أزمة دارفور: تجسيد آخر للضعف العربي

0 225

منذ بدأ الحديث عن أزمة دارفور في العام الماضي، وأنا أقاوم رغبة ملحة بتناول هذا الموضوع. ولذلك مجموعة من الأسباب، يأتي في مقدمتها عدم اطلاعي على مظاهر الأزمة وأسبابها، بالشكل الذي يتيح لي الحديث بيقين عن الأسباب التي أدت إلى بروزها المفاجئ والواسع على شاشات التلفاز. وكانت المعلومات الأولية التي نمت إلى مسامعي عن صراعات قبلية، وتناحر على الكلأ والماء قد جعلتني أشعر بأن الأزمة لا تعدو أن تكون جزءا واستمرارا، لنواميس الطبيعة، فحيث تتواجد الكائنات الحية في مكان تقل فيه المياه ويشح فيه الطعام ومصادر العيش الأخرى، يوجد الصراع والتناحر. وكانت تلك النتيجة سببا آخر لمقاومة الرغبة في الحديث عن هذه الأزمة.

 

لكن الأيام كانت حبلى بالكثير من الأحداث، فسرعان ما جرى تصعيد الأزمة، وانتقلت من قضية سودانية محلية إلى أزمة تحظى باهتمام دولي واسع، وأصبح الكل يتبارى في إعطاء التصريحات، وإبداء الاستعداد للتدخل من أجل نصرة الشعب الدارفوري المظلوم، والذي يتعرض لعنصرية عربية مقيتة وحملات إبادة جماعية مريعة من قبائل الجنجويد. وكان للإدارة الأمريكية شرف السبق، كعادتها دائما، في إثارة النعرات وتعميق الفرقة، وكان الخيار هذه المرة أن يكون ذلك بين السودانيين. ومع تصاعد الأزمة، توصلت إلى نتيجة مفادها أنه لا بد مما ليس منه بد، وهكذا خضعت أخيرا، دون مقاومة.

 

حاولت، قدر الإمكان، أن أفهم ما يجري، وذهبت إلى الصحف والمواقع الإلكترونية، ومحطات التلفزة، علني أستطيع أن أتوصل إلى نتيجة، تجعلني هذه المرة، أصطف مع المدافعين عن حقوق الإنسان، على الطريقة اليانكية، فكانت لي جولة مع موقع الـ بي بي سي، واخترت عينات عشوائية، رغبت أن يشاطرني القارئ الكريم في الإطلاع عليها. وكان سبب الاختيار واضحا، فلم أكن أرغب في أن تلصق بي تهمة التحيز ضد السلوك الإنساني والمتحضر للغرب في كل مرة. وكانت العناوين صارخة وغلابة. وفي المقدمة من تلك المانشيتات جاء ما يلي: دارفور تشهد أسوأ أزمة إنسانية في العالم. ورئيس الوزراء البريطاني، توني بلير يعد خططا لإرسال قوات إلى السودان. وإدانة عناصر من ميليشيا الجنجويد، ومنظمة العفو الدولية تقدم شهادات عن الاغتصاب في السودان، وتأخير وصول المساعدات الدولية لدارفور، جماعة سودانية متمردة تعلن الاستيلاء على مدينة بالغرب، واختطاف موظفين للأمم المتحدة بدارفور، واتهام القوات السودانية باستهداف المدنيين، ومنظمة العفو الدولية تتهم السودان بانتهاك حقوق الإنسان.

