أزمة الدولة العربية

0 452

أزمة الدولة في الوطن العربي، هو العنوان الذي تصدر الندوة التي دعى لها مركز دراسات الوحدة العربية، بمشاركة مركز كارنيغي للشرق الأوسط، وبتعاون مع الجمعية العربية للعلوم السياسية. وقد عقدت في العاصمة اللبنانية، بيروت في الفترة من 10-11 من هذا الشهر، وكان لي شرف المشاركة فيها.

 

انطلقت فكرة الندوة من التسليم بأن الدولة العربية ومؤسساتها تعاني من أزمات عميقة ومتشعبة. وقد بلغت حدة هذه الأزمات مستويات تهدد بعجز دول عربية، وبحتمية انهيارها. ويعاني البعض الآخر،من خلل التوازن في العلاقة بين نخب الحكم والمواطنين، وغياب قبول الشعب بمؤسسات الدولة وأدائها، وتعاظم أدوار القوى الخارجية. والنتيجة المؤكدة، هي إعاقة التنمية وتعثر مساعي التحول نحو الديمقراطية وتآكل السيادة الوطنية وتفكك الدولة وتقطع أوصال المجتمع. وتأتي أحداث تونس الأخيرة، لتؤكد حدة أزمة الدولة العربية، والغضب الشعبي تجاه ممارساتها.

كان الإحساس بالقصور المعرفي والمفاهيمي في المؤسسات الأكاديمية لأسباب أزمة الدولة العربية، هو الذي حرض القائمين بمركز دراسات الوحدة العربية ومركز كارنيجي للسلام في الشرق الأوسط، لعقد ندوة لتفكيك أسباب أزمة الدولة العربية. فرغم أنه فمنذ التسعينيات من القرن المنصرم، بذلت جهة لدراسة قضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان، والحريات الأساسية، وانتهت للتأكيد البسيط على تعثر الأولى ونواقص الثاني واستمرار غياب الأخيرة، إلا أن معالجة أسباب الأزمة بشكل شامل لم يجر تناولها عربيا، حتى لحظة انعقاد هذه الندوة.

ومن هنا كان من الطبيعي أن تركز الندوة على تناول الروابط الناظمة بين نخب الحكم وحركات المعارضة، الحزبية وغير الحزبية، المدنية والدينية، ليس من أجل إعادة تأكيد ما هو مؤكد، عن هيمنة النخب وغياب الإرادة الإصلاحية، بل من خلال التركيز على دور منظمات المجتمع المدني، انطلاقا من التسليم بأنه كلما ارتقت المجتمعات العربية على سلم البناء المؤسسي، كلما تعاظمت قدرتها على فرض حكم القانون وتعميم مبدأ المواطنة المستند على الحقوق المتساوية وتهميش الكيانات الأولية المذهبية والعرقية والقبلية والطائفية، باعتبار ذلك من بديهيات التحديث.

ورغم توفر عدد من البحوث، بالمكتبة العربية، ذات العلاقة بدراسة أسباب ضعف المؤسسات العامة والمنظمات المدنية، وعدم قدرتها على الإضطلاع بالمهمات التحديثية التي يفترض فيها أداءها، والتي تناولت أسباب الأزمة، من خلال توصيف آليات الاختراق المذهبي والعرقي والطائفي للمؤسسات العامة ومنظمات المجتمع المدني، وتفريغ المجتمع من الجوهر التحديثي، والتركيز على فهم الظواهر الجزئية المشكلة للمشهد السياسي في الوطن العربي، كضعف السلط التشريعية والقضائية في مقابل تغول الأجهزة التنفيذية، إلا أن ذلك البحوث لم ترتب تطورا معرفيا ومفاهيميا يسمح بتجاوز طروحات الماضي حول أزمة الدولة العربية.

ولذلك شكل انعقاد هذه الندوة منعطفا رئيسيا، في العودة لدراسة الدولة، ومشروعها التحديثي، وفاعلية مؤسساتها الرئيسية. إن تعثر مسيرة التحول الديمقراطي بالبلدان العربية، هو أحد أوجه أزمة الدولة، في حين يتجلى الوجه الآخر في ضعفها، وتآكل شرعيتها. لقد بات وجودها مهددا في السودان واليمن، وكاد أن يفقد مضمونه ومعناه في لبنان والعراق. بينما توارى المشروع التحديثي في عدد من البلدان العربية، وتم اختطافه وتعطيله، من قبل عناصر فئوية وعشائرية في بعض الأقطار. وكانت النتيجة هي إخفاق الدولة الوطنية في إنجاز مهمة دمج قوى المجتمع وكياناته بإطار حكم القانون ومواطنة الحقوق المتساوية والتوزيع العادل للثروة، وتحقيق الأهداف التنموية، وتقديم الخدمات الرئيسية التي وعدت بها في قطاعات حيوية كالتعليم وفرص العمل والصحة والضمانات الاجتماعية.

إن كثيرا من عوامل الضعف العربي، والتحديات التي تواجهها الأمة، مردها إخفاق الدولة الوطنية. ففي اليمن، على سبيل المثال، تواجه الحكومة، تهديدا في الشمال والجنوب، من قبل حركات لم تعد تعترف بشرعيتها. وفي السودان تتمرد بعض الأقاليم على الخرطوم وتطالب بالانفصال، وفي لبنان تجري إدارة سياساته، بمحاصصات طائفية خانقة، بما يسهم في تآكل شرعية الدولة.

