكن أن نقسم هذه المؤسسات إلى عدة فئات، تشكل مجتمعة قوة الضغط على صانع القرار، ولها دورها الذي لا يستهان به في الوصول إلى سدة الحكم.

 

فهناك قوة الضغط العملية articulate group وتضم كبار الموظفين، وهؤلاء لهم تأثير مباشر على صناعة القرار، وهناك مجموعة المصالح Interest group وتضم الاتحادات المهنية كاتحاد عمال سكة الحديد، وعمال النفط ومناجم الفحم، ومزارعي القمح وبقية الاتحادات المهنية الأخرى. وهناك أيضا قوى ضغط أخرى، تتبنى الدفاع عن حقوق إثنية ودينية، يأتي في مقدمتها الدور الكبير الذي تضطلع به المؤسسة الكنسية، واللوبي الصهيوني (الإيباك) في صناعة القرار. وليس سرا، أنه منذ عهد الرئيس هاري ترومان في نهاية الأربعينيات حتى يومنا هذا، وربما باستثناء الرئيس آيزنهاور، لم يتمكن مرشح أمريكي للرئاسة من الوصول إلى سدة الحكم دون مباركة اللوبي الصهيوني، وبمساعدة ودعم من قوى ضغط أخرى.

 

إن النقطة الجديرة بالتسجيل هنا هي أنه في ظل سيادة مؤسسات المجتمع المدني، فإن من المتوقع أن تتحلق كل شريحة اجتماعية بعضها حول بعض، سواء تكونت على أساس طبقي أو حرفي أو ديني أو إثني. إن المهمة الأساسية لهذه الشريحة هي الدفاع عن منتسبيها، وليس عن المجتمع بأسره. ومن هنا تضيع حقوق الطبقات الدنيا التي لم تنتظم بعد في عملية تأسيس المجتمع المدني، ويصادر دورها.

 

لقد أدرك عدد من المفكرين خطورة هذا الجانب على عملية صناعة القرار السياسي، فعالجوا ذلك بالدعوة إلى تأسيس أحزاب سياسية، مهمتها طرح البرامج الشاملة، لتطوير المجتمع بشكل أفقي، بحيث تشمل نتائج خطط التنمية القاعدة العريضة من الجمهور. وهكذا تجري العملية الانتخابية على أساس برامج حزبية يتنافس عليها المرشحون، سواء في انتخابات المجالس النيابية أو الاقتراع على الرئاسة.

 

في الولايات المتحدة، مرة أخرى على سبيل المثال، هناك حزبان رئيسيان يتنافسان على الحكم منذ أكثر من قرن هما الحزب الجمهوري والحزب الديمقراطي. الأول يمثل الكارتلات النفطية وملاك البيوت والطبقة الرأسمالية، والثاني يمثل الطبقة المتوسطة. وبالإمكان عند إدراك ذلك، منذ اللحظة الأولى القول إن الأول يدعو إلى خفض الضرائب، وتقليل المصروفات على الخدمات الاجتماعية كالسكن والتعليم والعلاج، وإن فترة حكمه في العادة تكون مصحوبة بانكماش اقتصادي، في حين يدعو الآخر إلى نقيض ذلك تماما، إلى زيادة في الضرائب وإنفاق، وزيادة في عدد موظفي الدولة، وزيادة في الإنفاق على الخدمات والتأمينات الاجتماعية، من صحة وتعليم وسكن.

 

هنا يبدو أن شريحة ثالثة مغيبة تماما عن العملية الانتخابية وعن برامجها، رغم أنها نظريا مشمولة بهذه العملية، هي الشريحة الدنيا في المجتمع. وهذه بحكم طبيعة تكوينها الاجتماعي وأوضاعها الطبقية، لا تملك من المؤهلات المالية والعملية ما يجعلها قادرة على التنافس للوصول ببرامجها إلى سدة الحكم. وهكذا في أعرق الديمقراطيات يتم تداول السلطة بين شريحتين الأولى في أعلى سلم الهرم الاجتماعي والثانية في الوسط منه، ويغيب دور الشريحة الدنيا في الهرم، وهي الشريحة الأعرض والأعظم. وفي طغيان الصراع بين هذه الشرائح، يبهت دور الحزب السياسي، وتصبح برامجه مجرد أصداء لإرادات وافدة من هاتين الشريحتين.

 

وهكذا تصبح العملية السياسية برمتها في كل الحالات في أوضاع لا تحسد عليها، فالمجتمع المدني إما مهمش تماما كما هو في الأنظمة المحافظة والشمولية، بحيث يصبح القائد الفرد أو الحزب الطليعي هو البديل عن مؤسسات المجتمع المدني، أو تلعب هذه المؤسسات دورا حرفيا، يكسب فيه الصراع إحدى الشرائح الاجتماعية، وتغيب فيه حقوق الشرائح الأخرى، ويبهت دور البرنامج السياسي والتنموي الشامل، لتحل محله برامج فئوية، تختزل المجتمع في مصالحها الذاتية ونزعاتها الأنانية، وتغيب حقوق المجتمع بأسره.

التعليقات مغلقة.

د.يوسف مكي