أزمة حكومات وحدة وطنية

0 257

يبدو أننا في هذه الأيام أصبحنا نعيش موسما سياسيا عربيا جديدا عنوانه حكومات الوحدة الوطنية.فهناك حوارات ومطالبات ومباحثات وصراعات تجري في عدد من الأقطار العربية بضمنها،العراق وفلسطين ولبنان وموريتانيا والصومال محورها المطالبة بتشكيل حكومات وحدة وطنية، للخروج من الأزمات التي تمر بها تلك البلدان.

 

في العراق، الذي تمر فيه إدارة الاحتلال بأسوأ أزماتها، تطرح الإدارة الأمريكية حكومة الوحدة الوطنية، كسبيل للخروج من النفق المظلم الذي وجدت نفسها سجينة به، بعد فشل مشروع الفدرالية،القائم على المحاصصات الطائفية والإثنية، وارتقاء فعل المقاومة العراقية في مواجهتها العسكرية لجيش الاحتلال إلى المستوى الذي أصبح يستثير ذاكرة هزيمة فيتنام، حسب تعبير الرئيس الأمريكي جورج بوش. والغريب في الأمر أن الإدارة الأمريكية التي قامت بحل الجيش العراقي، ورفعت شعار اجتثاث البعث. هي نفسها التي تطرح شعار حكومة الوحدة الوطنية الآن.

 

في فلسطين، حصدت حركة المقاومة الإسلامية “حماس” غالبية المقاعد في البرلمان الفلسطيني، وأنيط لها بمهمة تشكيل الحكومة وتولى السيد إسماعيل هنية رئاسة الحكومة. ومنذ تلك الفترة فرض الكيان الصهيوني، والولايات المتحدة والدول المؤيدة لسياساتها حصارا قاسيا على الضفة الغربية وقطاع غزة. وتطرح الآن حكومة الوحدة الوطنية كوسيلة لإرضاء إسرائيل والإدارة الأمريكية وإقناعهما برفع الحصار المفروض على الشعب الفلسطيني، بعد إبعاد حركة “حماس” عن واجهة الإدارة السياسية لشؤون البلاد.

 

أما في لبنان، فإن الوضع يكاد يكون مختلفا.. هنا نرى انقساما لبنانيا واضحا بين فريقين: فريق الأغلبية البرلمانية، ويعرف بفريق المستقبل أو تيار 14 مارس، ويتشكل من رئيس الوزراء اللبناني، فؤاد السنيورة ورئيس الحزب التقدمي الاشتراكي، وليد جنبلاط، والنائب سعد الحريري، والسيد سمير جعجع، ويحظى هذا التيار على صعيد الداخل بتأييد البطريرك صفير، وفي الخارج بتأييد الإدارة الأمريكية وبعض الدول العربية. أما التيار الآخر، فيضم مجموعة من الأحزاب والقوى السياسية، يأتي في مقدمتها حزب الله، الحليف لسوريا وإيران، والتحالف الوطني الحر، برئاسة العماد ميشيل عون. وكان عون رئيسا مؤقتا للجمهورية حتى عام 1990 حين أطاح به الجيش السوري، وتم نفيه إلى فرنسا، وتياره ليس ممثلا حتى هذه اللحظة في البرلمان. وتيار المردة بزعامة سليمان فرنجية. كما يضم التحالف عددا من التيارات القومية واليسارية والمستقلة. والخلاف بين الفريقين قائم حول عدة قضايا استراتيجية، بضمنها موقف تيار المستقبل من الحرب الأخيرة مع الكيان الصهيوني، حيث اعتبر حزب الله مسؤولا بشكل مباشر عن إشعالها، واتهمه بتعريض اقتصاد لبنان واستقلاله للخطر. في حين يتهم حزب الله والقوى المؤيدة له فريق المستقبل بالتواطؤ مع مشروع العدوان، والتخاذل في مواجهته. ويتركز الخلاف أيضا حول قراري مجلس الأمن الدولي رقم 1559، و1701، حيث يرى فريق المستقبل في القرارين مكسبا للبنان، يضمن رعاية دولية لمحاسبة الذين اقترفوا جريمة اغتيال السيد رفيق الحريري، وأيضا لحماية استقلال لبنان، بينما يرى الفريق الآخر، في ذلك قبولا بالوصاية الأمريكية، وتعريضا لأمن لبنان، ومحاولة لعزله عن محيطه العربي الإستراتيجي، وعن علاقته التاريخية بسوريا. وهناك أيضا اتهامات أخرى، يشنها هذا الفريق للحكومة، كالفساد والضلوع في صفقات اقتصادية احتيالية، وعدم الاهتمام بشؤون المواطنين والمهجرين. والحل من وجهة نظر هذا الفريق، هو استقالة الحكومة وقيام حكومة وحدة وطنية، بينما يصر الفريق الآخر، على شرعية وجوده في سلم السلطة، مؤكدا أن البرلمان اللبناني هو الجهة الوحيدة التي تملك حق نزع سلطة الحكومة وإقالتها. وفي حمأة الصراع بين الفريقين، احتكم المعارضون إلى الشارع ونزلوا إلى الساحات الرئيسية لمدينة بيروت. ويبدو أن الأزمة ليست مرشحة للحل في الأيام القليلة القادمة، وأن الأمور تتجه نحو التصعيد، ما لم يحتكم الفرقاء المعنيون بالصراع للغة الحوار، ويتوصلوا إلى حلول تكون مقبولة من الجميع.

