أزمة حكومات وحدة وطنية!
يبدو أننا في هذه الأيام أصبحنا نعيش موسما سياسيا عربيا جديدا، عنوانه حكومات الوحدة الوطنية. فهناك حوارات ومطالبات ومباحثات وصراعات تجري في عدد من الأقطار العربية، بضمنها العراق وفلسطين ولبنان وموريتانيا والصومال، محورها المطالبة بتشكيل حكومات وحدة وطنية، للخروج من الأزمات التي تمر بها تلك البلدان.
في العراق، الذي تمر فيه إدارة الإحتلال بأسوأ أزماتاتها، تطرح الإدارة الأمريكية حكومة الوحدة الوطنية، كسبيل للخروج من النفق المظلم الذي وجدت نفسها سجينة به، بعد فشل مشروع الفيدرالية، القائم على المحاصصات الطائفية والإثنية، وارتقاء فعل المقاومة العراقية، في مواجهتها العسكرية لجيش الإحتلال إلى المستوى الذي أصبح يستثير ذاكرة هزيمة فيتنام، حسب تعبير الرئيس الأمريكي، جورج بوش. والغريب في الأمر أن الإدارة الأمريكية التي قامت بحل الجيش العراقي، ورفعت شعار اجتثاث البعث، هي نفسها التي تطرح شعار حكومة الوحدة الوطنية الآن.
في فلسطين، حصدت حركة المقاومة الإسلامية (حماس) غالبية المقاعد في البرلمان الفلسطيني، وأنيط لها بمهمة تشكيل الحكومة، وتولى السيد إسماعيل هنية رئاسة الحكومة. ومنذ تلك الفترة، فرض الكيان الصهيوني، والولايات المتحدة الأمريكية والدول المؤيدة لسياستها حصارا قاسيا، على الضفة الغربية، وقطاع غزة، وتطرح الآن حكومة الوحدة الوطنية كوسيلة لإرضاء إسرائيل والإدارة الأمريكية، وإقناعهما برفع الحصار المفروض على الشعب الفلسطيني، بعد إبعاد حركة حماس عن الواجهة السياسية لإدارة شؤون البلاد.
أما في لبنان، فإن الوضع يكاد يكون مختلفا، هنا نرى انقساما لبنانيا واضحا بين فريقين: فريق الأغلبية البرلمانية، ويعرف بفريق الستقبل أو تيار 14 آذار/ مارس، ويتشكل من رئيس الوزراء اللبناني، فؤاد السنيورة، ورئيس الحزب التقدمي الإشتراكي، وليد جنبلاط، والنائب سعد الحريري، والسيد سمير جعجع. ويحظى هذا التيار، على صعيد الداخل، بتأييد البطريارك صفير، وفي الخارج بتأييد الإدارة الأمريكية وبعض الدول العربيةِ. أما التيار الآخر، فيضم مجموعة من الاحزاب والقوى السياسية، يأتي في مقدمتها حزب الله بزعامة السيد حسن نصر الله، والحليف لسوريا وإيران، والتحالف الوطني الحر، برئاسة العماد ميشال عون. وكان عون رئيسا مؤقتا للجمهورية في نهاية الثمانينات، حتى عام 1990، حين أطاح به الجيش السوري، وتم نفيه إلى فرنسا، وتياره ليس ممثلا، حتى هذه اللحظة، في البرلمان، وتيار المردة بزعامة سليمان فرنجية. كما يضم التحالف أيضا عددا من التيارات القومية واليسارية والمستقلة. والخلاف بين الفريقين قائم حول عدة قضايا استراتيجية، بضمنها موقف تيار المستقبل من الحرب الأخيرة مع الكيان الصهيوني، حيث اعتبر حزب الله مسؤولا بشكل مباشر عن إشعالها، واتهموه بتعريض اقتصاد لبنان واستقلاله للخطر، في حين يتهم حزب الله والقوى المتحالفة معه، فريق المستقبل بالتواطؤ مع مشروع العدوان، والتخاذل في مواجهته. ويتركز الخلاف أيضا، حول قراري مجلس الأمن الدولي رقم 1559، و1701 حيث يرى فريق المستقبل في القرارين مكسبا للبنان، وأنهما يضمنان رعاية دولية لمحاسبة الذين اقترفوا جريمة اغتيال السيد رفيق الحريري، وأيضا لحماية استقلال لبنان، بينما يرى الفريق الآخر، في ذلك قبولا بالوصاية الأمريكية، وتعريضا لأمن لبنان، ومحاولة لعزله عن محيطه الحربي الإستراتيجي، وعن علاقاته التاريخية بسوريا. وهناك أيضا اتهامات أخرى، يشنها هذا الفريق للحكومة، كالفساد والضلوع في صفقات اقتصادية احتيالية، وعدم الإهتمام بشؤون المواطنين، والمهجرين. والحل من وجهة نظر هذا الفريق، هو استقالة الحكومة، وقيام حكومة وحدة وطنية، بينما يصر الفريق الآخر على شرعية وجوده في سلم السلطة، مؤكدا أن البرلمان اللبناني هو الجهة الوحيدة التي تملك حق نزع سلطة الحكومة وإقالتها. وفي حمأة الصراع بين الفريقين، احتكم المعارضون إلى الشارع، ونزلوا إلى الساحات الرئيسية لمدينة بيروت. ويبدو أن الأزمة ليست مرشحة للحل في الأيام القادمة، وأن الأمور تتجه نحو التصعيد، ما لم يحتكم الفرقاء المعنيون بالصراع للغة الحوار، ويتوصلوا إلى حلول تكون مقبولة من الجميع.
