أبداً لم يقولوا إنهم دعاة إصلاح
حفلت الأيام الماضية بمزيد من أعمال الإرهاب التي أخذت مكانها في بلادنا العزيزة، في حي الراكة بمدينة الخبر. وكالعادة كانت الضحايا مجموعة من المدنيين الأبرياء، وعدداً من رجال الأمن سقطوا أثناء تأدية واجبهم الوطني وسعيهم الدؤوب كي يوفروا لنا الأمن والاستقرار.
خصوصية هذه الحادثة أنها شملت تطورا في أساليب نهج العنف، حيث لأول مرة يتم احتجاز رهائن، وتضطر السلطات المعنية للاقتحام ويذهب ضحية للعملية عدد آخر. ولعل هذا التطور هو أحد التجسيدات العملية لعبثية أعمال الإرهاب التي تتعرض لها بلادنا وافتقادها لأي مبرر أخلاقي أو ديني أو وطني أو حتى سياسي.
فالمعروف أن حالات احتجاز الرهائن تتم لغايات محددة، ويقوم الخاطفون بتحديد مطالبهم. وبغض النظر عن مشروعية أو عدم مشروعية تلك المطالب فإن المعنيين بالشأن والجمهور معا، سيمكنهم من خلال تلك المطالب التعرف على أهداف وغايات المختطفين. في حالة حادثة احتجاز الرهائن بمدينة الخبر، لم تكن هناك مطالب أو غايات، اللهم إلا إذا كان زعزعة أمن المواطن وتهديد استقرار البلاد هو الهدف الأساس من هذه العملية.
ويبدو أن ما هو متوفر من معلومات، تطرح في بعض التسجيلات الصوتية في بعض الفضائيات العربية لقادة القاعدة، أو بعض البيانات التي تصدر على شبكات الإنترنت أن الهدف الحقيقي للعمليات هو المصادمة مع العصر. وهي مصادمة لن يكتب للجناة أن ينتصروا فيها لسبب واضح وبسيط، هو أنها ضد التاريخ ومناقضة لسنن التطور. ولأنها أيضا ضد البناء والتنمية، وضد المستقبل. ولم يحدث لي أن اطلعت على أي تصريح أو حديث أو خطاب متلفز لأحد هذه العناصر نادى فيه بتحقيق الإصلاح.
ومن هنا فإنني أعترف شخصيا بأن حفيظتي قد استثيرت حد الغضب بسبب بعض التعليقات التي وردت في فضائيتيي العربية والإخبارية وقد تابعتهما بشكل متواصل أثناء تغطيتهما المباشرة لحوادث الخبر. لقد أشارت تلك التعليقات إلى أن الإرهابيين كشفوا بفعلتهم الأخيرة عن زيف دعاواهم بالإصلاح، وأن وجههم الحقيقي انكشف أمام الناس. والواقع أنني حين سمعت ذلك لأول مرة، مررت عليه مرور الكرام، ولكنه بعد تكراره على ألسنة أشخاص مختلفين وفي أوقات مختلفة بدأ يستفزني. إن معناه، كما تنضح به العبارات التي قالها المعلقون، أننا كنا مخطئين فيما كنا نتصوره عن هؤلاء من قبل، وأنهم قد تكشفوا لنا الآن، والآن فقط، أنهم ليسوا دعاة للإصلاح. وهنا تكمن العلة.
ولعل مرد هذه التعليقات أننا عند محاكمتنا لأعمال الإرهاب، كنا نفصل بشكل ربما لا يكون متعمداً بين فكر الإرهاب وأسلوب ممارسته. وقد مارسنا جميعا تكتيكات خاطئة فيما مضى، وضعتنا في مواقف محرجة بسبب هذا الفصل. إن المحاكمة يجب أن تبدأ أولا للفكر الذي يشجع على الإرهاب ويحرض عليه. وهو فكر اخترق ثقافتنا ومشاعرنا ووجداننا، وجعل شرائح كبيرة من مجتمعنا تتعاطف معه حين كان يناهض المشروع الوطني في مصر في الأربعينيات، وحين تصدى لمشروع النهضة العربية في مصر وسوريا وعدد آخر من الأقطار العربية في الخمسينيات والستينيات. كان فكر الإرهاب وعناصره آنذاك يحظيان بإعجاب جعل من فكر الإرهاب منطلقا جهاديا ومن قادته روادا ومجاهدين. وكانوا يقومون بذات القتل والتخريب الذي يمارسونه الآن بحقنا، وإن كان ذلك بمستوى أخف حدة في القطارات وحافلات النقل ويتعرضون للمدنيين في حماة والقاهرة وأسيوط والمدن الجزائرية. ويعلنون تكفيرهم للدولة ويسفهون المجتمع، داعين إلى العزلة والابتعاد عن المدنية، ورافعين شعار المناوءة للفكر الآخر وانتقلوا إلى أفغانستان يمارسون النهج ذاته، وهتفنا لهم ونسي كثير منا أن القدس هي أولى القبلتين وثالث الحرمين، ومعتبرين كابل نقطة البداية، وربما النهاية في حركتهم. وكانوا يحظون بمباركة الرئيس القابع في البيت الأبيض باعتبارهم محررين لأفغانستان من الشيوعية. اليوم نحصد ما بذرناه، فيصدق علينا المثل على نفسها جنت براقش.