 

وتتوالى المانشيتات لتتضح الصورة أكثر فأكثر: وزير الخارجية الأمريكي كولن باول يحث الخرطوم والمتمردين على التوصل إلى اتفاق.. النفط وراء أي غزو محتمل للسودان.. الأمم المتحدة تحشد جهود العالم لمساعدة اللاجئين… المتمردون غاضبون من تأجيل محادثات السلام السودانية.. بريطانيا مستعدة لإرسال قوات إلى السودان… الأمم المتحدة تحذر من تخريب جهود الإغاثة الدولية… لاجئو السودان في تشاد “في أمس الحاجة” للمعونات… المساعدات المقدمة للاجئين السودانيين غير كافية… عقبة جديدة في محادثات سلام جنوب السودان… قصف سوداني “لمخيمات اللاجئين في تشاد”… السودان يفرض حظراً للتجوال في ولايتين غرب البلاد… تعثر المحادثات حول السودان في كينيا… تحذير من تفاقم الأزمة الإنسانية في دارفور… أوروبا تهدد بفرض عقوبات على السودان… السودان يحذر من إرسال قوات أجنبية إلى دارفور.. باول يتهم الخرطوم بدعم الميليشيات العربية في دارفور… الكونجرس الأمريكي يصف أزمة دارفور بأنها “إبادة”.. واشنطن تتعهد بمواصلة الضغط على السودان بشأن دارفور.. متمردو دارفور يهددون بالانسحاب من محادثات السلام.. واشنطن تمهل الخرطوم أياما لإنهاء أزمة دارفور.. السودان يتعهد بنزع أسلحة الميليشيات في دارفور.. تشكيك في تعهد الخرطوم بتخفيف أزمة دارفور.. الخرطوم تتعهد باستعادة الأمن والنظام في دارفور.. لاجئو دارفور يرحبون بباول.. باول يطالب السودان بإنهاء الهجمات في دارفور.. باول في السودان لبحث أزمة دارفور.. قلق دولي على الأطفال في دارفور.. مفوضية حقوق الإنسان تتبنى قرارا بشأن دارفور.. الخرطوم تنفي تسليح الميليشيا العربية في دارفور.. تقرير دولي يدين انتهاكات حقوق الإنسان في دارفور… واشنطن تلمح إلى انتهاك الخرطوم الهدنة في دارفور.. جامعة الدول العربية تطالب بمنح الخرطوم وقتا لحل أزمة دارفور.. عنان يحذر السودان حول الوضع في دارفور.. واشنطن تمهل الخرطوم أياما لإنهاء أزمة دارفور.. واشنطن تلمح إلى انتهاك الخرطوم الهدنة في دارفور.. باريس تعارض فرض عقوبات على السودان.. طرح مشروع قرار بشأن دارفور في مجلس الأمن.. إعدامات جماعية في غرب السودان.. أنباء عن فظائع جديدة في دارفور.. الاتحاد الأوروبي يزيد الضغوط بشأن دارفور.. قمة الدول الثماني تدعو لإنهاء العنف في دارفور.. عنان يحث البشير على تسوية أزمة دارفور.. الأمم المتحدة ترسل بعثة إغاثة إلى السودان.

 

وحين انتهيت من قراءة هذه المانشيتات، حضرت للتو صورة الحملة الإعلامية التي شنتها الإدارة الأمريكية على العراق، في السنوات التي سبقت العدوان عليه واحتلاله. أسلحة دمار شامل، ومقابر جماعية واستخدام للأسلحة الكيماوية، وعلاقات مع القاعدة، وتهديد للمصالح الأمريكية، وعدم تعاون مع الأمم المتحدة، ورفض لتطبيق قرارات الأسرة الدولية، وموقف بريطاني تابع، وغموض وانقسام في المواقف الأوروبية وضعف عربي رسمي في مواجهة العربدة الأمريكية.. والقائمة طويلة. ولفت نظري شيء غريب، هو أن الحديث عن الأوضاع بالسودان انتقل فجأة من الجنوب، حيث يواجه السودان، منذ عقود، محاولات للانفصال عنه، إلى الغرب، في منطقة دارفور، حيث الحدود مع تشاد.. وتساءلت عن سبب هذا الانتقال المفاجئ، وكيف تحولت الإدارة الأمريكية فجأة من الحديث عن الحقوق القومية والدينية للشعب في جنوب السودان، إلى حقوق المتمردين في دارفور، وجاء الجواب من الصحف البريطانية ذاتها، من الإندبيندانت والجارديان والتايمز، والـ بي بي سي أيضا. فهناك أنبوب نفطي يتجه من تشاد إلى البحر كلفته 200 مليون دولار. وهناك نفط في المنطقة المحاذية للحدود التشادية مع السودان، وهناك أيضا مسح جيولوجي أولي يشير إلى وجود نفط ويورانيوم في دارفور. وهكذا كشف السر عن التحول المفاجئ لوحوش الأرض إلى ملائكة للرحمة.