في موريتانيا، أطيح قبل عام برئيس الجمهورية، معاوية ولد الطايع. وقد وعد العسكريون، إثر نجاح محاولتهم الإنقلابية، بإعادة السلطة إلى المدنيين خلال عام من استيلائهم على السلطة، ووفوا بوعدهم. ولكنهم تحولوا بدورهم قوة سياسية منافسة، جاء ت نتائج الإنتخابات لتضعهم، من حيث ثقل حضورهم، مع القوى التي كانت تعارض النظام السابق في كفة واحدة. والحديث الآن يجري عن احتمال قيام حكومة وحدة وطنية مكونة من أنصار الإنقلابيين العسكريين، والمعارضة، كمخرج للأزمة، وكحل لا مفر منه، يضمن مشاركة الكتلتين الفائزتين والمتعادلتين في قيادة الدولة.
في الصومال، يبدو أن هذا البلد سيستمر في أزمته، التي مضى عليها حتى الآن، ما يقارب العقدين. والواضح في الآونة الأخيرة، سيطرة المحاكم الإسلامية، على أراض واسعة من الصومال، بما يعيد إلى الذاكرة تجربة طالبان في أفغانستان. هناك اتهامات واسعة ومتبادلة بتدخل قوى خارجية مجاورة في شؤون البلاد، وربما كان ذلك الأمر صحيحا، لكن الذي لا مراء فيه، هو أن واقع الصراع والتمزق والتناحر بين أبناء تلك البلاد هو الذي يخلق أرضية ملائمة لتدخل القوى الخارجية، سواء كانت الدول الكبرى، كما هو الحال مع الإدارتين الأمريكية والفرنسية، أو الدول المجاورة كما هو الحال مع أثيوبيا وإريتريا. تطرح حدة الصراع عند بعض السياسيين الصوماليين حكومة الوحدة الوطنية، كحل وحيد للخروج من المأزق، وإعادة اللحمة وتحقيق الإستقرار وتسيير شؤون المواطنين في الصومال.
ما هو القاسم المشترك بين الحالات التي جرى استعراضها بشكل سريع، والذي جعل من تحقيق مطلب حكومات الوحدة الوطنية أمرا ملحا؟. الجواب الذي تقدمه لنا هذه القراءة أن جميع الأقطار التي أشير لها تمر بأزمات سياسية حادة، وأنه في معظم الحالات لا يجري الإحتكام إلى الدستور أو القانون، أو أن هناك ثمة دساتير ولوائح، لكنها فضفاضة في صياغتها، وتحتمل عددا من التأويلات والتفسيرات، بما يتيح لمختلف الغرماء الإدعاء بتمثيلهم للشرعية.
في غالبية الحالات التي أشير لها، هناك تدخلات كولونيالية، إو إقليمية أو محيطة، تجعل من الصعب على الفرقاء المتصارعين التوصل إلى حلول يقبل بها الجميع، وتصب في مصلحة الوطن بشكل مستقل، وبدون ضغوط خارجية. ولعل الصورة صارخة أكثر في حالتي العراق وفلسطين، وواضح بشكل نسبي في حالاات لبنان وموريتانيا والصومال. ففي العراق وفلسطين، هناك احتلال مباشر، وغياب حقيقي لسلطة الدولة. وفي كليهما أيضا، تصادم بالسلاح بين المحتل الأمريكي والصهيوني، والشعب المقاوم. والواضح أن تداعيات الأحداث في العراق، تبنيء بنهاية قريبة لوجود جيش الإحتلال الأمريكي، بما يجعل مطلب إيجاد الحلول السياسية السريعة للخروج من المأزق أكثر إلحاحا. أما في فلسطين، فيبدو أإن مشروع أولمرت يتطلب المزيد من هدر الوقت، والمزيد من المساومات، على طريق إهدار حقوق الشعب الفلسطيني، وتفريغ مطالبه في الإستقلال وإقامة الدولة المستقلة، على أرضه وترابه الوطني، من أي مضمون. في حالات لبنان وموريتانيا والصومال، هناك تدخلات خارجية واضحة، ولكنها لن تعيق أي عمل جدي لحل الأزمة، إذا حسنت نوايا الفرقاء المتصارعين، وغلبوا بصدق مصلحة أوطانهم. إن وعي مختلف الفرقاء، وصدق وطنيتهم، هما وحدهما اللذاين سيفوتان الفرصة على أطماع الطامعين، ويعيد الأمن والإستقرار والرخاء إلى تلك البلدان.