 

في موريتانيا، أطيح قبل عام برئيس الجمهورية، معاوية ولد الطايع. لقد وعد العسكريون إثر نجاح محاولتهم الانقلابية بإعادة السلطة إلى المدنيين خلال عام من استيلائهم على السلطة. ووفوا بوعدهم، ولكنهم تحولوا بدورهم إلى قوة سياسية منافسة. جاء الفوز في الانتخابات ليضعهم مع القوى التي كانت تعارض النظام السابق في كفة واحدة. والحديث الآن يجري عن احتمال قيام حكومة وحدة وطنية مكونة من أنصار العسكريين والمعارضة كمخرج للأزمة، وكحل لا مفر منه، يضمن مشاركة الكتلتين الفائزتين في قيادة الدولة.

 

في الصومال، يبدو أن هذا البلد سيستمر في أزمته التي مضى عليها حتى الآن ما يقرب العقدين. والواضح في الآونة الأخيرة سيطرة المحاكم الإسلامية على أراض واسعة من الصومال، بما يعيد إلى الذاكرة تجربة طالبان في أفغانستان. هناك اتهامات واسعة ومتبادلة بتدخل قوى خارجية مجاورة في شؤون البلاد، وربما كان ذلك الأمر صحيحا، لكن الذي لا مراء فيه هو أن واقع الصراع والتمزق والتناحر بين أبناء تلك البلاد هو الذي يخلق أرضية ملائمة لتدخل القوى الخارجية، سواء كانت الدول الكبرى، كما هو الحال مع الإدارتين الأمريكية والفرنسية، أو الدول المجاورة، كما هو الحال مع إثيوبيا أو إريتريا. تطرح حدة الصراع، عند بعض السياسيين الصوماليين، حكومة الوحدة الوطنية كحل وحيد للخروج من المأزق، وإعادة اللحمة وتحقيق الاستقرار، وتسيير شؤون المواطنين في الصومال.

 

ما هو القاسم المشترك بين الحالات التي جرى استعراضها بشكل سريع، والذي جعل من تحقيق مطلب حكومة الوحدة الوطنية أمرا ملحا؟. الجواب الذي تقدمه لنا هذه القراءة أن جميع الأقطار التي أشير لها تمر بأزمات سياسية حادة. وأنه في معظم الحالات لا يجري الاحتكام إلى الدستور أو القانون، أو أن هناك ثمة دساتير ولوائح لكنها فضفاضة في صياغاتها وتحتمل عددا من التأويلات والتفسيرات، بما يتيح لمختلف الغرماء الادعاء بتمثيلهم للشرعية.