أستميح القارئ الكريم عذرا، فليس الهدف من هذه المقدمة استحضار التاريخ، ولا جلد الذات ولا حتى توجيه اللوم لأحد. فما حدث سابقا قد أخذ مكانه ضمن سياق تاريخي وموضوعي ليس من العسير فهمه. لكن اجتراح واقع الحال وتفكيك الظواهر أمران ملحان ومطلوبان لمعالجة الوضع القائم. إن الخروج من الأزمة يقتضي أول ما يقتضيه أن نتخلص من حالة الانفصام التي تعشعش في نفوسنا، فكثير منا للأسف يساند الإرهاب دون وعي منه، حين يقف في خندقه الفكري. حين نكون طائفيين وعشائريين وقبليين وحين لا نؤمن بالرأي الآخر وحين نرفض الحوار… وحين وحين، وكثيرة هذه “الحين” فإننا نمارس الإرهاب حتى إن كان ذلك عن غير عمد.
لا يمكن أن نحارب الإرهاب بالمتاريس التي ننصبها في الشوارع، بدليل أن تلك المتاريس كانت موجودة فعلا في بعض المناطق التي هاجمها الجناة، ومع ذلك تمكنوا من عبورها. لا بد من متاريس أخرى أقوى وأكثر منعة وحصانة، تعمل جنبا إلى جنب مع المتاريس التي ينصبها رجال الأمن الأشاوس، وتكون معضدا ومساندا لهم. تلك المتاريس تتمثل في وضع مصدات وخطوط حمراء على الفكر المنغلق المتزمت المتحجر، وفتح أبواب الحرية والاجتهاد، واحترام تعدد المذاهب والآراء. وبدون ذلك، ستبقى حالات الانفصام، بين استنكار صارخ لعمليات القتل والتخريب وبين انتماء متزمت للفكر المحرض على تلك العمليات.
وهنا تحضر من جديد الدعوة للإصلاح، وهي قضية يجب ألا نمل أو نكل من الحديث عنها. نؤمن بالإصلاح السياسي ونلتزم به ونجاهر دفاعا عنه، لأنه سلاحنا الأمضى والأقوى في مواجهة الإرهاب. إنه فكر يلتزم بوحدة الوطن وسلامته وأمنه واستقراره، ويلتزم بشرعية القيادة والسلطة فيه، ويجادل بالتي هي أحسن، منتهجا طريق الحوار السلمي والمتحضر. وقد بدأ هذا الحراك مدعوما بتوجيه وتشجيع من القيادة السياسية في البلاد، ولسوف يستمر إلى أن يحقق أهدافه.. مساهما في الانتقال إلى حالة أرقى من النماء والرخاء والاستقرار.
وعودة إلى البداية، قلت إن الربط بين الإرهاب والإصلاح قد استفزني، وشعرت بأنني والآخرين الذين يؤمنون بهذا الوطن وبقدراته على العبور من هذه الأزمة، والذين ينادون بالإصلاح السياسي وتطوير البلاد ويتوقون إلى مستقبل أفضل قد وضعوا في سلة واحدة مع دعاة الهدم والتخريب والقتل.
أبداً المخربون ليسوا دعاة إصلاح، والفارق كبير جداً بين المصادمة مع العصر، تحت شعار التمسك بتراث السلف الصالح، وبين تبني الإصلاح السياسي. وفي حديث سابق ميزت بين الاثنين فقلت إن فكر الإصلاح السياسي يهدف إلى التحرر والانعتاق والتعبير إيجابيا عن كل ما هو إنساني ونبيل.. إنه عمل واضح وبغائية محددة هي ترسيخ إنسانية الإنسان وحقه في الحياة الكريمة، وهو على هذا الأساس موقف يرفض الجمود والسكون والتكلس في التاريخ، وهو التحام بالعصر وليس مواجهة معه. والحياة هنا رحبة فسيحة، مليئة بمختلف الرؤى والأفكار والألوان الجميلة. إنه رغم التضحيات الجسيمة التي يضطلع بها يعبر بمنهجه عن عشق خالص للحياة، وتطلع بأمل كبير نحو مستقبل مشرق. في الجانب الآخر، يغيب لدى قوى الإرهاب برنامج العمل والإصلاح، وتسود الخزعبلات والدجل والخرافة، وتفتقد النظرة الموضوعية والموقف الرصين من الأشياء، ويغيب دور العلم الحق، وتسد الأبواب وتضيق مساحة الاجتهاد. والآراء هنا لا تحتمل الاختلاف، وبنفس المستوى، لا تحتمل تعدد الألوان بل تقتصر على الأبيض والأسود. وبدلا من الاندماج بالمجتمع والتفاعل مع تياراته يجري تكفير المجتمع بأسره، والتشجيع على العزلة عنه، تحت لافتة الهجرة عن الشرك والمشركين.. إنها مواجهة شاملة مع المجتمع والحاضر والمستقبل.
لا بد أن يشارك الشعب بأسره في المواجهة الوطنية للإرهاب. وأولى الخطوات هي أن نتخلص من حالة الانفصام، وألا ينتفي التمييز بين الإرهاب وفكره حينها يشارك الجميع كل من موقعه في عملية النهوض بالوطن من خلال برنامج رؤية لحاضره ومستقبله. وتلك هي المتاريس الحصينة التي تحقق الاعتراف الأصيل بعرفان الجميل لرجال الأمن الذين يقدمون أرواحهم فداء للوطن ومن أجل أن يحققوا لنا الأمن والرخاء.
يبقى أن نؤكد من جديد أننا نحن أبناء هذا الوطن المدافعين عن استقراره ومستقبله دعاة الإصلاح، وأن الذين يمارسون القتل والتخريب العمد، أبداً لم يقولوا إنهم من دعاته.
د. يوسف مكي
تاريخ الماده:- 2004-06-02