ومع الإقرار بدور القوى الخارجية، وأيضا بغياب القوانين والدساتير واللوائح الضامنة لتداول السلطة، وعدم الإنجرار وراء نزاعات وصراعات محلية، فإن الذي لا مفر من الإعتراف به، هو أن ضعف البنية الإجتماعية، وهشاشة هياكلها في تلك البلدان، وسيادة ثقافات تستند على المحاصصات الطائفية والقبلية، وتغلب المصالح الفردية على مصالح الجمهور، ويغيب فيها الدور الفاعل لمؤسسات المجتمع المدني هي التي أدت إلى حالات التصادم والإحتراب.
إن الديمقراطية الحقيقية، كما تبرزها الأدبيات السياسية، هي حاصل تراكم معرفي وحركة تاريخية، وتطور اجتماعي، ونضال إنساني، وتغيير في مراكز القوى الإقتصادية الفاعلة، ينتج عنه التوصل إلى صيغ توافقية، بين الشرائح الإجتماعية الرئيسية، تحكتم بموجبها إلى النظام، وينتج عنه، تدشين وقيام مؤسسات ومنظمات وأحزاب ودوائر مدنية، تشريعية، ودستورية وتنفيذية وصحافة حرة، تعبيرا عن ذلك التوافق.
إن تحقيق ذلك هو بالتأكيد، رهن لمسيرة إنسانية طويلة، هي وحدها، الضامنة لعدم اندلاع الصراع والإحتراب بين مختلف الغرماء، والإحتكام بدلا عن ذلك، إلى القوانين والدساتير. وهذا هو ما تؤكده لنا تجارب الدول الديمقراطية العربقة التي لا تشهد أبدا لغة حكومة الوحدة الوطنية، في دساتيرها قوانينها وأدبياتها.
إنها حقا لمسيرة طويلة للوصول إلى مرحلة لا يعود فيها مكان للحديث عن حكومة الوحدة الوطنية.. مرحلة نصل فيها إلى تحقيق صياغات حقيقية، دستورية وقانونية تضمن لنا تحقيق الأمن والسلم الإجتماعي، وتغلب مفهوم المواطنة.
إن ذلك منوط، على أية حال، بإرادة الإنسان، وقدرته على الفعل والإبداع والعطاء.
yousifsite2020@gmail.com
د. يوسف مكي
تاريخ الماده:- 2006-12-06
2020-06–1 2-:03
بهيجة مخلوق من المغرب
الأستاذ يوسف، تحية طيبة وبعد، ورد عن طريق الخطأ في افتتياحيتكم هذه أن التيار الوطني الحر بقيادة الجنرال ميشال عون غير ممثل في البرلمان اللبناني، والصحيح أن هذا التيار له 21 نائبا برلمانيا في المجلس النيابي اللبناني، و بذلك يعتبر نفسه أنه يمثل ما يفوق 75 في المائة من المسيحيين، فبه وجب الإعلام، ولكم كل التحيات.
2020-06–1 2-:03
علي الكاش من اليونان
استاذ يوسف كما عودتنا مقال مفعم بالحيوية والتحليلات الصائبة،واود ان اضيف لكم ان العراق يعاني من احتلالين احدهما منظور وهو الاحتلال الامريكي وهناك احتلال ايراني كان لفترة قريبة غير منظور والآن اطل من بابه الواسع بعد ان حمل عبد العزيز الحكيم رئيس ما يسمى بالمجلس لاعلى للثورة الاسلامية رسالة تساومية واضحة من محور الشر الى الشيطان الاكبر يعرفه بان ايران لها اليد الطولى في العراق ويمكن ان تساهم في حل مشاكل العراق بعد تقديم تنازلات امريكية بشأن ازمة الملف النووي الايراني؟ ان حكومة الوحدة الوطنية في العراق اكذوبة تتذرع بها حكومة كرزاي العراق في المنابر الدولية لكن على الارض لا وجود لها.. مع التقدير
2020-06–1 2-:05
salma al mohsen من السعودية – القطيف
العزيز د- يوسف
كم اتوق للوصول لهذه المرحلة اللتي لايكون فيهامكان للحديث عن حكومة الوحدة الوطنية.. واتمنى ان نصل لمرحلة تحقيق صياغات حقيقية.. للابداع والعطاء
يا صديقي … لك كلمات حقا تدفع للابداع والعطاء ادام الله ابداعاتك وسطورك الغنية بالتحليل المميز دائما وأضوائك المشعة بحقائق مثيرة للقاريء.. ومثرية لحصيلته السياسية…… كل الشكر لك والتقدير لكتاباتك الثمينة