وكانت المقدمة، في سياق تحليل وتفكيك أسباب أزمة الدولة العربية، هو الانطلاق، من قراءة تاريخيتها، وظروف نشأتها، والعوامل التي تأثرت بها تلك النشأة. وقد جرى التركيز على الثنائيات التي حكمت السياقات التاريخية لنشأة الدولة الوطنية في البلدان العربية، وكيف أثرت حالات التقابل، كالسلطة في مقابل الدولة، والدولة الدينية في مقابل الدولة القومية، وشخصنة الدولة في مقابل النزوع نحو دولة المؤسسات وسيادة القانون، في تكريس الأزمة.

في هذا السياق، ميزت القراءة التحليلية لأزمة الدولة العربية، بين أربعة أنماط من الأزمات التي تواجه الدولة الوطنية العربية: خطر عجز الدولة وانهيارها، أزمة تراجع قدرات الدولة وغياب فاعليتها وشرعيتها المجتمعية، أزمة استمرارية الممارسات السلطوية وغياب الخكم الرشيد، وأزمات الاندماج والهوية المكرسة لانفصال المجتمعات عن دولها.

فيما يتعلق بخطر عجز الدولة وانهيارها، جرى تحليل حالات الصومال واليمن والسودان. فالتطورات الراهنة في هذه البلدان، تنذر بخطر انهيار الدولة، بسبب العجز عن ضمان الأمن والخدمات الاجتماعية والاقتصادية لأغلبية المواطنين، وتمرد مناطق مختلفة على السلطة المركزية بعد معاناة طويلة من التهميش الاقتصادي والسياسي والثقافي. ولا شك أن المحدودية الشديدة لموارد المجتمع الأساسية، وبشكل خاص المياه ومصادر الطاقة، والكثافة المتزايدة للسكان، والتدخلات الخارجية، الدولية والإقليمية، ومن تنظيمات عنفية كالقاعدة التي وجدت في بعض مناطق هذه البلدان، فضاءات مفتوحة لعملياتها، أسهمت مجتمعة في مضاعفة الأزمة. وكان التعبير الأوضح عن هذه الأزمة هو حصيلة الاستفتاء الأخير على انفصال جنوب السودان عن المركز.

هناك أيضا، أزمة الإندماج والهوية، وتعاني منها بعض المجتمعات عربية، حيث تتراجع قدرات الدولة وفاعليتها على نحو يفقدها شرعية الوجود. وتتركز هذه الأزمة في الغالب، بالمجتمعات، التي تتعدد فيها الأعراق والطوائف. ومثال ذلك، لبنان. وفي الحالات التي تسود فيها المحاصصات، تفقد الدولة قدرتها على الاضطلاع بإدارة موارد المجتمع الاقتصادية والاجتماعية لصالح المشروع الوطني، بعد استيلاء الطوائف والتنظيمات الرديفة لها على الوظيفة التوزيعية للدولة. في العراق، تفتقر أطراف اللعبة السياسية القدرة على الالتزام بقواعد الالتزام بالوحدة الوطنية، بما يجعل المخاوف مشروعة، ويطرح التساؤلات بشأن مستقبل الاندماج المجتمعي والدولة وشرعية مؤسساتها.

وهناك أيضا أزمة العلاقة بين الدولة والمجتمع، والاستعاضة بلسلطات أهلية وسيطة، لا تنسجم وظائفها، مع متطلبات الدولة الحديثة. إن أزمة هذه الدول، هي استعاضتها بالطائلفة أو القبيلة، كوسيط بينها وبين المجتمع، بديلا عن المؤسسات التشريعية وقوى الضغط والمصالح، المعترف بها بموجب القانون أو العرف.

وهناك أيضا، غياب العدالة الاجتماعية، ومؤشراتها المتمثلة في ارتفاع معدلات تراكم الثروة واتساع الهوة الفاصلة بين الأغنياء ومحدودي الدخل واستمرار التطور السالب لجهة معدلات الفقر والبطالة والتهميش، وأثر ذلك على شرعية الدولة وفاعلية مؤسساتها.

وأخيرا، وليس آخرا، مؤثرات المحيط الإقليمي والدولي في أزمة الدولة العربية. فالمؤكد أن تلك المؤثرات كان لها دور كبير، في إعادة صياغة الخارطة السياسية والمجتمعية للبلدان العربية. فعلى الصعيد الدولي، حدث تغير في “بناء القوة” في النظام الدولي منذ مطلع التسعينات، مع انهيار الاتحاد السوفياتي وانفراد الولايات المتحدة بموقع “الدولة العظمى الوحيدة” ثم ظهور أنماط جديدة للتعامل بين هذه الدولة والقوى الكبرى الأخرى وخاصة الصين وروسيا والاتحاد الأوروبي، من خلال بناء تحالفات جديدة، لمواجهة “أعداء جدد”. وقد كان من سوء طالع الوطن العربي، أنه أصبح هدفا في الاستراتيجات المعاصرة للدول الكبري، تحت شعار “محاربة الإرهاب”. أما على الصعيد الإقليمي، فقد استمر افتقاد “مركز الثقل” على المستوى العربي العام، وعدمّ تخلق بديل لـ “الدولة القائدة” التي سادت في الخمسينات والستينات من القرن المنصرم. وتضاعفت درجة الانكشاف للمنظومة العربية الرسمية أمام موجات الاختراق والتغلغل الأجنبي واحتلال العراق، وكذلك الخطر الإقليمي المرتبط بإسرائيل والتحديات المرتبطة بصعود الأدوار الإيرانية والتركية، وتراجع دور العمل العربي المشترك.

تلك كانت المقدمة، والقاعدة التي ارتكزت عليها أوراق وبحوث الندوة والمناقشات المكثفة التي أثيرت حولها. وهي مناقشات ثرية وعميقة، تستحق الوقوف عندها في أحاديث قادمة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

5 × 2 =


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.

د.يوسف مكي