 

في غالبية الحالات التي أشير لها، هناك تدخلات كولونيالية أو إقليمية أو محيطه تجعل من الصعب على الفرقاء المتصارعين التوصل إلى حلول يقبل بها الجميع، وتصب في مصلحة الوطن، بشكل مستقل وبدون ضغوط خارجية. ولعل الصورة صارخة أكثر في حالتي العراق وفلسطين، وواضحة بشكل نسبي في حالات لبنان وموريتانيا والصومال. ففي العراق وفلسطين هناك احتلال مباشر، وغياب حقيقي لسلطة الدولة. وفي كليهما أيضا تصادم بالسلاح بين المحتل الأمريكي، والصهيوني والشعب المقاوم. والواضح أن تداعيات الأحداث في العراق، تنبئ بنهاية قريبة لوجود جيش الاحتلال الأمريكي، بما يجعل مطلب إيجاد الحلول السياسية السريعة للخروج من المأزق أكثر إلحاحا. أما في فلسطين، فيبدو أن مشروع أولمرت يتطلب المزيد من هدر الوقت، والمزيد من المساومات على طريق إهدار حقوق الشعب الفلسطيني، وتفريغ مطالبه في الاستقلال وإقامة الدولة المستقلة على أرضه وترابه الوطني من أي مضمون. في حالات لبنان وموريتانيا والصومال، هناك تدخلات خارجية واضحة، ولكنها لن تعيق أي عمل جدي لحل الأزمة إذا حسنت نوايا الفرقاء المتصارعين، وغلبوا بصدق مصلحة أوطانهم. إن وعي مختلف الفرقاء وصدق وطنيتهم هو وحده الذي سيفوت الفرصة على أطماع الطامعين ويعيد الأمن والاستقرار والرخاء إلى تلك البلدان.

 

ومع الإقرار بدور القوى الخارجية، وأيضا بغياب القوانين والدساتير واللوائح الضامنة لتداول السلطة، وعدم الانجرار وراء نزاعات وصراعات محلية، فإن الذي لا مفر من الاعتراف به هو أن ضعف البنية الاجتماعية وهشاشة هياكلها في تلك البلدان، وسيادة ثقافات تستند على المحاصصات الطائفية والقبلية، وتغلب المصالح الفردية على مصالح الجمهور، ويغيب فيها الدور الفاعل لمؤسسات المجتمع المدني هي التي أدت إلى حالات التصادم والاحتراب.

 

إن الديموقراطية الحقيقية، كما تبرزها الأدبيات السياسية هي حاصل تراكم معرفي وحركة تاريخية، وتطور اجتماعي، ونضال إنساني وتغير في مراكز القوى الاقتصادية الفاعلة، ينتج عنه التوصل إلى صيغ توافقية، بين الشرائح الاجتماعية الرئيسية، تحتكم بموجبها إلى النظام ، وينتج عنها تدشين وقيام مؤسسات ومنظمات وأحزاب ودوائر مدنية، تشريعية ودستورية وتنفيذية وصحافة حرة تعبر عن ذلك التوافق.

 

إن تحقيق ذلك هو بالتأكيد، رهن لمسيرة إنسانية طويلة، هي وحدها الضامنة لعدم اندلاع الصراع والاحتراب بين مختلف الغرماء. والاحتكام بدلا عن ذلك إلى القوانين والدستور، وهذا هو ما تؤكده لنا تجارب الدول الديموقراطية العريقة، التي لا نشهد أبدا لغة حكومة الوحدة الوطنية في دساتيرها وقوانينها وأدبياتها.

 

إنها حقا لمسيرة طويلة للوصول إلى مرحلة لا يعود فيها مكان للحديث عن حكومة الوحدة الوطنية، مرحلة نصل فيها إلى تحقيق صياغات حقيقية، دستورية وقانونية، تضمن لنا تحقيق الأمن والسلم الاجتماعي، وتغلب مفهوم المواطنة… إن ذلك منوط، على أية حال، بإرادة الإنسان وقدرته على الفعل والإبداع والعطاء.

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

خمسة عشر − 7 =


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.

د.يوسف مكي