 

لقد بدأ الإعلان عن الصراع في تلك المنطقة القاحلة في أوائل عام 2003، حينما بدأت مجموعة متمردة مهاجمة أهداف حكومية، حيث زعمت أن حكومة الخرطوم قد أهملت المنطقة. وجاء في معرض دفاع المتمردين عن أنفسهم أن الحكومة المركزية تقمع الأفارقة السود لصالح العرب، وتاريخيا شهدت العلاقات بين العرب والأفارقة في تلك المنطقة توترات بسبب الأرض وحقوق الرعي. وقد برز بين المتمردين حركتان تنسقان الآن فيما بينهما، هما جيش التحرير السوداني، وحركة العدل والمساواة.

 

وفي مواجهة هذا التمرد، تتهم الحكومات الغربية ومجموعات المتمردين الحكومة السودانية، بأنها قامت بتعبئة ميليشيات عربية تركب الخيل والجمال، تعرف بالجنجويد، للتعامل مع حركة التمرد. وتعد تلك الميليشيات بالآلاف. وتدعي الإدارة الأمريكية والقوى المتحالفة معها، أن الجنجويد يقومون بالحرب ضد المتمردين، بالنيابة عن الحكومة المركزية، حيث تشن هذه المجموعات هجمات على القرى والبلدات، بشكل منظم، بعد وقت قصير من قصف الطائرات الحربية الحكومية لها.

 

وتتهم مجموعات حقوق الإنسان، المؤيدة من قبل الغرب، ميليشيات الجنجويد بانتهاكات عديدة من قتل ونهب وعمليات اغتصاب جماعية للسكان غير العرب في دارفور، وتقول إنها تقوم باختطاف النساء، واستغلالهن كرقيق أبيض، وإطلاق سراحهن بعد قضاء وطرهم بهن. وتروج الإدارة الأمريكية أيضاً أن الجنجويد يرتكبون عمليات إبادة جماعية ضد السكان الأصليين. وتنفي الحكومة السودانية سيطرتها على ميليشيات جنجويد. وفي هذا الصدد، وصف الرئيس عمر البشير تلك الميليشيات بأنهم مجرد “لصوص وقطاع طرق”.

 

تلك مقدمة لا بد منها للحديث عن جذور الأزمة وأسبابها، والدوافع التي حركتها، وتأثيراتها على السودان، ومستقبل الأمن العربي الجماعي.. وهي مواضيع لا شك أن تناولها مهم جدا بالنسبة لنا نحن العرب جميعا، وبخاصة دول الجوار، ومنها البلدان التي تشاطر السودان في الإطلال على البحر الأحمر، وهذا ما نعد بتناوله في الحديث القادم بإذن الله.

 

yousifsite2020@gmail.com

 

 

د. يوسف مكي

تاريخ الماده:- 2004-08-04

التعليقات

 

2020-05–0 3-:01

حبيب حنان من لبنان

استاز مكي مقالتك كتير جميلة لما تتكلم عن الجسد في السودان وخصوصي لما تقول نقاوم وهناك رغبة ونواميس ومظلوم لانه حبلى كمان عشوائي في الاختطاف وخرطومه طويل ياسلام ، ملائكي لاكنه متمرد … بحب مقالاتك كتير كتير حلوه وبتجنن

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

خمسة عشر − 11 =


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.

د.يوسف مكي